الرصيد المعنوي من المُستغرب أن يكون كل ما يسعى إليه المرء, وكل ما يتلهف إليه طوال حياته هو الحصول على الثروة فقط ,وبأن التي يعتبر تلك الثروة وهي رصيده المادي ما سوف يضمن مستقبله ومستقبل عائلته وما سيؤمن له سُبل تحقيق ما يصبو إليه من رفاهية ومن راحة طوال الحياة. قد يختلف كل منا عن الآخر في أسلوب سعيه إلى تحقيق ذلك الرصيد المادي وقد نتباين في مدى تطلعنا وفي مدى تعلّقنا بمثل هذا الهدف, لكن ليس بإمكاننا بالطبع أن نُنكر بأن هناك دوماً في أعماق نفس كل منا الكثير من الرغبات ومن الآمال والطموحات التي ترتبط في تفكرينا بما يُحققه المال فقط. كفاح ونضال وتزاحم وسعي دائم قد يكون أحياناً سعياً مستميتاً يخوضه المرء طوال حياته لتحقيق هذا الهدف. تطلّع وسعي يبدأ حتى منذ سنّ الطفولة المُبكرة وهو بالطبع من الأمور الغريزية التي نلحظها حتى لدى أطفالنا , يتجلّى بحبّ الاقتناء وببهجة الحصول على الأشياء, وبالشعور بالحرمان عندما لا يحصل الطفل على ما لدى من حوله من رفاق اللعب أومن رفاق الدراسة. كما أن من الطبيعي أن تتطوّر مثل تلك الرغبات والطموحات مع مرور الوقت وبشكل خاص عندما يبلغ المرء سنّ الصبا والشباب, التي هي السنّ الأكثر اتقاداً بالرغبات والأكثر تعلّقاً بالآمال والأكثر سعياً لتحقيق الطموحات. ومن ناحية أخرى مما لاشكّ فيه أيضاً أن آمال وطموحات المرء لابدّ أن تتضاءل بمرور الزمن , وبإمكاننا أن نقول بأنها لابدّ أن تُصبح على الأرجح أكثر اعتدالاً ونُضجاً, وحتى أنها ,عندما يتقدم المرء بالسن , قد تقتصر على أمور بسيطة بحيث يصبح ما كل ما يسعى إليه وما يتمناه هو الراحة والسكينة فقط. ومع ذلك فإن الحقيقة الأبدية التي يعرفها كل منا هي أن محبة المال لابدّ أن تظل سائدة في نفس المرء في جميع مراحل الحياة وحتى عندما يتقدم بالسنّ., وليس على المرء أن يُنكر أو أن يتنكّر لما فُطر عليه بنو البشر من التطلّع إلى حياة الرفاهية التي تُحققها الثروة, وبشكل خاص مع هذا التطور المُتسارع في مختلف جوانب حياتنا ومع ما نشهده يومياً ,من وسائل حديثة ومن تقنيات متطورة أصبحت تؤمنها الحضارة ما أتاح لنا العديد من وسائل الرفاهية, وما أصبح يحفزّنا على المزيد والمزيد من السعي للحاق بركب ما تؤمنه هذه الحضارة الحديثة.
لكن يبقى السؤال الذي لابدّ أن يطرح نفسه وهو : ماذا عن الرصيد المعنوي للمرء؟ ماذا عما على المرء أن يسعى لتحقيقه من رصيد معنوي ؟. والإجابة التي تطرح نفسها أيضاً هي أن الرصيد المعنوي الذي يكمُن بما يتميّز به المرء من مِصداقية ومن أخلاق حميدة ومن شعور إنساني ومن استعداد للعطاء ,هو الثروة المعنوية التي تجعل المرء يكسب تقدير واحترام وثقة من حوله ,حتى لولم يكن من أصحاب الثروات وحتى لو لم يكن من ذوي المكانة الرفيعة., وفي كثير من الأحيان قد يكون هذا الرصيد أيضاً هو الوسيلة لتحقيق ما يتطلع إليه من رصيد مادي ؟. قد تضيع ثروة المرء التي يعتبرها رصيده المادي بين يوم وليلة , لكن رصيده المعنوي يظلّ الدعامة التي بإمكانه الاستناد عليها لكي يبدأ من جديد ولكي يبني أو لكي يسترد من جديد ما أضاعه. فلو فقد أحد الأثرياء أمواله فإن ما لديه من رصيد معنوي بما كان في حسن تعامل ومن مصداقية وتواضع, وبما كان يقدمه لمن حوله من أعمال البرّ والإحسان , لابدّ أن يضمن له الحفاظ على احترامهم وعلى مودتهم., أما لوكان من سيئي التعامل ومن المُتكبرين فسوف تزول هالة الاحترام والتقدير التي كان مُحاطاً بها بمجرد خسارته للرصيد الوحيد الذي كان يمتلكه والذي هو رصيده المادي. فحتى لو تغيّر الوضع الاجتماعي لمن كان قد حصل على المكانة الاجتماعية الرفيعة , وحتى لو خسر أحد الأثرياء أمواله فإن رصيدهما المعنوي من حسن تعامل سوف يجعلهما يحافظان على مكانتهما وعلى احترام وعلى تقدير من حولهما. فلو تعرّض أحد التجار لظروف تسببت في إفلاسه ,فإن ما لديه من رصيد معنوي ومن استقامة ومن حسن تعامل ,لابدّ أن يجعل عملاؤه يستمرون بالتعامل معه , وهو أيضاً ما سيُشجع من حوله على المبادرة بمساندته وعلى تقديم المساعدة إليه لما لديهم من رصيد الثقة به وهو ما سيُتيح له البدء من جديد.. الرصيد المعنوي والصيت الحسن هما صمام الأمان بالنسبة لكل منا , وهما اللذان يصون المرء واللذين يحميانه من نوائب الدهر وهما ما يحافظان له على كرامته. أثمن الكنوز هو الصيت الحسن فإن زال لم يكن الإنسان سوى خزفاً مدهوناً. وأما عن التواضع والتكبّر فكما يُقال: التواضع يُشجع الآخرين على معرفة قيمة المرء ومكانته من تلقاء أنفسهم. لذا كان التواضع دوماً الصفة المُقدسة لجميع الأنبياء والرسل, كما كان ما يتميّز به أعظم الرجال في التاريخ. ومما لاشكّ فيه أن من الفضيلة أن يتواضع المرء مهما بلغ من مكانة اجتماعية رفيعة, ومهما تحقّق له من نفوذ , ومهما حصل عليه من ثروة, ومهما كانت لديه من صفات خَلقية ومن جمال شكل لأن جمال الروح والخُلق هو الجمال الحقيقي. من المُفترض أن يكون تقديرنا للأشخاص بالاستناد إلى ما يتميزون به من مِصداقية ومن صفات أخلاقية حميدة ومن نبل المشاعر الإنسانية. لكن لابدّ أن نشير إلى أن من المؤسف أن يكون للمجتمع أحياناً دوره في تشجيع البعض على التخلّي عن صفة التواضع ,فكثيراً يكون تقديرهم لهم مرتبطاً بمكانتهم الاجتماعية وبمنزلتهم الرفيعة وبما لديهم من نفوذ , أو بما يمتلكونه من ثروة. وبذلك كثيراً ما يُؤدي ما يلقاه المرء من تزلّف ومن مُداهنة ومن تملّق إلى أن يُقيّم نفسه بأكثر مما يستحق ما يؤدي بالتالي إلى شعوره بالتفوّق وإلى التفاخر الذي يقود إلى التكبّر. ولا يعني هذا بالطبع ألا يعتّز المرء بنفسه وبكرامته وإنما بألا يصل إلى مرحلة التكبّر والتعجرف أو للشعور بالتفوّق على الآخرين. على المرء مهما كانت نظرة المجتمع إليه, أن يتمسك دوماً بتلك الميّزة المقدسة صفة التواضع مهما بلغ من رفعة, ومهما كان له من نفوذ ومن مكانة اجتماعية مرموقة , ومهما كان لديه من ثروة., وبأن يتذكر بأن كل ما يُحاط به من هالة الاحترام والتقدير قد يزول بأسرع ما يتوقع. فلو تأمّل كل منا بما حوله لوجد بأن الله تعالى قد أنعم على كل مخلوق بما يُميّزه من صفات قد تَخفى على عين الشخص الذي ينظر نظرة سطحية إلى الأمور., وبأن لكل شخص أيضاً نقاط ضعفه ونقاط قوته. فقد يفتقر من يمتلك الثروة إلى ما هو أثمن ما في الوجود ألا وهي نعمة الصحة والمقدرة البدنية., ما يجعل أي رجل ثري يمتلك الملايين ينظر بعين الحسرة والحسد إلى ذلك الشخص المحدود الدخل الذي عليه أن يعمل وأن يكافح طوال اليوم لكسب عيشه, لكنه مع ذلك عندما يعود مساء إلى منزله المتواضع, ينام قرير العين ويشكر الله تعالى لأنه لا يُعاني من مرض عضال يمنعه من السعي لكسب قوت يومه., وهو ما يجعل ذلك الثرّي يتمنى تقديم كل ما لديه من مال لقاء استعادته صحته. وقد يكون لدى من لا يمتلك الثروة أثمن نعمة في الوجود ألا وهي نعمة الأولاد الذين هم زهور الحياة, بينما قد لا يُرزق شخص ثري بالأولاد ما يجعله يُغبط ذلك الشخص الذي عليه أن يكدح طوال اليوم بكل رضى لكسب عيشه ولتأمين قوت أولاده. وقد يصل شخص إلى مكانة اجتماعية مرموقة تمنحه السلطة والنفوذ تجعل كل من حوله يقدمون له آيات الولاء والاحترام ,لكن كل ما هو فيه من نفوذ قد يزول بين عشية وضحاها لو حدث وفقد تلك المكانة لمجرد تغيير مفاجئ في البنية الاجتماعية أو في البنية السياسية للمجتمع, فكم من ملوك خسروا عروشهم وسلطتهم بين يوم وليلة. فهل بإمكان من تتفاخر أو من يتفاخر إلى الأبد بما أنعم الله عليها أو عليه من جمال الشكل ؟ ألن تزول هالة الجمال مع مرور الزمن بينما يدوم جمال الروح؟ أليس على المرء أن يرتقي بسمو وبجمال الروح قبل تمسكه بما لا يدوم ؟.. ألن يتسبب أقل حادث قد يتعرض إليه المرء بزوال ما كان يُتفاخر به من جمال الشكل ما سيجعله بالتأكيد يبحث عما يُعوّضه عما فقده بالسعي إلى ترقيّة النفس لكي يكسب من جديد اهتمام من حوله؟ وكما قال الشاعر : "أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالشكل إنسان*** " علينا ألا ننظر نظرة تكبّر دونية مُتعالية إلى أي شخص قد لا يُحالفه الحظ بأن يكون من فئة الأشخاص الميسورين أو من أصحاب المكانة المرموقة والنفوذ. , ومن الأفضل أن يتصرف كل منا بتواضع في حالتي اليُسر والعُسر, وأن نتذكر دوماً بأننا قد نتعرض إلى ظروف غير متوقعة قد تؤدي إلى تغيير كل ما نحن فيه من مكانة وإلى خسارة كل ما لدينا من نفوذ ومن ثروة. وجاء في الحديث القدسي: " قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ" وجاء في الحديث عني النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تَسعوا الناس بأموالكم ولكن يَسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". وقال الله تعالى في كتابه الكريم: {... إن أكرمكم عند الله أتقاكم ...}. إذا أصبحت عزيزاً بعد هوان فلا تنس أيام فقرك وهوانك. واذا كنت جباراً نافذ الكلمة فلتسعى لأن تكون صالحاً لكي تحصل على احترام من حولك. وهناك مثل شعبي يقول: " نحن جميعاً متشابهون فنحن جميعاً أولاد التسعة أشهر. " علينا أن نُدرك بأن قيمة المرء تكمّن بما يتميّز به من فضائل ومن تواضع ,وبأن التكبّر داء من الأدواء الخطيرة التي قد تؤدي إلى الخسارة أكثر من الكسب. "اللهم إن أعطيتني نجاحاً لا تأخذ مني تواضعي. وإن أعطيتني تواضعاً لا تأخذ مني كرامتي واعتزازي بنفسي. " وأخيراً ربما كان علينا أيضاً في هذا السياق أن نُشير مع ذلك إلى أمر مؤسف قد يحدث في هذا العصر الذي تغيّرت فيه القِيم ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: "تُرى هل يُقدّر الناس دوماً الشخص المُتواضع ؟ وهل يولونه ما يستحقه من احترام ؟ أليس هناك من قد يعتبر أن تواضع المرء ضعف منه , أليس هناك من قد يعتبر بأن تواضع الشخص ربما كان لعيب أو لنقيصة فيه يُخفيها تحت ستار من التواضع؟ ومع ذلك فإن الإجابة التي تطرح نفسها بالطبع هي: أن على المرء أن يتمسك بأخلاقياته وفق القاعدة الأخلاقية التي أثبتت دوماً بأنه لا يصحّ إلا الصحيح. قال جبران خليل جبران : "أفضلّ أن أكون زهرة تدوسها الأقدام من أن أكون قدماً تدوس الآخرين."