يبادرني نفس السؤال في كلّ مرةٍ أستمع لحديثٍ عابرٍ لِـ "أجنبيّ" حديثُ عهدٍ بالإسلام؛ يتحدث عن القرآنِ بشغفِ الحبّ، يُجبرك بجمالِ وصفه أن تعيش معه اللذة في تلك الآية التي حفظناها عن ظهرِ قلب وكأننا نسمعها لأول مرة! كيف قاده قلبه لتلك الروحانية؟ وأي السّبل أوصلته إلى هنا؟
فأجدُ لُبّ الإجابة في أنه أعطى كامل الحرية لعقله في أن يتفكر فيما حوله دون قيود؛ فحمِلته إلى الحقيقة؛ رغم أنها أضلّته قليلًا عند مفترق الطرق!

فكان هذا النتاج؛
مقال: ضللتُ الطريق

.

.

.

 

جاءه طفله وقد أخذته الحماسة: من هو الله؟ وأين يكون؟ لمَ لا نراه؟ فيعبس وجهه ويجف ريقه: لا يجوز بُني اصمُت؛ لا يجوز، فيموت في الطفلِ السؤال، ثم إن مضى به العمر؛ وضلّ الطريق؛ يبكيه ذلك الأب بحسرة وقد بدى متعجبًّا: من أين له بهذا الفكر؟ ألم أربيه على هديِ النبي؟!

ماذا نتأمّل من طفلٍ كبُرَ على أنّ "الله"؛ لا أراه؛ ولا يحق لي تخيله؛ يجعلني في النار إن كذبت؛ وتكبرت؛ وشتمت؛ وآذيت... إلخ، والنار تشوي جسدي؛ وطعامي فيها سيشوي معدتي؛ ويذوب جلدي ليتجدد ويذوب ثانيةً؛ وفيها أوشك على الموتِ من شدة العذاب ولا أموت!

أما إن لم أفعل ذلك؛ فسيهديني إلى الجنة، وما هي الجنة؟
- الجنة هي ما لا يخطر على بالِ أحد.
* أريد تخيلها؟
- هي فوق كل التخيلات!

لماذا نربيهم على القيم السلبية ثم نحذرهم منها؛ ونطالبهم بالإيجابية؛ بل نجبرهم عليها؛ ومَن لم يفعل؛ فمصيره النار حيث لا فرار!

يجب عليه أن لا يتحدث مع الخادم؛ ولا يضحك مع من ليس "منه"، ويرانا نقسو التعامل مع العامل، ثم نفاجئه بـ "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، وماذا عن الكبر الذي أسقيناه إياه مذ كان في المهد؟!

أما كان من الأفضل أن نربيه على "من تواضع لله رفعه"؛ و"أحاسنكم أخلاقًا" ثم إن رأيناه قد ضلّ عن هذا الطريق؛ قوّمناه ونصحناه، وإن لزم الأمر؛ أرهبناه من الكبر؟!

ربما القليل مِنا مَن لم يتساءل: لماذا محمد -صلى الله عليه وسلم- دون كل البشر؟ لماذا وُجِبَ علينا حُبَّه؟ ولمَ لا ندخل الجنة إن أحببنا والدينا أكثر منه أو ربما مثله؟ فكبرنا وكبرت معنا هذه التساؤلات، لا أدري لمَ نوجب على الصغار حب من لا يرون ونوبخهم عند ترددهم؛ ونميت فيهم تساؤلاتهم؛ مخافة الكفر وعدم التأدب مع الله ورسوله؟

كيف لعقل طفلٍ في بداية رحلة اكتشافه في الحياة أن نجبره على أن لا يفكر؟! إن عقلية الطفل بحاجة إلى البراهين حتى يدرك، فلو بدأنا معه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ بالرمز لشخصٍ باسمه وتذكر مواقفه الإيجابية بأسلوبٍ يجذب فضوله ونخبره أن هذا الشخص العظيم يشتاق لرؤيته كثيرًا؛ ليسقيه من نهرِ الكوثر؛ ويرافقه في الجنة، ثم إن أحبه سيقوده الحب لمعرفته؛ وإن عرفه سيفعل ما يحب دون تردد، سيُسيّره الحب على الطاعة وسيحمله الخوف على أن لا يفعل ما لا يرغبه الحبيب.

إنّ هذه التربية تؤدي إلى بناء شخصياتٍ غير متزنة؛ تتمسك بأول إشارةٍ ترى فيها المنطق الذي قد غاب عنها، والمتأمل في حالِ الكثير منّا اليوم سيجد أثرها في بناء مسلمينَ يفتقدون حلاوة الإسلام.

فإن تأملنا نحنُ في حياتنا الروحانية سنجد أن علاقاتنا مع القرآن؛ قائمة على التوتر؛ تُبعدنا الفجوة بيننا وبين معاني الآيات؛ ويُدنينا الخوف من الهجر، وإن قرأنا؛ جهلنا معنى أحبّ الآيات لنا!

أما الصلاة؛ فبتنا نصليها مخافة تركها وعقوبة التخلي عنها، فتقوم بالواجب أجسادنا ونطلق العنان لأرواحنا أن تُفكر وتخطط لأعمال اليوم؛ وإن وصلنا إلى "الذين هم عن صلاتهم ساهون" يأتينا اليقين بأنه سيغفر لنا؛ أليس هو الغفور الرحيم! يقول غاندي: "في الصلاة؛ من الأفضل أن يكون لديك قلب بلا كلمات عوضًا عن كلمات بلا قلب"، ماذا لو جعلنا الصلاة علاقة روحانية نقدُم بها إلى الله؛ نُبحر في مقاصد العبارات؛ ونترنّم بتجويد الأحرف وترتيل الآيات؟ كم هو جميل أن نشدو بكلام الله أمام الله!

وسنجد أننا نتقن فنّ "شخصنة الأمور والمبالغة في سوء الظن٬ ولم يسبقنا بذلك أحد قط، إن رأينا الخطأ في شخصٍ كرهناه٬ تركنا الخطأ٬ و"نبشنا" عن ماضيه وحاضره٬ وحاربنا فكره ومبدأه٬ ولا بأس إن مسّ عدواننا أمور الدين. أليس هو مَن مثّل الدين! وإن أحببناه٬ جعلناه الملاك الذي حتى وإن زلّ٬ فلا مانع أن نصفّ له من الأعذارِ فوق ما يحتمل العقل! فالخطأ الذي يفعله صواب لا محال وربما واجبٌ علينا فعله!

نرى أحدهم يلقِ التحية؛ ونتجادل أيريد مصلحةً منا أم إغاظتنا؟ لمَ يلقِ التحية وهو يعلم أننا لا نطيقه! ونرى مَن دسّ السمّ في العسل وقصْد الإساءة واضح وجليّ٬ لكن إن أنكرناه سنجد من حسّن الظن به وأساء الظن بنا! أما كان من الأجدر أن نُجرّد الفعل عن الفاعل ونضعه تحت دائرة الحكم٬ بعيدًا عن التقديس؟!

إنّ مثل هذه النماذج هي من تُعظّم المسافة بيننا وبين غريزتنا الفطرية في أن نكون مسلمين مُسالمين؛ وربما تهوي بأطفالنا إلى اضطراب الفكرِ والإلحاد، فلنُعد لتلك القلوب ونزيل عنها شوائب الفكر؛ ونكون عونًا للصغارِ في البحث عن الحقيقة، ولنا في إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة في جمال التأمل الذي قاده إليها٬ فعندها سنجد الطريق.

النهاية
يريد -صلى الله عليه وسلم- أن يُباهي بنا الأمة؛ فهل كنا أهلاً لذلك؟

 

 

تدقيق: لجين قطب

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية