يظن كثير من الناس أن الكتابة حكر على أهل اللغة، والشعر من صناعتهم هم فقط، وأعني بأهل اللغة خريجي اللغة العربية على سبيل المثال، ومع أن التخصص مطلب مهم، غير أن الكثيرين تميزوا وبرعوا في مناشط لا علاقة لها بتخصصاتهم العلمية، وبعضهم برع بها وأجاد وليس لديه تخصص علمي أصلا، فأعطيكم مثالا: (المفكر والأديب والناقد عباس محمود العقاد)... لو قرأت في سيرة العقاد تجده لم ينتظم في مدرسة فوق الابتدائية، وإنما عمل على تثقيف نفسه بنفسه، فقرأ وكتب، وتعلم اللغة الإنجليزية أيضا، وكتب فأبدع في قصائد عدة، وفي قصة (سارة) كتب بطريقة لم يستطع مجاراته الكثيرون من أهل اللغة ذاتها...
والشاعر نزار قباني هو حقوقي في الأصل، وعمل في السلك الدبلوماسي حقبة من الزمن، ومع ذلك جاء بالعجب العجاب، وكذا الشاعر عمر أبو ريشة، لم يكمل دراسته الجامعية في اللغة الإنجليزية وقضى حياته سفيرا متنقلا لبلاده...
و القصّاص الدمشقي المعروف زكريا تامر صاحب قصة (النمور في اليوم العاشر) كان حدادا، وأحمد مطر لا تذكر الروايات أنه نال شهادات، إلا أنه انخرط للكتابة في صحيفة السياسة الكويتية مزامنة مع صديق عمره الراحل الفنان الفلسطيني ناجي العلي، وبعد مقتل العلي رحل مطر إلى لندن ومن هنا صار يرشق الحكومات العربية بأشعاره...
وعبد الرحمن منيف وهو روائي عراقي لأم سعودية، كان متخصصا في مجال النفط، وأبدع في ثلاثية (مدن الملح)، و(الأشجار واغتيال مرزوق)، و(عالم بلا خرائط)، وحنا مينا لم يصل للصف السادس الابتدائي وعمل حمالا في ميناء اللاذقية، وأبدع في رواياته كـ (الياطر)، و(مأساة ديمتريو)، و(الشيخ والبحر)...وهكذا...
وجبرا إبراهيم جبرا وهو شاعر ومترجم وناقد ورسام فلسطيني يحمل الجنسية العراقية، يكفي أن تقرأ له (صراخ في ليل طويل). وغادة السمان دكتورة في اللغة الإنجليزية، وروائية وشاعرة كبيرة ما زالت إلى اليوم تمطرنا بعباراتها الرشيقة في تويتر صباح مساء، ومن أجمل ما قرأت لها رواية(بيروت 85) وكنت طالبا في الجامعة آنذاك...
ونجيب محفوظ كان خريج فلسفة، وأبدع في رواياته التي ما زالت تغرق المكتبات، وإبراهيم ناجي كان طبيبا، وعندما تسمع قصيدته (الأطلال) من أم كلثوم تشعر بروعة كلماته، والهادي آدم كان مدرسا للغة الإنجليزية، فأبدع في قصيدة تعد من عيون الشعر العربي الحديث (أغدًا ألقاك)... وحبيب ثابت شاعر لبناني يحمل الدكتوراه في الطب البشري، كتب ملحمة شعرية بعنوان (عشتروت وأدونيس)، فأبدع فيها، وأدونيس خريج فلسفة أو علم اجتماع وله كتابات راقية، وعبده خال تخرج في العلوم السياسية وأبدع في رواياته ونال جائزة البوكر للإبداع العربي من حكومة الإمارات عن رواية (ترمي بشرر)، مع أنني أفضل له رواية (مدن تأكل العشب)، و(الموت يمر من هنا)
ومحمود سامي البارودي رجل دولة وحروب، فقد تولى رئاسة وزراء مصر في عهد سابق، وكان شاعرا مفوها، وغازي القصيبي درس العلاقات الدولية حتى حصل على الدكتوراه فيها، وشغل عدة مناصب حساسة، فكان وزيرا للعمل في آخر مناصبه،
وشاعرا وروائيا مبدعا في الوقت ذاته...
واليوم في ظل ما ننعم به من وسائل التقنية الحديثة، يمكن لأي إنسان أن يبرز في مجال ما دون الحاجة لأي شهادات أو مؤهلات... وأرجو ألا يفهم من مقالي هذا أن المؤهلات العلمية غير مطلوبة، وإنما هي ورقة لطلب العيش فقط...ل ا للإبداع، فصاحب الشهادات والمؤهلات إن اكتفى بشهاداته، لم يقدم شيئا، ومن لا يملك الشهادات إن طور نفسه برز وقدم الكثير والكثير...
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.