لاشكّ أن من أكبر النعم التي أنعم بها الله تعالى على بني البشر :
" نعمة الصبر والنسيان والتأقلم مع الواقع مهما كانت مرارته "
وبأن يقول المرء "قدّر الله وما شاء فعل !..."
لكن السؤال الذي يطرح نفسه مع ذلك هو :
هل بمقدور المرء بالفعل أن يتحلى بالصبر على كل ما يمرّ به من محن وأن ينسى معاناته تماماً ؟ ...
هل بإمكانه أن يمحو ذكراها المؤلمة من قلبه ومن ذهنه بأن يضع ستارة تحجب ذكرى تلك الأحداث مهما كان ما تركته من أثر في نفسه ؟...
وهل بإمكانه أن يفتح صفحة جديدة خالية تماماً من ذكريات الماضي؟؟
أليس الواقع الذي يفرض نفسه هو أن لابدّ أن يكون المرءفي حاجة إلى الكثير من الصبر ومن التصبّر للتأقلم مع الواقع المؤلم ولما قد يتعرض إليه من أحداث هامة كانت قد تسببت له بالكثير من المعاناة؟..
ألن يكون من المتعذر علينا أحياناً أن نمحوها من ذاكرتنا حتى مع مرور السنوات؟؟ فقد يمرّ وقت طويل وطويل جداً قبل أن تندمل الجراح التي سببتها والتي قد تظلّ تنزف كلما عاد المرء بذاكرته إليها...
نعم ! قد يتمكن المرء من ذلك عندما يكون سلاحه الإيمان بالله تعالى والرضى بمشيئته...
الحقيقة أنه ليس بإمكان أي منا أن ينسى تماماً ما يمرّ به من بعض الأحداث خاصة عندما يكون لها تأثيرها ودورها في تغيير مجرى حياته لأن البصمة التي تتركها لابدّ أن تظلّ تتسبب له بالمعاناة لكن ما نفعله هو أننا , مع مرور الزمن , قد نعتاد بالتدريج أو أننا بالأحرى قد نتأقلم مع الواقع الذي فُرض علينا, ولسبب واحد فقط هو :
الإيمان... والإيمان فقط ... الإيمان هو الذي يُقّوي ويُساند ... الإيمان هوالذي يُنزل السكينة على القلوب ويملأها بالرضى ...
وربما كان بإمكاني أن أشير أيضاً في هذا السياق إلى الفارق بين أن ننسى وبين أن نتناسى وأن نحاول التأقلم مع الكثير من الأمور , لكي نتصالح مع أنفسنا ,و لكي نتمكن بالتالي من الاستمرار في مسيرة الحياة...
فهل بإمكاننا دون نعمة الصبر أن ننسى من فقدناهم من أحب الناس إلينا ؟ لا... وألف لا بالطبع !... لكننا بالطبع نتقبّل مشيئة الله تعالى لإيماننا بأنهم قد أصبحوا في كنف أرحم الراحمين وبأننا سوف نلتقي بهم من جديد في عالم الخلود...
أليس الصبر والإيمان ما يجعل من يتعرض لويلات الحروب الجائرة ومن يعاني من نوائبها, ومن يجعل من قد يفقد فجأة حتى السقف الآمن الذي يعيش تحته ويضطر للتشرد ومن يفقد بالتالي حتى كرامته , أليسذلك الإيمان ما يجعله يستمر في الحياة ؟؟؟
هل بإمكان أي منا أن يحتمل آلام إصابته أو إصابة من يحبهم بمرض عُضال خاصة عندما يدرك بأنه ليس هناك أي أمل للشفاء منه , ما لم يتحلّى بالصبر وما لم يلجأ للتصبّر والاستسلام لمشيئة الله تعالى ؟؟؟
وهل بإمكان المرء أن ينسى ما قد يتعرض إليه من إهانة ومن إساءة إلى كرامته؟ لا بالطبع!... فلابدّ أنه سنظلّ يعاني من جرح الكرامة .,لكنه سوف يحاول أن يتناساها وأن يتصبّر إلى أن تتاح لنا فرصة ردّ كرامته لأن الله تعالى لابدّ أن ينصر من يتعرض للظلم ؟؟؟
ذاكرتنا سِجل يُدوّن فيه كل ما نمر به في حياتنا منذ اليوم الأول الذي تبدأ فيه حاسة الإدراك لدينا بالعمل بالتناغم مع مشاعرنا...
ذاكرتنا أشبه بجهاز حاسوب تمت بُرمجته بدقّة متناهية بقدرة الله تعالى بحيث يعمل بشكل لاإرادي على تصنيف ما نمر به من أحداث يومية بحسب أهميتها وبحسب ما يكون لها من تأثير في أنفسنا ., فهي تترك الأحداث العادية في زاوية مُهملة وتضع الأحداث ذات الأهمية في ركن بارز بحيث تعود إلينا وتبرز أمام أعيننا وتُحرك مشاعرنا باستمرار حتى لو حاولنا أن نتناساها ...
وبإمكاننا أن نقول أيضاً بأننا عندما نتذكر بعض الأحداث فهذا ليس فقط لأهميتها وإنما لما تركته من تأثير في أنفسنا سواء أكان ذلك التأثير سلبياً أو إيجابياً.
من هذا المنطلق لجأ أخصائيو الطب النفسي منذ بدء تطور هذا العلم , ومنذ تقبّل الكثيرون منا مبدأ أن يكون للعلاج النفسي فائدته وبأنه قد يُضاهي أحياناً فائدة العلاج بالأدوية , إلى معالجة بعض المرضى الذين يصابون بصدمات نفسية حادة تؤدي إلى فقدان توازنهم النفسي, إلى استخدام أسلوب الإيحاء في محاولة مسح ما تتركه بعض الصدمات النفسية في ذاكرة المرضى.
ومن هذا المنطلق أيضاً قد نشاهد العديد من الأشخاص ممن يحاولون النسيان بتعاطي المُسكرات أو العقاقير المخدرة , على الرغم من إدراكهم بأنه ليس لكل تلك الأساليب سوى تأثير مؤقت في تهدئة أنفسهم وفي تخفيف معاناتهم.
وبإمكاننا أن نستخلص مما سبق أن:
نعمة الصبر والتأقلم مع الواقع الذي ينطلق من إيمان المرء بالله تعالى ومن تقبّله لمشيئته هما وحدهما البلسم الشافي والعلاج الكافي لكل ما يمرّ به المؤمن من معاناة ومن نوائب...
الإيمان هو الذي يجعل السكينة تغمر قلب المرء , و هو الذي يجعل السلام يحلّ في نفسه وفي روحه ...
الإيمان هو وحده ما بإمكانه أن يحجب كل معاناة وراء ستارة بحيث تصبح مجرد ذكريات وحتى لو عاديها المرء أحياناً فسوف يكون ذلك بأقلّ من الشعور الكبير بالأسى وبأكثر من القدرة على النسيان والتأقلم مع الواقع...
الإيمان هو ما يجعلنا نشعر بأن هناك حكمة تكمُن خلف ما قُدّر لنا بمشيئة الله تعالى الذي يُسيّر الكون بحكمته ...
وكل ما نحتاج إليه لو أردنا التصبّر والنسيان أن نقول " قدّر الله ما شاء وفعل... "
وأن نعود إلى ما ورد من آيات كريمة في كتاب الله تعالى:
" والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس..."
"قد جعل الله لكل شيء قدرا..."
وكل ما علينا عندما نعجز عن التوصل إلى إدراك الحكمة من بعض أمور الغيبية التي تجعلنا نقف حائرين أمام ما قد نمرّ به من أحداث, هو أن نعود إلى سورة الكهف التي تبيّن حكمة الله تعالى في كل من :
خرق السفينة , وقتل الغلام البريء وإصلاح الجدار دون مقابل ...
وبالإضافة إلىكل ذلك فإن كل ما علينا لو أردنا أن نعيش بسلام هو أن نتقبل قدرنا وأن ننعم بنعمة الصبر وبنعمة النسيان ...
التدقيق اللغوي: حميد نجاحي.