الكتابة للطفل ليست غاية في حد ذاتها أو سبيلا لغاية، بل هي غواية عند الأديب المحب المجد، يقصدها الجامحون المولعون بلا تطلعات أو أهداف ذاتية، هم يتلذذون إذا كتبوا، ويستمتعون إذا انتهوا، لا يمنعهم بلاء ولا وباء، ولا قلة نشر أو انتشار، ولا مانع من الموانع من المضي قدما كالثوار، مؤملين النفس بجيل من الأحرار، يمشون بصبر وإصرار، ولا يملون الانتظار، حتى وإن لم يكن الحصاد الطيب سريعا وفيرا، وكانت الظلمة السخية على الدرب جاثمة والأنوار الساطعة ضعيفة باهتة.
الكلمة التي أكتبها أسعى لكي تكون منبر عطاء وبناء، لا آلة هدم وإفناء، فكم من شيء قدم للأطفال أساء وكم من نوايا صالحة أضرت أكثر من النوايا الطالحة. وأومن بأن على كاتب الطفولة المبدع أن يحصِّن نفسه ويعدها الإعداد الأمثل، ويتزوَّد بكثير من الأدوات حتى يقدر على ولوج الزمن واختراق المدى، وصولا إلى عالم الطفل الصغير. وتزداد خطورة وأهمية أدب الطفل حيث يقدم له عصارة فكره، ويلهم خياله بكرم وسخاء، ويبني مجد مستقبله بعيدا عن آفة الغلو والتعصب والكراهية والعنف والفساد.
وتشرفت خلال رحلتي الطويلة نسبيا في عالم أدب الطفل وإعلامه بلقاء عدد كبير من الكتَّاب المجيدين الذين تحمسوا كثيرا في بداية مشوارهم لأدب الطفل، بَيدَ أنَّ معظمهم كما تحمسوا؛ انحسروا مرة واحدة. ومنهم من آثر الابتعاد بهدوء دون صخب، ومنهم من هجر الأدب والإعلام كلية، ومنهم من يئس وتوجه لوجه أدبي وإعلامي آخر، لأسبابه الخاصة، أما أنا، فما زلت - كما بدأت - أحني رأسي تأدبا وإجلالا أمام سمو الطفولة ومكانتها، وكأني أسيرها.


وقد صادفت على الدرب الكثير من الأحبة؛ تساقط كثير منهم، ولم يتابعوا المشوار، أما الذين صمدوا فقليل ما هم، وأعتقد إلى حد بعيد أن الكتابة للطفل جزء من شخصية الكاتب.. والقصة الطفلية يجب أن تكون محور روح المؤلف، أما أن أكتب وأرص الحروف والكلمات بعضها خلف بعض، وأزين وألون دون غوص في أعماق نفسي فلن أكون جزءا من قصتي ولن تكون قصتي جزءا مني.
فالقصة عندي إن أعجبت كثيرا من الأطفال، ونالت ما نالت من الجوائز؛ تبقى قاصرة إذا لم تخرج من أحشائي. فالقصة عندي تشبهني كما يشبه الولد أباه وأمه. وكما أن الولد سر أبيه فإنَّ القصة هي أيضا سرُّ كاتبها. وأنا لا أعوِّل كثيرا على تنامي اهتمام المتابعين العابرين بالنص الأدبي، ولا بكثرة مديحهم وثنائهم، فكم من برامج ونصوص "هامشية" تعرض على المحطات الفضائية ويلتم حولها الملايين، وكم من كتابات على الأنترنت وفي الصحف والمجلات وهي في الحقيقة لا ترقى لتكون فنا ولا أدبا. فالعبرة عندي ليست بكثرة المتابعين؛ بل بجودة ما أقدمه. سواء أقبلته دور النشر أم لم تقبله، وسواء أفاز بجائزة أم لم يفز، لأن النص الطفولي الحي لا يحيا حقيقة ويخلد إلا إذا خرج من القلب ولم يدخل إلى الجيب.


وخلال دراستي لأدب الطفل في الجامعة في مراحلها المختلفة، وكذلك خلال قراءتي لكثير من كتب أدب الطفل وكتب التربية وكتب إعلام الطفل، لم أقتنع بكثير مما تورده هذه الكتب، وبالرغم من أني علمت في الجامعة مادة أدب الطفل، فإني لم أقتنع أيضا بكثير مما كنت أعلمه، ومنها التقسيم العمري للطفل، تربويا وتعليميا، وما تضمنته هذه المضامين من أفكار.


وأعجب أشد العجب ممن ما يزال يتمسك حتى اليوم بتقسيمات الطفولة ومراحلها التقليدية، ويرددها كالببغاء في كل كتاب وبحث ولقاء ومحاضرة بثقة، كمسلَّمة لا شِية فيها، علما أنه مضى على هذه الآراء زمن طويل، وتغيرت مفاهيم الطفولة وأمزجتها، ولم يعد طفل القرن الواحد والعشرين يشبه بحال طفل القرن الماضي، وبات زمانهم غير زماننا. وحتى أنت اليوم لا تشبه أنت الأمس. لذا أعتقد أنه يجب التخلص من هذه التقسيمات في أدب الطفل وإعادة النظر فيها، بل في كل ما يوجه للطفل، وخاصة في الدراسات التربوية والإعلامية والتعليمية، واعتبارها شيئا من الماضي المنقرض، تعلم على أساس أنها كانت أشياء معتمدة وانتهت، مثلها مثل كثير من الأدوية التي كانت تستخدم لأمراض معينة، فيكتشف العلم مع تطور الدراسات والأدوات ما يجعلها من الماضي. فكلنا نعرف مثلا أن الريشة كانت أداة للكتابة؛ فأين هي اليوم؟ وكلنا نعلم ما هي الأقراص المرنة (فلوبي)، لكن لا أحد بات يستعمل ريشة الطيور للكتابة، كما أن أجهزة الحاسوب الحديثة لم تعد تستقبل الأقراص المرنة، وبات الـ(فلاش ميموري) سيد الحافظين.


وأرى أنَّ النص الطفولي مثل أي نص آخر، لكن بما أنه يقصد جمهورا خاصا، فإنه يحتاج لكاتب خاص، يمتلك حسَّا طفوليا صادقا، ونفسا طفولية متَّقدة متجذرة، يعيش الطفولة بتفاصيلها، وليس مجرد هاو مجرب، يقتحم هذا المجال بكلمات يكتبها ويرى لها بعض الرواج، فيظن واهما أن الكتابة للطفل سهلة الانقياد هينة طيعة، كما يعتقد كثير من الناس، وخاصة في بلادنا، لأننا لا نعطي الطفولة مكانتها، ولا نعي أهميتها المستقبلية كما يجب، فنبحث عن الرخيص من البرامج والنصوص، ونذهب هنا وهناك لكي نملأ مكتبة الطفل ومحطاته التلفزيونية ومجلاته الورقية أو الإلكترونية، ونعدو خلف ألعابه الإلكترونية، فينشأ الطفل على غير الشاكلة التي نريدها، ومن هنا يأتي دورك الكبير أيها الكاتب الناشئ؛ فدورك ليس مجرد رص الكلمات خلف بعضها، أو صوغ نصوص مضحكة مسلية، أو تلحين أنغام تطرب الطفل وتنومه، أو تصوير برامج أو دبلجة أفلام ومسلسلات تُلقى في عقول الصغار حتى تفقدهم كيانه..


إنَّ فن النص الطفولي ليس بهذه البساطة التي يتوهمها البعض، فهذا الفن عالي القمة شديد الهمة، وعر السبيل يحتاج إلى دليل، لا يسلكه بجدارة غير فنان تصحبه المهارة، قادر على فهم الشخصية الطفولية بكل جوانبها، لكي يضطلع بمهمة صياغة البنى التحتية البشرية.


ولكتابة النص الجيد أسس مذكورة معروفة ومبادئ منصوصة، وأدوات منشورة في كثير من المراجع، ولن أعيد تكرارها وتوصيفها، وإن كان لي فيها رأي موافق في جانب ومخالف في آخر، لكني لأعجب ممن قرر فجأة أن يكون كاتبا للأطفال، دون أي أدوات خاصة، وإرهاصات سابقة، فكيف يقرر هذا القرار الخطير من لم يقرأ من مجلات الأطفال غير عناوين أغلفتها، ولم يحفظ من أغنيات الأطفال غير ما سمعه من أيام الطفولة ولم يلعب مع الأطفال ولم يزر مدارسهم وأنديتهم وأَسِرة مستشفياتهم، ولم يعرف عن الأطفال وأمزجتهم وصنوفهم ومشاعرهم وكتبهم وتربيتهم سوى القليل القليل.
وبالرغم من أن البعض – وأكرر البعض – قد ينجح لإخلاصه وتسخيره تجاربه السابقة في هذا النجاح، فأني أزعم أن على هذا البعض أن يستكمل أدواته، ولا يتوقف عند ما حققه من نجاح، ويعضده بالفكر المستجد والتهذيب المتواصل، والمذاكرة والمداومة على أدب الطفل الجيد، لكي يذوق الكلمة الحلوة وينعم بأنق اللفظ الجميل المنعش، ويعيش النغم الباعث المتجدد المتوالد، فيذوي في الحرف ويذوب فيه، فينحته نحتا، حتى يبري بعضه بعضا ويثري الواحد الآخر، فهذه صنعة ماهر وعصا ساحر.


ولعلي لا أبتعد كثيرا إذا قلت إن كاتب الطفل المتميز، أديبا كان أو إعلاميا أو صحافيا، لا يكتمل عمله بغير صانع محترف مبدع فنان، من رسام ومخرج وممثل ومدير مسرح وخطاط ولغوي وتربوي، وما يتصل بذلك من أدوات تصوير وطباعة وورق وموسيقى وديكور، وغير ذلك مما يتصل بالنص حسب نوع العمل المقدم للطفل من غير تحديد وفي كل المجالات. وحبذا لو تسلح كل واحد من هؤلاء بمعلومات نفسية وتربوية ولغوية، وأن يعين هؤلاء متخصصون في مجالاتهم ليخرج العمل على أفضل ما نتمنى.


ومن الخطأ الظن أن شخصا مثل ديزني نجح لوحده، فهو كان يعمل ضمن فريق كامل يفكر ويبدع وينتج، والنجاح يكون للمجموعة وليس للفرد، ولا أقلل من شأن الكاتب المبدع، لكن الإبداع الجماعي يكون له من الأثر الكبير ما يعجز عنه الكاتب الأديب والصحافي اللامع والإعلامي الأريب والمخرج والممثل والرسام والموسيقي، كل واحد بمفرد.
وأعتقد أننا في العالم العربي ما زلنا في البداية في مجال الطفل وأدبه وإعلامه؛ لجهل كثير من الناس وخاصة أصحاب السلطة والمال أهمية هذا النوع التربوي البناء. وأعتقد أن فيلما واحدا يعد بطريقة صحيحة سليمة مؤثرة قادر على تقديم ما تعجز عنه آلاف المحاضرات والساعات التعليمية. إن ساعة تلفزيونية واحدة منتجة بعناية فائقة وبدقة بالغة وبسخاء نادر؛ يمكنها صناعة ما عجز عنه الكثيرون، لكن من أين تأتي هذه الساعة إذا كنا حتى الساعة نستقي معظم برامجنا من الغرب، نأخذها منهم جاهزة، ونعيد تقديمها لأطفالنا كما هي، سواء بلغتها الأصلية  ومترجمة ومدبلجة، دون مراعاة أنها صيغت أساسا لمجتمع غير مجتمعنا أحيانا، ولطفل غير طفلنا.
وأعتقد أن الإخلاص للطفولة يجب أن يكون أولوية الأولويات بالنسبة للكاتب وللمجتمع عموما وقبل أي شيء آخر، وأزعم أن ما نحصده اليوم من مشكلات تعم بلادنا من قيم ومفاهيم دخيلة على مجتمعاتنا ليست سوى نتاج إهمالنا للطفولة ردحا طويلا من الزمن، ولكم زرت أماكن وأندية كثيرة للأطفال؛ فوجدت كثيرا من العاملين فيها ليسوا أكثر من موظفين يؤدون مهمة وينصرفون.


وأنا لا أحبذ التشدد وركوب الصعب في النص، وأن نجعله درسا في اللغة العربية، أو قاموسا نسعى من خلاله إلى تعليم الطفل المفردات الجديدة بكثافة. وبالرغم من أهمية تعليم الطفل للغته فإنَّ شحن النص القصير بعدد كبير من المفردات الأعلى من قاموس الطفل الصغير؛ ينفر الطفل من القراءة ويبعده عنها. وهنا قد يقال إنَّ القاموس الطفولي اليوم اختلف كثيرا عن قاموس الطفل القديم، وهو يحتاج إلى جرعات إضافية نظرا لبعده عن اللغة ومزاحمة اللغات الأجنبية له، لكني أذكر أن الطبيب يعطي المريض الدواء شيئا فشيئا حتى يقدِّر الله له الشفاء من الداء، ولا يعطيه الجرعات دفعة واحدة، بل قليلا قليلا، وهذا ما نبه إليه كثير من العلماء، وأوصوا به، فنحنُ اليوم بحاجة إلى كمية كبيرة من التشويق والإثارة في النصوص والبرامج التي نريد عرضها على الطفل؛ أكثر مما نحن بحاجة إلى الكلمات الموحشة شديدة الصعوبة. فلنستخدم الكلمات والعبارات التي يفهمها من أجل توصيل الأفكار التي نريدها. وأعتقد أن الطفل سوف يُقبل لاحقا على معرفة اللغة مع مرور الوقت عندما يحب القراءة ويغرم بها، أما إذا كره القراءة والكتاب منذ البداية فلن نستطيع بسهولة فيما بعد أن نعيده إلى الطريق المرغوب، فقد يكون الأوان قد فات، والصعوبة عندها سوف تزداد.


وإني لأشعر بهمٍّ وقلق عندما أطلع على بعض المقررات الدراسية لمواد اللغة العربية، وحتى بعض المواد العلمية الأخرى، حيث أجد أن هناك من يقحم بعض النصوص إقحاما، ويختار شيئا كتب للكبار ولا يناسب الصغار، يضعه لأبنائنا الأعزاء بالرغم مما فيه من صعوبة، في الشكل والمضمون، وربما وجدت مقالات سياسية أو فلسفية، واختيارات من هنا وهناك تشتت عقول الأطفال، وتبغِّض إليهم الدراسة والكتاب، ولا تخفى أخطار ذلك عليك أيها الكاتب الحبيب.


ومن وجهة نظري أرى الخيال شيئا رائعا ممتعا، ومَن مِنَ الأطفال لا يحب الخيال، والإبداعات الإنسانية كانت كلها خيالا في خيال، وكثير من الأشياء تحققت بعد أن كانت خيالا، فكم هو جميل الخيال الممتع المفيد، وكم نحتاج لكي نعمل بكل جد ونشاط على تنمية خيال الطفل بشكل واسع، أوسع من الأحلام، وأكبر من الواقع، وهذا ما نحتاجه اليوم أكثر مما مضى، مع ربط الخيال بشكل أو بآخر بالواقع، دون أن نحرف الجماليات التي يتحلى بها الطفل عن طريقها، بل نساعده على تنميتها، والاستفادة منها لتطوير ذاته ووصولها إلى أقصى ما يحلم ويتمنى.
وما زال الخيال يراودني ويؤرقني منذ البداية حتى اليوم، لا أصطنعه صناعة ولا أبتدعه ابتداعا، فليس هذا من ديدني فهو يأتي كما يريد، وهو الملاحظ عندي فيما أكتب، وإن كان الأمر عسيرا في أحيان فإنه سهل يسير في أحيان أخر.


الكتابة للأطفال كانت ولا تزال من أوفى وأغلى الوسائل التي ألجأ إليها لكي أواصل الحياة بسلام ولتكون خطواتي فيها جميلة وسعيدة. هي من النعم الربانية التي أشكر الله عليها لأنها تبقى، وأحسب أنها تعد - بإذن الله - من العلوم التي ينتفع بها، وبما أني لا أرى نفسي في الواقع غير كاتب للأطفال، فإن كان عملي كصحافي أو كأستاذ جامعي لم يكن يوما من الأهداف الكبرى في حياتي، فكل عمل أحبه وأسعى إليه لا بد وأن تكون له علاقة مباشرة بالطفل، فالكتابة للطفل والحياة للطفولة تمثلان هاجسي الأول والدائم في كل مكان أخطو إليه، وفي كل وظيفة أعمل فيها.
ومن بوابة الكويت (لؤلؤة الخليج) كانت نقطة الانطلاق والبداية الفعلية، ومن هنا من جريدة (الأنباء) تحديدا تم العبور إلى بوابة دمشق، عاصمة سوريا على مدى العصور، بل عاصمة الشام التي نحب ونعشق كيفما ندور، وتحديدا من دار الحافظ الدمشقية العريقة.


منذ نحو ربع قرن من الزمان بدأت نشر بواكير القصص في جريدة (الأنباء) الكويتية، ثم تصافحت القلوب مع دمشق لتشهد تاريخ صدور أول قصة لي في دار الحافظ الدمشقي العريقة؛ لصاحبها الناشر الشهير هيثم الحافظ رئيس اتحاد الناشرين السوريين، وكان الإصدار الأول عبارة عن ثماني قصص متفرقة في مجموعة واحدة تحت عنوان (العلماء الصغار).
وكما أن لكل أمر إرهاصا فإن لهذا الفن عندي شيئا من الإرهاص، تبدأ "القصة" منذ طفولتي الأولى؛ حيث كنت أختلق المواقف الوهمية وأرويها لأمي وأبي وإخوتي، كما كنت أحكي في روضتي ما يشبه القصص، وأنسج لأمي عندما أعود ألوانا من الوقائع الممزوجة بخيالات لا يمكن أن تحدث مطلقاً وتعود بداية تجربتي الحقيقية في الكتابة للطفل منذ انتقالي إلى دولة الكويت في عام 1993؛ حيث شهدت جريدة الأنباء الكويتية المرحلة النشطة الأولى لهذه التجربة. فقد لاحظت رئيسة تحرير جريدة الأنباء يومئذ الزميلة الفاضلة بيبي المرزوق، وبعد أسابيع قليلة من وصولي الى الكويت، اهتمامي بالكتابة للطفل، فطلبت مني إعداد صفحة جديدة للأطفال بعنوان (ممنوع على الكبار)، وكانت عبارة عن نصف صفحة يومية وصفحتين كاملتين في صباح يوم الخميس من كل أسبوع، واستمرت هذا التجربة الثرية نحو خمس سنوات كنت أكتب فيها وفي أكثر الأيام قصة قصيرة، وخلال تلك الفترة أعددت صفحة أخرى أسبوعية للأطفال أيضا بعنوان: (مدرستي)، تدور رحاها في رحاب مدارس الكويت، إضافة إلى صفحة أسبوعية أخرى خاصة بأنشطة الأطفال المتنوعة. وكانت هذه الصفحات اليومية والأسبوعية المحراث الحقيقي الذي نبش أرض الطفولة العميقة في نفسي، وأنبت فيها كل الرغبات الهائمة في محراب الأدب الطفولي. فكنت أتنقل بين المدارس كما تتنقل الفراشة بين الزهور، حتى أن صفحة (مدرستي) كانت تعبر عن ذلك بفراشة (الأنباء)، باعتبار أنها تتنقل بين بساتين الطفولة، ومن مدرسة إلى مدرسة كنت أقطف يوما بعد يوم رياحين الحياة، وأتنشق أجمل الأنسام التي ملأت قلبي عشقا عميقا، بل كنت أقول لمن يسألني عن سر عشقي للطفولة، إنه لا أسرار للعشق، وإني لأتمنى أن يتركوني وحدي أعيش الطفولة بحذافيرها مع الأطفال، فهم الأقرب إلى البراءة، لعلي أحظى ببعض من تلك البراءة اليانعة، وربما وجدت نفسي مع هذا الصغير أو ذاك ألهو وأضحك وأحكي له ما شاء من القصص.


وفي تلك الفترة صدرت لي أول مجموعة قصصية عن دار الحافظ، تلاها مجموعة إصدارات عن الدار نفسها، ثم تعرفت إلى صاحب دار الرقي اللبناني المتخصص بقصص الأطفال السيد أنيس سعد رحمه الله، تعرفت عليه في معرض الكتاب في الكويت علما أنه من بلدتي اللبنانية (برجا) الشوفية، فصدر لي أول مجلد للأطفال بعنوان (50 قصة قصيرة للأطفال) كنت نشرتها في جريدة الأنباء على مراحل، ثم جمعت قصصا أخرى نشرتها في الجريدة نفسها وأضفت إليها قصصا جديدة، ونشرنا بعد ذلك وعلى مدى عدة سنوات ستة مجلدات كل مجلد 50 قصة بالعنوان نفسه.


وخلال تلك الفترة قامت دار الحافظ بترجمة مجموعة قصص إلى اللغة الفرنسية، فيما أصدرت دار (المكتبي) الدمشقي العريقة لصاحبها الدكتور غياث مكتبي مجموعة من القصص، منها: مجموعة الانتفاضة، وكذلك مجموعة أبطال الإسلام، وسلسلة (الحمار حمور) و(الفيل فيلو) وغيرها من المجموعات والقصص، فيما قامت دار الرقي بترجمة مجموعات من القصص إلى اللغة الإنجليزية، كما قام صديق العمر الفنان الفلسطيني الراحل إياد عيساوي، الذي رسم معظم ما صدر من قصصي في تلك المرحلة بإنشاء دار جديدة، وأصدر مجموعة من قصصي ترجمت لاحقا إلى الروسية والكردية، واستمرت شراكتنا منذ تعارفنا في أواخر التسعينيات حتى وفاته رحمه الله في عام 2016.


وهناك مراحل أخرى خلال تلك الفترة لا يمكن إغفالها كلها دون الإشارة إليها ومنها مرحلة مجلة (براعم الإيمان) ومجلة (أسرتي) ومجلة (أولاد وبنات)، ومركز ثقافة الطفل الكويتي.
ومع الوقت ازدادت قصصي المطبوعة للأطفال، وشاركت في تحكيم عدد كبير من المسابقات والجوائز في العالم العربي إلى أن حصلت في نهاية عام 2014 على جائزة الملك عبدالله الثاني للإبداع في مجال أدب الطفل عن جميع أعمالي باعتبار ذلك إنجازا للعمر.


وفي السنوات الأخيرة انضممت إلى قسم التحرير في وكالة الأنباء الكويتية (كونا) وتوليت لاحقا إدارة تحرير مجلة (كونا الصغير) التي تصدر فصليا منذ عام 2014. وصدر منها لغاية شهر فبراير 2018 نحو 15 عددا. كما عادت جريدة الأنباء لتصدر منذ عام 2015 صفحتين أسبوعيا للأطفال تحت عنوان (أبنائي الصغار).


وأشير هنا إلى أني لا أحصي بدقة عدد القصص والمقالات والدراسات التي كتبتها للأطفال، وكثير منها نشر في صحف ومجلات عربية مختلفة وإصدارات متفرقة، ولعل أبرزها – كما أشرت سابقا - ستة مجلدات بعنوان (50 قصة للأطفال)، أي في كل مجلد 50 قصة، بمجموع إجمالي بلغ 300 قصة صدرت في بيروت عن دار الرقي، كما صدرت المجموعة نفسها في مجلدات كثيرة في جمهورية الجزائر بدعم من وزارة الثقافة الجزائرية، كما صدر مجلد كبيرة عن دار المكتبي الدمشقي لصاحبه الدكتور غياث مكتبي حمل عنوان (سأحكي لكم)، تضمن أيضا 50 قصة، فيما أعادت دار المكتبي نشر مجموعة أخرى مختارة من 50 قصة بعنوان (أحمر الشفاه)، ومجموعة أخرى بعنوان (حكايات عربية). كما قامت دار إشراقات في الكويت بإصدار سلسلة تربوية بمشاركة الخبير التربوي الشهير الدكتور مصطفى أبو سعد، تتضمن مجموعة كتب، كل مجموعة تتكون من عدة قصص، لتصل بمجملها إلى نحو مئة قصة متفرقة، منها ما نشر سابقا وتم انتقاؤه ليتناسب مع هذه السلسلة التربوية الجديدة.


وهناك محطة مهمة أيضا وهي محطة التعاون مع اللجنة الكويتية الوطنية للوقاية من المخدرات (غراس) حيث قمت بالتعاون معها بنشر رواية شبابية تهتم بالتحذير من المخدرات، كما كتبت الكثير من القصص بطلب من مؤسسات مختلفة، منها كتاب كبير بعنوان (مدرستي الخضراء) بالتعاون مع جمعية البيئة الكويتية وبمشاركة الصديق الدكتور عبدالله بدران، كما كتبت قصصا لمؤسسات نفطية تهتم بالبيئة، فضلا عن قصص إسلامية متنوعة، منها مشاركة طيبة مع (مبرة الآل والأصحاب)، تضمنت الكثير من الجوانب المضيئة في العلاقة الطيبة بين آل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، طبعت بعشرات الآلاف من النسخ، كان منها طبعة خاصة على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت. كما لا أنسى مرحلة أساسية وهي مرحلة العمل في (مؤسسة الكويت للتقدم العلمي) حيث كنت أعمل ولأكثر من عشر سنوات سكرتيرا لتحرير مجلة (التقدم العلمي) الفصلية، وكانت المجلة تتضمن في كل عدد صفحتين علميتين خاصتين بالأطفال والناشئة من إعدادي، فضلا عن قيامي بإصدار عدد من قصص الأطفال العلمية توزع مجانا مع مجلة التقدم العلمي، وقد اختارت حكومة أبو ظبي إحدى تلك القصص العلمية وكانت بعنوان (اليوم الصحي المفتوح)، وقامت بتوزيعها بعد إعادة طباعتها بالاتفاق معي عبر دار (المكتبي) بكميات كبيرة ليتم توزيعها على مدارس دولة الإمارات.


وهنا أشير إلى أن كثيرا من الدول العربية اختارت مشكورة الكثير من قصصي لتكون ضمن المنهج الدراسي الرسمي، ومن تلك المناهج التي اطلعت عليها ما قرر في الكويت وسوريا ولبنان وقطر ودولة فلسطين والمغرب والجزائر ولبنان والإمارات العربية، فضلا عما اطلعت عليه من مسابقات للأطفال في المدارس العربية التي كانت تضع قصصي ضمن اختياراتها، ولا سبيل لذكرها كلها.


ولعل الجانب الأهم في كتاباتي للطفل تجلى في المرحلة الفارقة التي بدأت فيها بالكتابة لليافعين، وهذه الكتابة بدأت قبل نحو عشر سنوات، بدأت بقصة (صانع الأحلام وفراشة الغابة الغريبة)، وأتبعتها بروايات قصيرة، أو هي قصص طويلة، إلى أن كتبت قصة (سر الحقيبة والمغامرة العجيبة) في جزءيها الأول والثاني، وسجلت هذه القصة نقطة تحول كبرى في مسيرتي في مجال قصص الأطفال، وبدأت أكتب قصصا طويلة، أو ما يمكن أن يسمى روايات للناشئة واليافعين. وكتبت بعدها روايات: (البوسطة) و(لغز المدينة المسجونة) و(وجه القمر)، ثم طورت الرواية الأخيرة وأضفت إليها جزءا ثانيا وصار اسمها (للقمر وجوه كثيرة) طبعت في الكويت (غراس) ثم طبعت في سوريا (دار الحافظ) ثم في الأردن (وزارة الثقافة الأردنية - مكتبة الأسرة)، ثم أدخلت عليها بعض التغييرات والإضافات لاحقا وسميتها (للقمر وجه واحد)، وطبعت أخيرا في دولة الإمارات (دار مكتبي) التي قامت في السنة الأخيرة بطباعة مجموعة أخرى من الروايات منها: (رحلة إلى ماليزيا)، (مغامرات بونزي)، (كوابيس نورة)، (عناقيد الكرز)، (الأبيض لا يليق بكم)، ومجموعة قصصية لليافعين بعنوان (نافذة الفرح) وغيرها كثير من القصص المتفرقة.


وأشير هنا إلى أن رواية (منير.. الأبيض لا يليق بكم) طبعت نحو 8 طبعات، منها طبعتان في بيروت عن دار الرقي، وطبعة في الأردن عن رابطة الأدباء الأردنيين (مختصرة)، وثلاث طبعات في الكويت، وأخرى في الجزائر إضافة إلى طبعة الإمارات.


ولا أنسى أن أعود إلى دار الحافظ الدمشقي لصاحبه هيثم الحافظ رئيس اتحاد الناشرين السوريين الذي نشر لي من بين ما نشر رواية فكاهية بعنوان (سباق في الزقاق) قدم لها الكاتب الكبير يعقوب الشاروني حيث قال كلمة جميلة جاء فيها: هذه الرواية: رواية وفكاهية.. واستجابة لطلب شاب صغير، يحكيها أستاذ في فن الحكي... كل هذه مفاجآت تــضاف إلى ما تحفل به القصة من مفاجآت وضحكات، تتعايش خلالها مع أعماق النفس البشرية، التي يؤمن المؤلف بانتصار جانبها الحافل بالخير، والتعاطف والرغبة في التواصل، على أي جوانب قد تشوب أحيانا علاقات بعض الناس ببعضهم.. هذا التفاعل بين الكاتب وجمهوره، بين المبدع والمتلقي، جعلنا نقرأ "رواية" تشق طريقها بنجاح بين صور كثيرة من أدب الأطفال العربي، لم تكن - فيما سبق- تعطى الاهتمام الكافي في روايات الشباب الصغير.


فيما كتب الناقد جميل السلحوت (شخصية القدس الثقافية) عن رواية (رحلة إلى ماليزيا): إبداع جديد ومتجدد للدكتور طارق البكري في إصداره الجديد (رحلة إلى ماليزيا) يؤكد من جديد أن لدى المؤلف الكثير الكثير ليقوله للأطفال ولليافعين، فيأتينا بجديد يدهش الكبار قبل الصغار، وما يكتبه ليس من باب التسلية فقط؛ بل يحمل في ثناياه قيما تربوية وتعليمية. وروايته هذه تعج بقيم إيجابية جاءت من خلال القص المشوق دون مباشرة أو خطابية، مما يرسخها في ذهن القارئ المتلقي بيسر وسهولة. ومن هذه القيم: أن الانسان في جوهره لا في شكله الخارجي، وأن الأطفال يدركون الأمور على عكس ما يعتقد الكبار. وأن المطالعة تغذي العقل وتزيد المعرفة، وبما أن الأطفال يتأثرون بالكبار ويقلدونهم، فهناك أهمية لوجود مكتبة في البيت يطالع كتبها الكبار والأطفال. وعلى الأطفال ألا ينزعجوا من مراقبة ذويهم لهم، ففي مراقبتهم منفعة لهم.


ويقول: كما أن الرواية تعلم متلقيها أهمية التسامح وأدب الاعتذار عن الخطأ، والاستئذان عند الحديث، وآداب الطريق، واحترام تراث الآباء والأجداد؛ لا ينسى الدكتور البكري الأمور الصحية، فيحذر من الأطعمة المعلبة والجاهزة، ويدعو الى تحضير الأطعمة وطبخها في البيوت، وعلى الأبناء أن يقبلوا بشهية كل ما تطبخه أمهاتهم لهم. وفي الرواية معلومات قيمة منها: اتساع البحار وعدم محدوديتها، وأن في جنوب الكرة الأرضية وشمالها قطبين متجمدين، وأن السحب محملة بالمياه، وأن الماء عماد الحياة، لذا يجب الاقتصاد في استهلاكه مهما كانت ثروة البلاد المائية، وأن الشمس كبيرة الحجم، وأن ضوء القمر انعكاس لأشعة الشمس، وأن الكرة الأرضية والقمر يدوران حول الشمس، وتلفت الرواية الانتباه الى أهمية الرحلات الداخلية والخارجية، ففي الرحلات ترفيه للنفس وترويح عنها، وقضاء نافع لأوقات الأعياد والعطل المدرسية وغيرها، واكتساب معلومات ومعارف جديدة، كما فيها دعوة للأطفال ولليافعين في كيفية قضاء أوقات فراغهم وعطلهم المدرسية، من خلال المطالعة في كتب مفيدة، أو العمل في أماكن تتلاءم وقدراتهم الجسدية، كالعمل في المكتبات مثلا. واللافت في هذا النص أن صاحبه روى عدة حكايات وقصص، وحبكها مع بعضها البعض بسلاسة فائقة، لتشكل روايةً متكاملةً، يمكن الزيادة عليها، أو اختصارها دون التأثير على حبكتها الروائية، وهذا دليل على قدرة أديبنا على الإبداع الروائي، ويلاحظ - كما يضيف السلحوت - أن الدكتور البكري يستعمل لغةً انسيابيةً سهلةً على المتلقي، وهي لغة مشبعة بعنصر التشويق الذي يجبر القارئ على متابعتها، وهو سعيد ومستمتع بذلك، وهذا من صفات الأدب الجيد بشكل عام، وأدب الأطفال بشكل خاص. وأخيرا فإننا نشجع فتياننا العرب وكل من قرأ العربية في العالم، وندعوهم إلى قراءة هذه الرواية المتميزة بأسلوبها وفنها وأهدافها، باعتبارها نموذجا فريدا لأدب رفيع لليافعين في عالمنا المعاصر.

ومن القصص التي أثارت اهتمام النقاد قصة (صانع الأحلام) التي أقيمت من أجلها ندوة خاصة في مسرح القدس الثقافي، وصدر على إثر الندوة كتاب تضمن تفاصيل النقاش الذي دار حولها، وبدأ النقاشَ عريف الندوة الكاتب جميل السلحوت فقال تحت عنوان: إسقاط مفاهيم الكاتب في قصة صانع الأحلام للأطفال: قرأتُ للدكتور طارق البكري ثلاث قصص للأطفال على صفحات مجلة (أدب الأطفال) الإلكترونية التي يرأس تحريرها الدكتور رافع يحيى، وتتمحور القصة حول الأحلام عند الأطفال، ويضيف: لقد استعمل الكاتب أسلوب السرد القصصي في قصته، لكنه اتكأ على الحكي أكثر من اتكائه على القص، وكان تدخله واضحا في مواضع عدة في تحريك شخصية ريم بطلة القصة، ولم يتركها تتحرك وحدها كطفلة ابنة عشرة أعوام، لقد أسقط وعيه عليها، كما أنه أعطى على لسانها جملا تفسيرية كان بإمكانه الاستغناء عنها. وتابع: من الواضح أن الكاتب يملك خيالا واسعا، وإن كان هذا الخيال يتناقض مع البناء القصصي أحيانا. ويبقى أن نقول إن في القصة تسلية للأطفال، وتنمية لخيالهم، وتعطيهم بعض المعلومات، كما أنها تشجعهم على الاستمتاع بجمال الطبيعة.


وتحدث الناقد خليل سموم قائلا: إنها قصة خيالية تثير الخيال عند الأطفال وتساهم في تنميته، وهي قصة مشوقة، ممتعة، ورائعة، محبوكة جيداً، وفيها حركة كبيرة ومستمرة. البطل فيها أنثى وليس ذكرا، وهذا شيء إيجابي؛ إذ إن الأغلبية الساحقة من أبطال قصصنا العربية هم ذكور. وهي قصة عميقة، تدعو للتفكير والتأمل. وهي قصة هادفة ملآى بالقيم التربوية الإيجابية، ويدور محورها حول مدى تأثير القراءة إيجابيا على عقل الإنسان.

وبعيدا عن تلك الآراء؛ لو أردت حقيقة تصنيف ما كتبت في ربع قرن من الزمان، لما خرجت عما كتب السابقون، فما يكتب للأطفال يدور في دوائر تربوية وبنائية محددة وبأساليب مختلفة، وقد حاولت أن أكرس نفسي لهذه الكتابة، فقضيت عمرا طويلا في ذلك، وبدون أهداف مادية شخصية، ولعل السبب الرئيس الذي حفزني على ذلك هو حرصي على أن يكون المستقبل أفضل، وبالطبع لا أقول ذلك من باب المبالغة أو التباهي، فلا تباهي في ذلك ولا فائدة تذكر، لأني أعلم يقينا أهمية أدب الطفل في التوجيه والبناء والإرشاد الذي يقتصر على عدد محدود جدا من المتخصصين البنائين بعيدا عن أصحاب القرار، لأن تقدير أهمية الطفولة من خلال خبرتي الطفولية محدود الأهمية عند المسؤولين ويظل من باب الاهتمام العام الشكلي دون الإغراق بالتفاصيل على اعتبار أن الطفولة تبقى طفولة، وبالرغم من ذلك لم أكترث بكل ما سمعت وما واجهت، وأدركت منذ البداية أن النتائج لن تكون سريعة ولا واسعة، وربما تكون شبه معدومة، وأن على من يعمل في ميدان أدب الأطفال أن يكون ملهما بألا يتوقع غير المتوقع، لكني أدركت بالمقابل ما يقال بأن إضاءة شمعة واحدة أفضل من أن ألعن الظلام.


عموماً؛ فإن كل ما كتبت يركز على بناء الإنسان الصغير، وما خرج عن ذلك فهو استثناء، أما النظر إلى نوع ما أعمل فهو من الوظائف التي هي مصدر للرزق، وحتى أتمكن بهذا الرزق من متابعة الطريق بالكتابة.
وكتبت لجميع المراحل العمرية، من الروضة حتى الثانوي، وهناك قصص كانت عبارة عن قصة قصيرة، لكني طورتها وأضفت إليها بعض التفاصيل والأحداث والمواقف حتى أصبحت قصصا طويلة، ومنها رواية (عناقيد الكرز) التي كانت بدايتها قصة (الأميرة كهرمان)، ومثلها أيضا رواية (البوسطة)، ففيها مجموعة من القصص التي كتبتها متفرقة، منها مجموعة (عندما) المكونة من نحو ثماني قصص متوسطة الطول، تمثل قصصا حقيقية حدثت لي في طفولتي، منها: (عندما أدخلت البقرة إلى البيت)، و(عندما رفعت علم بلادي)، و(عندما سافر أبي)، و(عندما حصلت على أول سيارة)، و(عندما مات أخي)، و(عندما وضعت النعجة بالسيارة) وغيرها من القصص، وبعض أحداث هذه القصص الطفولية حدثت عندما كنت عشت حياة القرية في بلدة (لالا) البقاعية اللبنانية، بعيدا عن العاصمة، حيث مسقط رأس جدتي لأمي، وربما هذه الطفولة التي نمت بين التلال والوديان والجبال والسهول، وبين الطبيعة الساحرة حيث كنا نقضي شهور الصيف في القرية بعيدا عن مدينتي بيروت، اختزنت في ذاكرتي أحلام الطفولة وأحداثها وتفاصيلها، وتجلت في الشباب قصصا طفولية كانت تسعدني، على أمل أن تكون هي أيضا سببا لإسعاد الأطفال الأعزاء.


ومن جانبي فإن أكثر القصص التي كتبها وتمثل جزءا مهما بارزا من مؤلفاتي، رواية (منير.. الأبيض لا يليق بكم)، هذه الرواية التي طبعت كثيرا، وفي كثير من المدن والعواصم العربية، من الكويت إلى الجزائر إلى عمان وبيروت والشارقة ودمشق، فهي ضمت مرحلة صعبة جدا من حياتي، كتبتها عن تجربة شخصية مع ولدي (منير) رحمه الله، عن رحلة طويلة مع المرض امتدت شهورا كثيرة، قضى منها سبعة شهور في المستشفى، أردت أن أجسد تلك المرحلة في هذه الرواية التي حازت على إعجاب وتقدير النقاد والباحثين والقراء، حتى قال بعضهم عنها: إنها أعظم الروايات الإنسانية التي قرأها.
ومما قالته المحامية الكويتية ليلى الراشد يوم صدور الطبعة الأولى: إن الرواية تعكس واقعا مؤلما في حياتنا من بعض أشخاص يمتهنون مهنة الطب ويسيئون إلى سمعتها وهم أقلية في مجتمعاتنا، مؤكدة أن الطب مهنة إنسانية وجدت لمساعدة البشر وللأخذ بأيديهم ليعيشوا بلا آلام ولا أنات، لكن أن تتحول إلى مصدر للأحزان والدموع، وأن تفقدنا أغلى الناس عندنا وتحرمنا منهم إلى الأبد نتيجة إهمال أو خطأ طبي فهنا تنحرف المهنة عن أهدافها السامية، وهذا ما عبرت عنها الرواية والتي تعد رسالة سامية إلى كل المجتمعات في كل أنحاء العالم، فهذه الرواية وإن كانت تحاكي الواقع المرير الذي نعيشه فالرجاء أن تكون هذه الرواية سببا لإعادة الطب إلى مساره الصحيح.


وقد قال الشاعر المصري أشرف ناجي عن الرواية إن البكري كان يقول عن نفسه في معترك الأزمة التي كانت تمر به بسبب مرض فلذة كبده منير (أنا أب بقلب أم). بدوره قال سفير السلام والنوايا الحسنة الحاج حسان حوحو: نقدر جهد البكري الفكري وإبداعه في كل مجالات الكتابة، وهذا الإصدار الرائع يفتح آفاقا جديدة نحو الكتابات الإنسانية. فيما قدم الناقد المصري الدكتور مصطفى عطية قراءة في الرواية معتبرا أنها من أعظم الروايات الإنسانية التي قرأها، قائلا إنها نوع من الكتابة يجعله في مصاف العالمية، فرُقي الفكرة وجمالها وروعة الأسلوب وبساطته، كل هذا يضاف إلى الرواية، مشيرا إلى نماذج حية وواقعية مما تعكسه تلك الرواية في واقعنا الذي نعيشه، وجميع الإسقاطات التي استخدمها الكاتب في روايته انعكاس لهذا الواقع ولا تنفصل عنه.
وفي الختام، أفكر دائما بأن الطفولة تبقى هي الأمل، والأدب عنوان هذا الأمل ومسيرته المضيئة، فكلما أعطينا الطفولة أدبا أعطتنا روعة وجمالا ومستقبلا أفضل. إنه الأدب: في النص وفي المعنى وفي الهدف. وقد لا أكون منصفا بذكر كل من ساعدني وساهم بنصيحة أو توجيه أو تشجيع، فمن ذكر بعض منهم، وليعذرني من أغفلت ذكره لضيق الوقت والمساحة وضعف الذاكرة، وليس في الأمر قصد أو تقصير وإهمال، وللجميع مودتي ووردة حب بيضاء.

بدأ الدكتور طارق البكري الكتابة للطفل في سن مبكر، ومن الكويت انتشرت كتبه وقصصه ومؤلفاته في معظم البلاد العربية، ولديه اليوم عدد كبير من قصص الأطفال وروايات الناشئة والشباب. وهي معظمها معتمدة في كثير من المدارس وفي مختلف المراحل. تولى الكثير من المهام التي لها علاقة بالطفل؛ منها رئاسته للجنة جائزة إعلام الطفل العربي في نادي دبي للصحافة، إضافة إلى مشاركته في عضوية الكثير من لجان مسابقات وجوائز أدب الطفل في العالم العربي، منها جائزة الأمانة العامة للأوقاف في الكويت، وجائزة قطر الدولية لأدب الطفل، وجائزة جامعة الأميرة نوره لروايات الناشئة، وجائزة مسابقة الريادة لرسوم الأطفال في مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وجائزة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وغيرها كثير.. كما تولى الإشراف على إصدار مجلة (براعم الإيمان)، ومجلة (أولاد وبنات) ومجلة (أجيالنا) إضافة إلى تطوعه مستشارا لبعض من مجلات الأطفال العربية، وهو الآن مدير تحرير مجلة (كونا الصغير) التي تطبع في الكويت ويصل عدد نسخها الفصلية إلى 40 ألف نسخة، كما أنه يشرف على صفحات الطفل في جريدة الأنباء الكويتية، وعمل سابقا أستاذا لمادة أدب الطفل في الجامعة العربية المفتوحة.

تخصص الدكتور طارق البكري في مختلف مراحل الدراسات العليا بدراسات تتعلق بالطفل وأدبه وإعلامه، وعمل في مجالات كثيرة لها علاقة بالطفل، على مستوى الوطن العربي، ويعد من أكثر الكتاب غزارة في أدب الطفل، وقد تلقى تهئنة الأمير طلال بن عبد العزيز على اقتراحه (نحو جامعة عربية لدراسات الطفولة)، كما تلقى تهنئة رئيس الجمهورية اللبنانية الذي استقبله بهذا الخصوص، وحصل على جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع في مجال أدب الطفل، وهي أعلى جائزة من نوعها في العالم العربي فيما يخص إنجاز العمر في مجال الطفولة. ووُضع اسمه في لوحة جدارية كبيرة في مؤسسة تعليمية كبرى في مملكة المغرب أزال الستار عنها نائب وزير التربية المغربي، وصنفته بعض المواقع المتخصصة أشهر كاتب عربي للأطفال.

 

التدقيق اللغوي: حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية