قد يبدو العنوان غريبًا بعض الشيء، ولكنني اخترته بعناية فائقة لأطرح ما أود طرحه بكل شفافية، وعن قناعة تامة أيضًا، إنني اليوم في الثانية والأربعين من العمر، إنني باعتباري إنسانًا على وجه البسيطة سيعيش ما شاء الله له أن يعيش ولكن إن طال عمري فقد يصل المئة مثلًا ولو تجاوزها قليلًا فهذا في علم الغيب، ولكنني أفترض أنني سأعيش ثمانين سنة، وقبلي يقول زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ

وأنا اليوم تجاوزت الأربعين يعني ضمنت أربعين سنة خلت على علّاتها وأتطلع إلى الأربعين المقبلة إن قدر لي أن أعيشها كما أفترض والأعمار بيد الله أولًا وأخيرًا.

 

     سوف أطرح من الأربعين الماضية عشر سنوات هي الطفولة التي عشتها، ويتبقى ثلاثون كلها دراسة وقراءة وكد وجهد وكبد وكدح وعمل وكفاح، أنهيت دراستي، توظفت، تزوجت، صرت رب أسرة، سافرت، بينت مسكنًا متواضعًا، جعت، وطرقت أبوابًا شتى أطلب الرزق من خلالها، سهرت كثيرًا وخدمت الآخرين بمقابل ومن دون مقابل، حرمت نفسي وعائلتي كثيرًا من متع الحياة كالسفر والتسوق، تحملت الكثير من الغربة، والديون أيضًا، فأنا إلى هذه الساعة التي أكتب فيها عشت قرابة 18 سنة بعيدًا عن بلدي، وقبلها عشت أيامًا متفرقة وشهورًا أيضًا خارج الوطن منذ أن كنت طالبًا في الثانوية العامة، حاولت بكل السبل أن أدّخر ما أستطيع ادّخاره وحوّلت مبالغ كبيرة من المال لأهلي، لدرجة أنني لا أبقي لنفسي ولا لأولادي إلا اليسير الذي بالكاد يكفي مصروفنا اليومي، قضيت الساعات الطوال في ورش التصليح لأنني أشتري سيارات قديمة، وأعطالها كثيرة جدًا وتستهلك نصف ميزانيتي التي هي بالأصل ضعيفة ولا تقوى على التحمل، ساعدت أبي وأمي وإخوتي، وبعض أصدقائي في مصاريف الحياة، فلم أجن ثروة ولم أحقق ما كنت أحلم به منذ الصغر، حملت مسؤولية كبيرة تجاه أسرتي الكبيرة، وخرجت بنتائج هزيلة جدًا، فالجميع ربما غير راض عني، ولكنني راضٍ عن نفسي تمام الرضا.

     عملت في مهنة التعليم لسنوات متنقلًا بين التدريس والإشراف والنشاط المدرسي لمدة لا تقل عن خمسة عشر عامًا، ترجمتها في كتاب خاص صدر في هذا العام 2018، بعنوان: (رسالة إلى معلم الصفوف الأولية)، وعملت لسنة واحدة في وطني وغادرته دون أن أقبض فلسًا واحدًا، ووكلت أبي بقبض المبلغ فاستلمه بعد جهد وعناء إلى أن يسر الله لي العمل في شركة جيدة، وصار دخلي أفضل من ذي قبل وفتحت النافذة التي أغلقتها على نفسي وحيدًا في الظلام، أدور حول نفسي، أشبه بثور الساقية الذي يدور طيلة النهار في مسار واحد ليخرج الماء من البئر، هذا ما كان بشأن الأربعين الماضية.

     أما الأربعون المقبلة، أو بالأحرى التسعة والثلاثون الباقية حسب افتراضي، فأريد أن أعيشها كما أود بلا ضغوطات، بلا قلق، بلا انتظار، بلا ترقب، أقوم بالعمل الذي أحبه فقط، أقرأ كثيرًا، أحب كثيرًا الخير والناس والطبيعة والأشجار والطيور والعصافير، أبتعد عن التباغض والشحناء، أمارس الرياضة كثيرًا، أسافر بعيدًا، أخرج مع عائلتي في نزهات برية، أسبح في البحر، أشاهد التلفاز، أغني بمرح، أكثر من قراءة القرآن، أصلي كثيرًا، أعتمر، أبر بوالدي أكثر، أعطي جل وقتي لأبنائي وعائلتي، أسعى لتطوير مهاراتي، أتعلم لغات أجنبية، أقرأ بعيدًا عن تخصصي، أؤلف الكتب كي تبقى أثرًا لي بعد رحيلي، أشارك في أعمال تطوعية، أكتب أكثر، فإن كان معدل القراءة لدي ساعتين في اليوم أضاعفه إلى أربع، أصحو باكرًا، أنام باكرًا، آكل غذاء صحيًّا، أحاول الاختلاء بنفسي كل يوم ولو ربع ساعة، أتأمل بصمت، أكون واضحاً مع الآخرين، بسيطًا في التعامل، صريحًا في المعاملة، أقول لا، لمن يريد إزعاجي، أو يكلفني ما لا أطيق، وقد كنت في السابق لا أقول لا لأحد، سواء كان أخًا أو صديقًا أو رب عمل، أعتذر بلباقة وفصاحة دون أن أشعر بالخجل أو التقصير تجاه الآخرين.

     أفكر في الهجرة إلى أوروبا كي أحصل على راتب تقاعدي يضمن لي عيش الكفاف حين أصبح عاجزًا عن العمل، وأحصل على جواز سفر آخر يمنحني حرية التنقل كالعصافير، وكذا أولادي، أضمن تعليمهم المجاني وطبابتهم، أزوجهم لينطلقوا خارج العش الذي درجوا فيه، أعيش بحرية وحيوية ومرح، أريد أن أموت واقفًا كالنخيل لا مريضًا، بعيدًا عن الهموم والأحزان والتعاسات، لا أريد أن أبقى محاصرًا في دائرة الموت والترقب الممل، لا أريد أن أتحمل مزيدًا من المسؤوليات تجاه أهل أو صديق أو عائلة.

لو كل واحد سأل نفسه السؤال التالي: ألا أستحق أن أتقاعد من عملي المرهق؟ هل الحياة أكل وشرب وتزاوج فقط؟ إلى متى وأنا أشرب فنجان قهوتي على عجالة دون أن أستمتع بطعمه اللذيذ تحت لساني؟ لماذا أنهض باكرًا كل هذه السنوات من عمري لأركض وراء الريـال، حتى أصبحت آلة صرف للنقود فقط، أو مجرد آلة وسائق يوصل الأولاد صباحًا إلى مدارسهم، ويلبي طلباتهم في المساء دون أن يترك لنفسه برهة يلتقط من خلالها أنفاسه المتعبة، وحتى في العمل تأتيه رسائل [الوتساب]: [بابا]: اطبع لي بحثاً عن الجراثيم، [بابا]: اطبع لي صورة عن أمراض جهاز الهضم لأن أستاذة العلوم طلبتها في الإذاعة.

     وفي المساء: فلان يريد كراسة للغة الإنجليزية، وفلانة تريد عباءة التخرج عند الخياط، والصغيرة تريد زجاجة حليب، وأي مشوار يستهلك ربع الساعة، فهو يحتاج إلى ضعفيها تقريبًا في ظل الزحام الذي يملأ شوارع الرياض، وربما تحتاج ضعف المدة لأي مشوار قصير فقط للبحث عن موقف لسيارتك.

     أهكذا يظل الأب خلف المقود كي يلبي طلبات أبنائه المتلاحقة؟ وتظل الأم خادمة منزلية تعد الطعام وتغسل الأطباق والملابس وتكوي وتنظف وتعيد ترتيب المنزل كل صباح، وتستقبل الزائرين، وتشهد المناسبات، وتلبي الدعوات؟

     أنا عن نفسي أميل بشدة نحو استغلال الأربعين المتبقية بكل دقائقها وثوانيها بما يدخل البهجة على قلبي ويمدني بالطاقة الإيجابية لكي أعيش بسلام مع نفسي ومع الناس حولي، أما أنت عزيزي القارئ فلك حرية الاختيار وكن على ثقة بأنك كلما أعطيت أكثر  كبلت نفسك أكثر، وكلما عرفت أناسًا كثيرين فقد ترتبت عليك مسؤوليات جسام تجاههم، ولكن احرص على تعلم المفيد النافع وتطوع لخير الآخرين دون أن يكون لأحد منة عليك بدفع مبلغ من المال، وفي النهاية لكل شيخ طريقته.

 

التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية