في معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام، حضرت متأخرا قبل إغلاقه بيومين تقريبا، ولأنني لا أستطيع شراء الكتب بسبب تكلفتها العالية، وثمنها الباهض، ولأنني لم أستطع أن أوثق العلاقة بين زوجتي والكتاب، فأذكر آخر مرة انتقلت فيها إلى بيت جديد كم تذمرت زوجتي بسبب مكتبتي الصغيرة، حتى اضطرتني للتخلص من بعض الكتب فيها بأساليب شتى فوزعت بعضها على الحلاقين، وبعضها الآخر وضعته في صناديق إعادة تدوير الورق، وأهديت بعضها لأصدقائي على مضض منهم؛ إذ لم يعد الكتاب هدية مناسبة...
المهم أنني كنت بصحبة أبنائي الذين يشدونني إلى ركن الألعاب والقصص الملونة وعلى الرغم من محاولاتهم الكثيرة عمدت كعادتي إلى زيارة ركن أو جناح وزارة الثقافة السعودية، والذي سنّ سنة حسنة تحسب له، وهي توزيع الكتب بالمجان تشجيعا للقراءة وتشجيعا للكتابة والتأليف، ومع أن كثيرا منها بسيط جدا من حيث كونه يندرج تحت لون من ألوان الأدب، إلا أنني وجدت في كتاب (العربية في اللغات العالمية) وهو من إصدارات مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي بمبادرة من شركة أرامكو السعودية... ما أثلج صدري وقرأت في قطعه المتوسطة البالغة قرابة الستين صفحة ما بعث في نفسي الفرح والسرور.
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر انتشار اللغة العربية، إذ كانت غير معروفة فبدت فجأة في غاية الكمال سلسة غنية كاملة، ليس لها طفولة ولا شيخوخة، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها" إرنست رينان/ مستشرق فرنسي
تعقّبت جذور لغتنا العربية فرأيتها ضاربة في القِدم راسخة الكعب حتى في اللغات الأخرى وذات تأثير عميق يتجاوز حدود الزمان والمكان، وقدّم الكتاب مقارنة بين اللغة العربية وثمان لغات أخرى، هي:
الإيطالية، والإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والتركية، والفارسية، بالإضافة إلى لغة باهاسا أندونيسيا... ليؤصّل التداخل الوثيق، ووشائج العلاقة بين العربية وسائر اللغات الحية.على مبدأ المثل الشامي القائل: (في كل عرس لي قِرْص)
وإنك لتعجب عزيزي القارئ من تغلغل المفردات العربية في أصول تلك اللغات الحية مثل لُحْمة الثوب في نسيجه، وتخيل معي -وستصاب بالدهشة كما أُصبتُ- أن عدد الكلمات العربية المستخدمة في اللغة الإسبانية ما يقارب (1500) كلمة ما زالت قيد التداول بين الناس إلى اليوم.
وأن عدد الكلمات العربية في اللغة الإيطالية قرابة (300) كلمة مازالت مستخدمة اليوم في إيطاليا.
وأن عدد الكلمات العربية في اللغة الفرنسية قرابة (400) كلمة ما زالت قيد التداول ومثلها في اللغة الإنجليزية أيضا.
كما أن عدد الكلمات العربية في اللغة الألمانية قرابة(200) كلمة ما زالت مستخدمة، ولعل أكبر عدد من الكلمات العربية يكمن في اللغات الشرقية كالتركية التي يبلغ عدد المفردات العربية فيها نحو (6000) كلمة، ويتجاوز هذا العدد ليصل إلى (8000) كلمة في اللغة الفارسية، وكذلك الحال في اللغة الإندونيسية(باهاسا إندونيسيا) قرابة (3000) مفردة متداولة إلى الوقت الراهن.
ولست هنا في معرض تعداد الكلمات العربية الواردة في تلك اللغات فهي بحاجة إلى معاجم وليس إلى مقالة مقتضبة كتلك التي أكتب.
ألا يثير هذا التداخل العجيب العجب في نفوسنا بأن لغتنا العربية لغة حية وخالدة، وتتمدد أيضا؟ وليصمت المتباكون على اللغة وأنها مرتبطة بالتخلف الفكري واللغوي مقارنة بالتقدم الصناعي الذي حققته الأمم الأخرى.
وقد صدر الكتاب بمناسب اليوم العالمي للغة العربية الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18/ ديسمبر من كل عام، والذي أقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
ولا يجب أن نشعر بالدونية لأننا لا نجيد اللغات الأخرى، كما لا نقف مكتوفي الأيدي حيال التطور الذي حققته الأمم الأخرى، ولنعلم جميعا أن اللغة للأقوى، اقتصاديا وعلميا وعسكريا أيضا، (إن القوي بكل أرضٍ يُتّقى)، وما ضعفنا كعرب بسبب لغتنا، فقد كانت يوما ما لغة العالم أجمع، وكان الآخرون يفتخرون أنهم يحسنون التحدث ببعض مفرداتها... ولتكن هذه المقالة نواة أو نقطة بداية لتعلم لغة أخرى على الأقل من غير العربية، وقبلها لنرجع فنقرأ لغتنا جيدا فإنَّ ممّا يندى له الجبين أن يغرد العرب في وسائل التواصل الاجتماعي بكلمات مبتورة، وحروف مقطعة تنم عن قلة فهم ودراية بلغة القرآن الكريم أم اللغات.
وأخيرا أقول: رحم الله الشاعر المصري حافظ إبراهيم حينما نعى اللغة بأبيات موجعة - ربما لا نتذكر اللغة العربية مع أننا نتحدث بها دائما- إلا من خلال تلك الأبيات التي جاء فيها:
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقا = مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناةِ
وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة = فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي
*
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.