ذبل شباب منى، منى التي كانت أشبه بزهرة تفتحت بين الأشواك.. فإن كانت الزهور تذبل عندما لا تلقى ما تحتاجه من عناية ومن انتعاش بالماء الذي هو عنصر الحياة؛ فإن المرء الذي لا يجد من يُشعره بإنسانيته، والذي يفتقد إلى من يمنحه الحنان الذي هو عنصر الحياة وغذاء الروح بالنسبة لبني البشر؛ يصبح أشبه بالزهور الذابلة...

لم تكن منى قد لقيت يوما ـ ومنذ طفولتها ـ ما يُغذّي روحها البريئة. كانت تشعر دوما بأنها عبء على عائلتها وبأنها الشخص الإضافي في تلك العائلة المؤلفة من عشرة أفراد، وبأن مجيئها إلى العالم ـ كان كما يُشعرها كل من حولها ـ كان شؤما على عائلتها.

كثيرا ما حاولت منى أن تفهم سبب ذلك النفور وعدم الاهتمام، لكنها لم تكن قد وجدت بين أفراد عائلتها من هو أو من هي على استعداد حتى للإجابة على تساؤلها؛ الذي ظلّ دوما ذلك السؤال المُبهم والأمر الغريب الذي رافق طفولتها المُبكرة، وإلى أن بلغت سنّ الرشد وإلى أن نضجت مداركها؛ حيث كان الأمر قد أصبح حينذاك جليا تماما أمامها.

كانت الابنة الأصغرَ سنا في عائلتها، كان ما تم إعلامها به هو أن والدها قد فارق الحياة وهو لا يزال في أوج الشباب، وبعد ولادتها بأشهر قليلة نتيجة لحادث سير أليم. كان قد ترك عبء تلك العائلة الكبيرة على عاتق والدتها التي لم تكن يوما قد تقبّلت قدرها، وأن وفاته قد جعلتها تُصبح عنيفة عصبية المزاج، وهو ما جعلها تقسو بشكل خاص على منى التي اعتبرها جميع أفراد عائلتها شؤما عليهم.

كان كل من أفراد تلك العائلة ـ منذ وفاة ذلك الوالد ـ قد بدأ يُعاني بطريقته الخاصة من فقدان من كان دعامة البيت. كان على الأخ الأكبر سنا أن يبحث عن عمل لتأمين سُبل العيش لتلك العائلة الكبيرة، وهو الأمر الذي جعله يتخلى عن حلم حياته بأن يُكمل دراسته وبأن يؤسس لنفسه مكانة اجتماعية مرموقة؛ وهو ما جعله يزداد حدة أكثر فأكثر، يوما بعد يوم، الأمر الذي انعكس على منى بشكل خاص...

وبذلك عاشت منى محرومة من الحنان الذي هو عنصر الحياة، وكانت ـ نتيجة للإهمال وعدم الاهتمام ـ قد نشأت ضعيفة البنية، كانت أشبه بزهرة صغيرة، لكنها كانت تذوي وتذبل يوما بعد يوم، فقد أصيبت بمرض استمر لسنوات، فطال علاجها وزاد العبء المادي الذي تواجهه العائلة...

كانت منى بعد شفائها قد أصبحت فتاة وصفها كل من حولها بالذكاء والوداعة، لكن ذلك لم يحمل عائلتها على أن تُشعرها يوما بأن لها مكانتها بين أفرادها، وظلّت تعتبرها الفرد الإضافي والفتاة التي كان قدومها شؤما على العائلة، وتُشعرها بعدم الحاجة إليها بينهم...

كانت ردّة فعل منى في البداية أن قررت أن تحاول إثبات وجودها بأي طريقة، وأخذت تسعى بكل ما أوتيت من ذكاء ومن مقدرة للتقرّب من والدتها ومن شقيقاتها وأشقائها لعلّها تجد منهم بعض الاهتمام.

كانت الخطوة الأولى أنها انتسبت إلى إحدى المدارس الليلية المجانية. تفوّقت وشهد لها أساتذتها بالذكاء؛ إلى أن حصلت على شهادة الدراسة الثانوية.

لكن كل ما جلبه تفوّقها هو المزيد من الحقد من والدتها وعلى الأخصّ من شقيقها الأكبر سنا، الذي كان قد اضطُر لترك الدراسة بعد أن أصبح المُعيل الوحيد لتلك العائلة. كما تعرّضت لغيرة شقيقاتها؛ حيث كانت أكبرُهن سنا قد اضطرّت للعمل في إحدى دور الخياطة، كما اضطرّت الأخت الأخرى للعمل في أحد المشافي الحكومية.

وبذلك لم تكن منى قد تمكنت من كسب محبة عائلتها على الرغم من أنها كانت تتعامل مع الجميع بكل محبة وتفان، إلى أن بدأت الشكوك تُساورها بأنها ليست الابنة الحقيقية لتلك العائلة التي نبذتها، وبأنها ربما كانت لقيطة، وبشكل خاص لأن شكلها ولون بشرتها كانا مختلفين تماما عن باقي الشقيقات والأشقاء.

بدأت تلك الشكوك تتزايد وتكبُر في ذهنها يوما بعد يوم، الأمر الذي جعلها تُهمل دراستها تماما، فبدأت الطالبة المثالية المُتميزة تتحول تدريجيا إلى مجرد إنسانة سيطر عليها الذهول، تبدو وكأنها تعيش في عالم بعيد كل البعد عن واقعها وعما يجري حولها...

ثم تحوّل ذلك الذهول بالتدريج إلى شعور بعدم المبالاة بكل من حولها وحتى بعائلتها، الأمر الذي جعل نفور عائلتها يتزايد. سألتها تلك الأم القاسية ذات يوم:

"ما الذي دهاك؟ ما الذي لا يعجبك ويدور في ذهنك؟ ألا يكفي أنك كنت نقمة على هذه العائلة؟"

ولم يكن بوسع منى بالطبع أن تجيب سوى بتنهيدة لم تحرك مشاعر والدتها؛ إلى أن سمعت بمحض الصدفة ما كان يدور من حديث بين والدتها وشقيقها الأكبر سنا، كانت تقول له:

"لم يعد بإمكاني احتمالها أكثر من ذلك!... ها قد بلغت سن الرشد وأصبح بإمكانها الاعتماد على نفسها!... ألا يكفي أنني احتملت وجودها في هذا المنزل طوال تلك السنوات وفاء للوعد الذي قطعته لوالدك وهو على فراش الموت؟؟... ألا يكفي أنني غفرت له خيانته لي بزواجه من تلك المرأة سرا؟؟ هل هناك من تتقبّل أن تعيش ابنة الزوجة الثانية بين أولادها؟؟... أنا كلما نظرت إليها أتذكّر تلك الخيانة. لو لم تكن والدتها قد توفيت في ذلك الحادث المشؤوم وهي برفقة والدكم لما تركتها في منزلي ساعة واحدة...".

كانت منى لدى سماعها تلك العبارات قد أسرعت بالدخول إلى غرفة السيدة التي كانت تعتقد لسنوات بأنها والدتها، وطلبت منها وهي ترتجف بنشيج كاد يكتم أنفاسها تفسير ما سمعته... حينئذ قامت تلك السيدة بصبّ جام غضبها عليها، وعبّرت عن كل ذلك الحقد والأسى الدفين الذي لم تكن قد استطاعت التغلب عليه طوال تلك السنوات بأن أعلمتها بالحقيقة... أعلمتها بتلك الحقيقة المؤلمة... بتلك الحقيقة المرّة، قالت:

"نعم، أنت لست ابنتي! أنت ابنة تلك الخادمة التي وافقْتُ على دخولها بيتي والتي تعاملت معها بكل محبة... و التي كان ردّها للجميل بأن خانتني! أنت ابنة تلك المُخادعة! أنت ثمرة تلك الخيانة!...لكن أتعلمين أن الله تعالى كان لها بالمرصاد؟ فقد توفيت في ذلك الحادث وحتى قبل وفاة زوجي بأيام.

كنت رغما عني قد قطعت عهدا لزوجي، الذي أحببته كثيرا، بأن أحتضنك مع أولادي لأنك كنت لا تزالين طفلة لا يتجاوز سنها بضعة أشهر، ولأن والدتك لم يكن لها أي أقرباء... كنت قد رغبت عدة مرات في أن يتم إيداعك في دار اليتيمات، لكن شقيقك هذا لم يكن قد وافق لأنه كان أيضا قد قطع عهدا لوالده بأن يتم احتضانك بين أولاده. هذا ما كنتِ تجهلينه، أفهمت الآن؟ أنا إنسانة!... أنا من البشر!... لذا ليس بإمكاني أن أنسى ولا أن أغفر... ليس بإمكاني أن أعتبرك ابنة لي"....

كانت تلك هي القطرة التي جعلت كأس معاناة منى يفيض... ويفيض... ويفيض بالألم والأسى ...

لكنها كانت على الأقل قد علمت بأنها ليست لقيطة كما اعتقدت، وبأنها ثمرة زواج شرعي. كما أدركت أيضا أن والدها الذي لم تكن قد رأته أو عرفته لصغر سنها كان بكل أسف السبب في كل معاناتها...

ومنذ ذلك اليوم كانت منى تجلس بصمت في الركن المُخصّص لها في ذلك البيت الذي لا يُسمح لها فيه حتى بأن تكون لها غرفتها الخاصة. انقطعت عن الدراسة وامتنعت عن الكلام وعن الطعام إلى أن قررت تلك السيدة بأنه لم يعد بإمكانها تحمّل وجودها في منزلها، واستطاعت إقناع شقيقها بأنها تعاني من عدم توازن نفسي، وبأن عليه إيداعها في مشفى للأمراض النفسية.

وكانت منى بذلك قد تلقّت الصدمة الأكثر قسوة. حُرمت من إنسانيتها ومن كل ما يمكن أن يربطها بالحياة، وحرمت من كل ما يربطها بتلك العائلة التي تخلّت عنها، على الرغم من صلة الدم التي تربطها بكل من شقيقاتها وأشقائها، واستسلمت لقدرها وأدركت أن كل ما بإمكانها هو أن تلجأ إلى الله تعالى وأن تتعايش مع وضعها الجديد.

مرّت بضع سنوات ثبت خلالها لكل من حول منى من أطباء ومن ممرضات أنها ليست مريضة، وأنها لا تعاني من عدم التوازن النفسي، وإنما هي فتاة مُستكينة طيبة هادئة لا تتسبب في أي مشكلات، وأن اعتزالها كان نتيجة معاناة طويلة ومن الحرمان من الحنان ومن المحبة، وأن علاجها الوحيد أن يتم إحياء الأمل في نفسها والأخذ بيدها لكي تُثبت جدواها وتشعر بأن لها مكانتها في هذا العالم... تم إيلاؤها المزيد من الاهتمام، وكانت قد وجدت في المُكلفة بالإشراف على المريضات ما عوّضها عما كانت تفتقر إليه من حنان. وجدت فيها الأم والصديقة التي وقفت إلى جانبها والتي شجعتها على متابعة دراستها، إلى أن ثبت للجميع ما تتميز به من ذكاء ومن استعداد للتجاوب مع مشكلات المريضات؛ وبذلك تم تكليفها بعد بضعة أشهر بالعمل كمشرفة على المريضات...

وهكذا استمرت الحياة واندملت الجراح، واستطاعت منى أن تواجه قدرها بكل رضى بفضل الله تعالى ثم بالمثابرة وبالإيمان، الإيمان الذي يشفي القلوب والذي يملأ النفوس بالسكينة. وعاد الأمل ينعش نفسها، وعادت تلك الزهرة الذابلة للتفتح من جديد...

 

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: أبو هاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية