مررتُ هُنا على أثرك،
أقرأ عنك، أقرأ فيك
أقرأ منك..
أكرّر الآيات التي قصّت حكايتك
الحوار الذي دار بينك وبين أبيك،
أصنام قومك
النار التي ألقوك فيها..
وهجرتك..
وكلمّا عرفت أكثر، ازددت شوقًا لرؤيتك..
سيّدي الخليل؛ من ههنا بدأت حكايتي معك..
(1)
حينما قادتك الفطرة لتبحث عن الحقيقة..
كنت تتأمل كثيرًا حولك، وتجد في كل شيء إشارة لك، لعلها ترشدك إلى الطريق المستقيم.
حين لاح لك الكوكب وقلت: "هذا ربي" ثم تجلى لك القمر؛ وقلت: "هذا ربي"؛ ثم أشرقت الشمس؛ "هذا ربي هذا أكبر".. باحثًا وقاصدًا الحق ليس إيمانًا بالكواكب.. فلما غابت كلها واختفت وأفَلت أدركت أنها مخلوقات لرب أعظم وأكبر..
وظللت تبحث دون فتور، متبرئًا مما يعبد أبوك وقومك..
ربما شعرت بشيءٍ من الحيرة، لكنك لم تيأس!
ولأنك صادقٌ ببحثك؛ صدقك الله وأرشدك..
فعرفت الطريق أخيرًا.. آمنت به، أسلمت له، اطمأننت.
وبقيت حاجة في نفسك؛ أن تدعو أباك وقومك إلى ترك ما يعبدون من الأوثان.. لكنهم تولوا عنك مُدبرين!
(2)
خفت على أبيك..
"أبي"، وهو غارقٌ في صنعته.
يصنع صنمًا ليضعه بجانب الأصنام الأخرى التي قد صنعها.
"أبي"، فينظر إليك،
ولحظة صمتٍ بادرت فيها بقولك:
"با أبتِ لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا"،
فيصدك أبوك، بل يأمرك بالسجود إلى صنمه!
رغم هذا لم تكفّ؛ بينت له أنك أوتيت علما لم يؤته: "يا أبتِ إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني".
وبكلّ لينٍ ورفق:
"يا أبتِ لا تعبد الشيطان.. يا أبتِ إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن.."
ثمّ ردّ أبوك ليقول لك بكلّ تجبر وتكبر:
"لئن لم تنتهِ لأرجمنك.."
يا لقسوة الردّ!
لكنك أجبته بطيبِ قلبٍ، بحزنٍ على حاله:
"سلامٌ عليك سأستغفر لك ربي.."
(3)
هممت أن تدعو بثباتٍ..
يا قومي ماذا تعبدون؟ أبالله كنتم تشركون؟
وصدّوا عنك وكذبوك.. وتُردّد "إني بريء مما تعبدون."
وفي يومٍ حطمّت آلهتهم المقدّسة بيمينك؛ تريد أن تبين لهم الحقيقة التي غابت عنهم، ليأتوا بك، ويسألوك: أأنت؟ فلما سخرت منهم بإجابتك أجمعوا على أن يحرقوك!
كيف ذلك؟ لم تأبه، فبنوا لك بنيانًا قد جمّعوا فيه حطبا، ووضعوك على منجنيقٍ ورموك وسط اللهب..
في أثناء ذلك..
أتاك جبريل وهو من الله مرسول: "ألك إليّ حاجة؟ فقلت له بثباتٍ: إليك فلا، أما إلى الله فنعم، حسبي الله ونعم الوكيل."
رميت في النار، أُسقِطتَ فيها.. ولا شيء حدث لك!
كانت بردًا وسلامًا كما أمرها الله أن تكون لك..
فأنت خليلُ الله قد ردّدت: حسبي الله ونعم الوكيل..
والله نعم الوكيل والنصير لعبده؛ فقد نصرك..
تعجب قومك، وانتظروا النار أن تحرقك
قيل إنهم انتظروا أيامًا وساعات..
والنار لم تحرقك! ورغم أنهم رأوا لم يؤمنوا!
ورغم أنهم شهدوا ازدادوا كفرًا!
(4)
وبعد ذلك سمع بك النمرود، بقصة حرقك وهو عند قومه ملكٌ عظيم،
وأنت الشاب المؤمن وحدك ما معك غير الله،
بكل سذاجةٍ قال لك: أتزعم أن لك ربا؟
لتجيبه: "نعم"، بكلّ ثقةٍ ملأت قلبك.
وظلّ يحاججك بكلّ وقاحةٍ وسفاهةٍ
عن إحياء الموتى، وأمر الموت، عن شروق الشمس، عن آلاء الله، لتبين له الحقيقة التي أعماه ملكه عنها،
حتى بُهِتَ وهو يرى آيات الله، ثمّ لم يؤمن!
(5)
لم يؤمن بك أحدٌ، إلا زوجتك سارة وابن أخيك لوط، فهاجرتم سويًّا إلى الله..
"إني مهاجر إلى ربي.."
من العراق إلى فلسطين، لتكمل أنت وزوجتك إلى مصر.
وفي مصر تستمر حكايات الابتلاء..
حكاية زوجتك مع الملك الظالم التي انتهت بخوفه واستغاثته بجنوده الذين قاموا بإهدائها أمَةً تُدعى هاجر، ثمّ منها عدتم إلى فلسطين.
(7)
زوجتك سارة رأتك وقد كبِرْتَ، وهي كبِرَت، قلت فرص إنجاب الطفل، ولأنها علمت برغبتك، اقترحت عليك الزواج من هاجر.
كنت تحبّ سارة، لكنك تواقٌ للولد، فأجبتها، ثم جاء على الكِبر إسماعيل، فرحْتَ لتفرح الدنيا معك،
دبّت الغيرة في قلبِ سارة، ليوحي الله إليك أن تهاجر إلى مكة مع هاجر وابنكما.
(7)
في الأرضِ القاحلة
بين جبال وواد
غير ذي زرع وماء
والزاد قليل،
يوحي إليك الله بترك هاجر وإسماعيل في هذا المكان
فتستجيب له.. لتلحقك هاجر: "لمن تتركنا؟"
فتصمت، فتسألك ثانية فتصمت، فتسألك ثالثة وتصمت، ثمّ تدرك هي بأنه سبحانه أمرك فتسألك لتجيب بنعم.
وتقرّ هي "إن الله لن يضيعنا فاذهب كما أمرك"..
نفد الماء، ونفد الطعام
ولم يأتِ أحد بعد!
هي على يقين بأن الله لن يضيعها
لكن طالت المدة، وولدكما الرضيع يبكي بشدة،
سعيًا تركض إلى الصفا ثمّ إلى المروة ثمّ إلى الصفا حتى أتمتها سبعًا..
ثمّ إذا بجبريلَ يأتي بالغيث بأمر الله، ضرب الأرض بجناحيه ليتدفق الماء تحت قدمي إسماعيل.. فشرب وشربت هاجر حتى ارتويا..
من تحت قدمي ابنك ولدت أسباب الحياة، وبدأت قوافل العرب تقصد الأرض القاحلة..
(8)
كبر إسماعيل، وهو يلعب بين يديك، أحببته أكثر، وتعلقت به بشدة، وهنا تبدأ قصة ابتلاء آخر..
فجأةً؛ ذات يومٍ ناديت إسماعيل: إني أرى في المنام أني "أذبحك"، لم يحتج! لم يخف! لم يتعجب! بيقينه الذي ربيته عليه قال لك: "يا أبتِ افعل ما تؤمر"..
إيمانٌ فأمان.
وضع إسماعيل رأسه على التراب..
رفعتَ سكّينًا بيدك، وقبل تنفيذ المهمة:
قال لك: "يا أبتِ ضع وجهي على الأرضِ حتى لا تنظر إلى وجهي وترحمني"، وبقلوبٍ خاشعة خاضعة، بدأتما تنفيذ المهمّة..
لكن السكّين لم تقطع، قال لك ابنك: "اشدد يا أبي"، والسكّين لم تقطع، "يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا"، وانتهى البلاء ونزل الكبش فداء!
من يمكن أن يفعلها إلا أنت؟
وأيّ ابن سيخضع إلا ابنك..
فسلامٌ عليك يا إبراهيم
(9)
عاشت هاجر وإسماعيل في الوادي
وكنت تمرّ عليهما بين حينٍ وآخر، تتفقد أحوالهما..
ذات يومٍ مررت عليهما وقد جاءك أمرٌ من الله وأخبرت إسماعيل به، يا إسماعيل، الله يأمرني أن أبني بيتًا له".
فأخذ هو يجمع الحجر، وأنت ترفع القواعد، تبنيان بيتًا للهِ بمكة، وهو "أول بيتٍ وضع للناس".
وأنتما تأتيان بالحجر والقواعد، لم تتوقفا عن الدعاء: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
إحدى زوايا البيت ظلت بحجر ناقص، فكسل إسماعيل عن إحضارها، ليأتي جبريل ويعطيك حجرًا من الجنة.
أتدري؟ لا زال الحجر في مكانه هنا في مكة، حجر مبارك إلى يومنا هذا، وسمي بالحجر الأسود.
بعدما انتهى البناء.. أمرك الله:
"أذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق".
وكنت تقول يا ربي ليس هنا أحد فمن يسمع؟
فقال لك: عليك النداء وعلينا البلاغ.
فوق الجبل، صدحت بصوتك: "أيها الناس إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج فحجوا".
سمعك كل الناس، بل وكل ما بين السماء والأرض، حتى النُّطَف في أرحام الأمهات سمعت صوتك، ولا زلنا نردد أذانك حتى اليوم.
أذّنت فيهم فلبوا النداء مقبلين بالخيل والأنعام يقصدون البيت، وكان الحج.
(10)
بين سارة في فلسطين وهاجر في مكة
كنت بينهما تتفقد أحوالهما وتعتني ببنيك،
ما أعدلك!
آمنت، هاجرت لله، بنيت بيت الله، اطمأننت،
ولم تكتفِ،
وليزداد اطمئنان قلبك، "ربّ أرِني كيف تحيي الموتى"، يا رب آمنت لك وأسلمت لكن أريد أن أرى ليطمئن قلبي"..
بين الجبال وزعت أجزاء الطيور، وأنت مؤمن،
ليجمعها الله بدعوةٍ منك وتأتي لك سعيًا وتطمئن.
(11)
وظللت تدعو بين أرجاء الأرض
حتى كبر بك السن، ضعفت قوتك
وحان ميعاد المنية..
وأنت أبا الأنبياء، خليل الله، وقد اصطفاك..
توفيت، وجعلك عند البيت المعمور في السماء، البيت الذي تطوف حوله الملائكة..
مستندًا بظهرك عليه،
وكلّ طفلٍ يموت يلتقي بك..
ما أسعد الأطفال بهذه العطيّة!
________
سيدي الخليل:
انتهت هنا حكايتك، وبقي أثرك..
بنيان الكعبة، بئر إسماعيل، سعي هاجر، كبش الفداء، أذانك للحج، كلهم باقون بعدك، نزداد طاعةً إلى الله بها، أحبك الله كثيرًا واصطفاك وجعل حكايتك آياتٍ لنا، فسلامٌ عليكَ يا إبراهيم.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: حميد نجاحي