إن التعليم الجيد يجب أن يبنى على أساس أنه ليس هناك شيء أبدي ومؤكد طوال الوقت وأن هناك جواب لكل سؤال. وهكذا فإن هدف التعليم هو تسليح المتعلم بالقدرة على التفكير المنطقي والتفكير الناقد والقدرة على استشراف المستقبل أي التعليم الإنساني الحق. فالمهم أن نتجه إلى التعليم الإنساني الذي يلبي احتياجات واهتمامات الأطفال والشباب الذي يركز وينصب على نمو وتطور الشخصية. وبذلك نضمن استمرارية التعلم والتعليم طيلة دورة الحياة بتوجيه ذاتي في بيئة صحية دون تهديد من أي اتجاه ومن أي نوع.

إن عملية التعلم والتعليم ليس فقط من أجل حياة أفضل أو وظيفة أفضل أو أنها كما تتبجح الحكومات على أنها ثروة وطنية ولكن يجب أن تكون هذه العملية من أجل إثراء الروح الإنسانية ونوعية الحياة ومن أجل الصحة الاجتماعية ونواة لمجتمع ديموقراطي.

إن مصطلح التعليم الإنساني عموما يستخدم لوصف مجموعة متنوعة من النظريات والممارسات التعليمية الملتزمة بنظرة العالم والقواعد الأخلاقية الإنسانية. أي المفترض هو تعزيز التنمية البشرية والرفاهية والكرامة كهدف نهائي لعموم الفكر والعمل الإنساني – ما بعد المعتقدات الدينية والإيديولوجية، أو المثل والقيم الوطنية. على أساس فلسفي وتقاليد أخلاقية قديمة من الأديان والفلاسفة اليونانيين إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحقوق الطفل للأمم المتحدة والالتزام بالإنسانية وأكثر من ذلك يعني تبني المبادئ الأساسية الثلاثة التالية:


أولا، المبدأ الفلسفي ويتكون من مفاهيم الإنسان كمستقل وعقلاني ومحترم لجميع البشر لكونهم يتمتعون بحرية الإرادة والتفكير الرشيد والضمير الأخلاقي والقوى الخلاقة المبدعة.
ثانيا، المبدأ الاجتماعي والسياسي ويتألف من الأخلاقيات العالمية لحقوق المساواة والمعاملة بالمثل والتضامن والنظام السياسي التعددي- ديمقراطية عادلة وإنسانية.
ثالثا، المبدأ التربوي الذي يتمثل في الالتزام بمساعدة جميع الأفراد لان يحققوا قدراتهم الكاملة "ليتمتعوا"، على حد قول مورتيمر ادلر " بقدر الإمكان، بجميع الطيبات لتي تجعل حياة الإنسان جيدة بالقدر الكافي.

تاريخيا، يمكن إرجاع التعليم الإنساني إلى الفكرة المحورية التي تعود إلى "النظام اليوناني الكلاسيكي للتعليم والتدريب، والذي جاء ليشمل الجمباز، والقواعد، والبلاغة، والشعر، والموسيقى، والرياضيات، والجغرافيا، والتاريخ الطبيعي، وعلم الفلك والعلوم الفيزيائية، وتاريخ المجتمع والأخلاق، والفلسفة - دورة تربوية كاملة من الدراسة اللازمة لإنتاج التعلم" أدلر (١٩٨٢). وبعد بضعة قرون من زمن روما القديمة والوسطى وحتى القرن الثامن عشر كان التعليم الإنساني والليبرالية الإنسانية مصطلحين مترادفين يصنفان للتعليم المناسب للإنسان الحر. والهدف من مثل هذا التعليم هو تحقيق كامل للحياة البشرية السوية مع امتلاك الثقافة والروح.

ولكن في القرنين الماضيين، تحولت الاتجاهات الثقافية التنويرية إلى العلم والتفكير النقدي والليبرالية والديموقراطية والمساواة – مما انعكس ذلك على تغيرات في النظريات والممارسات الإنسانية في التعليم. فقد أصبحت أكثر ديموقراطية وتعددية ومنفتحة وحرجة وحساسة ومراعاة الثقافة فضلا عن الاختلافات الفردية واحتياجاتها. وعلى التربويين المعاصرين أن يتشاطروا الالتزام بأنسنة طلابهم في جو من الحرية الفكرية والأخلاقية، واستقلالية، وتعددية، وديموقراطية. وهم يسعون جاهدين لتوفير نوع من التعليم الذي يحرر طلابهم من أغلال الجهل والتعصب والتحيز والاغتراب والوعي الزائف، من جهة، ومن جهة أخرى تمكنهم من تفعيل الإمكانات البشرية والذي يؤدي إلى الاستقلال الذاتي الكامل وإنجاز الحياة البشرية.

نظريا، يمكن تصنيف التعليم الإنساني الى أربعة أشكال متميزة:
الأول، يمكن أن يطلق عليه الكلاسيكي الذي يفترض أصلا وجود مثال الانسان الكامل. ينبغي ان تكون هذه الطريقة عالمية وموضوعية نموذجا لتنظيم التعليم لجميع البشر. وكما ذكر آنفا، فإن أصول هذا الشكل من التعليم الإنساني تكمن في أثينا القديمة، خصوصا في أفكار بيرسليز وبروتاغوراس وسقراط وأفلاطون وأرسطو. وبعد بضعة قرون استند التعليم في المذهب الإنساني على برنامج ستوديا هومانيتاتيس باللاتينية (Studia Humanitatis) والذي يشمل دراسة 5 علوم إنسانية: الشعر، والنحو، والتاريخ، والفلسفة الأخلاقية، وفن الخطابة (البهيجي، ٢٠١٧).

وبما أن العلوم الإنسانية تعتبر إطارا معياريا والتعليم التكويني للحرية الشخصية التي تهدف إلى اتخاذ القرار السليم والطباع النبيلة. وكانت الحقبة الأولى هي الحقبة التي سموا فيها أنفسهم الإنسانيين. هؤلاء الإنسانيون كانوا مصممين على تحرير أنفسهم من الجهل والتعصب للرأي والحرية والكرامة التي لا ينتجها الإنسان إلا إذا تم اكتسابها وتمت مملرستها. وهؤلاء الإنسانيون أيضا هم الذين أسسوا محور الفكر في جميع التعليم الإنساني التقليدي الذي اعتمده هتشينز(١٩٥٤) وآدلر(١٩٨٢) حيث "لا يعتبر الشخص متعلما إلا إذا تعرف على روائع تقاليده" و "أن أفضل طريقة لتعليم ليبرالي في الغرب يكمن في أعظم الأعمال التي أنتجها الغرب". وأخيرا، من عصرالتنوير الى نهاية القرن العشرين، مع أفكار كانط وميل وأرنولد ونيومان وباببيت وهتشينز وليبينغستون وماريتان وآدلر وكيرك وآخرون أصبح التعليم الإنساني الكلاسيكي أكثر عدلا وليبرالية. كما جاء على لسان بيير باولو فيرغيريو أن التعليم الإنساني يتضمن "هذه الدراسات التي تجعلنا نحقق ونمارس الفضيلة والحكمة. وأن التعليم الذي يدعو الي المستقبل ويدرب أو يطور تلك الهدايا العظيمة سواء الجسدية أو العقلية التي تشرف الإنسان."

والشكل الثاني للتعليم الإنساني الشائع المعروف باسم الرومانسي، الطبيعي أو العلاجي. فهو ظهر لأول مرة في القرن الثامن عشر مع كتابات روسو الذي حمل هاجس التقدم الحضاري، موسوعي المعرفة، استبداديه التعليم والسعي للوضع الاجتماعي الموجه لفساد الشخصية البرجوازية. روسو طرح بديلا لتصور حياة طيبة ينسب الخيرفيها لطبيعة الإنسان ونزعاته ذاتية التنظيم، ولعفوية القوى الطبيعية، وللتوجيه الذاتي والأصالة الشخصية. والإنسان الجيد، كما يدعي روسو، هو الذي يظهر المشاعر التي تندمج مع العقل والمصلحة الشخصية مع المصلحة المشتركة. هذه الصور الجديدة لخير الإنسان والتعليم الطبيعي ولدت في القرنين التاسع عشر والعشرين تغييرا متعدد الطابع في المؤسسات التعليمية النظرية والممارسة. وفي مدارس التربية الحديثة في التفكير بستالوزي، فرويبيل، ديوي، نيل، روجرز، ماسلوو، كمب، وغيرهم، نواجه جميع بديهيات روسو الأساسية. وأضافوا حاليا مفاهيم مألوفة مثل الرعاية والنمو وتحقيق الذات، والتنظيم الذاتي والثقة والخبرة والأصالة، والمناخ الديموقراطي التربوي- كلها لتعزيز ظروف استمرار تصنيع الشباب وتقرير ذواتهم الشخصية. وخلاصة القول أن الرومانسية كشكل تعليم إنساني يمكن أن يتميز عن الفرضية الأساسية التي توجد في كل واحد منا "الطبيعة الداخلية"، وأن يدفع لتحقيق الذات وفقا للقانون المدمج – نحو وجود سليم وكامل الإنسانية. ولذلك أن التربية الحقة هي "استخلاص" اليقظة وتحقيق الذات من الطبيعة الداخلية للفرد.

أما الشكل الثالث للتعليم هو وجودي إنساني، قائم أساسا على أفكار، نيتشة وكيركيغارد، يشب، سارتر، كامو، وبريمو إن التربويين الوجوديين يرفضون الفكرة التقليدية للبشر على أنهم "كائنات عاقلة" فضلا عن الفرضية الرومانسية على أنه يوجد في كل واحد منا "طبيعة داخلية" أو "ذات ثابتة" وأنها جيدة ومميزة. وأن البديل المتقدم لمعظم الوجوديين هو أن جوهر الإنسان هو الحرية، وفي مسألة القيم لا يمكن للبشر اللجوء الى سلطة خارجية، سواء طبيعية أو خارقة. كما طرحها سارتر، "وجودية الإنسان"، "الإنسان لا شيء، ولكن هو من يجعل من نفسه شيئا". ولهذا إن حياة الإنسان الحقيقية، تظهر الإحساس الحاد والاهتمام الذاتي والقبول بحريته ومسؤوليته ليصبح نوع الشخص الذي سيصبح عليه في نهاية الأمر. وفي ضوء هذه الأفكار الفلسفية والأخلاقية.

الشكل الرابع من التعليم الإنساني ما يعرف، في معظم الأحيان، بالتعليم الراديكالي أو التربية النقدية مع نظريات فريري، أبل، جيرو، سيمون، وكوزول التربوية. من هذا المنطلق، للنظر في القضايا التربوية بعيدا عن السياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ينطوي إما على جهل مطبق أو سخرية، إن لم يكن إجراما وخداعا. إن الفقر والجريمة وإدمان المخدرات والتشرد والحروب والأزمات البيئية، والانتحار، والأمية، والتمييز ضد المرأة والأقليات العرقية، وتفكك المجتمعات والأسر، إلى مسميات بعض مشاكلنا الأكثر إلحاحا، هي حقائق الحياة التي لها تأثير مباشر على النمو البدني والعاطفي والفكري والأخلاقي للغالبية العظمى من الأطفال في ثقافتنا.
ومن هنا المربون الراديكاليون يقولون "يجب أن تصبح التربية أكثر سياسية والسياسية تصبح أكثر سياسية". وهذا يعني ثلاثة تغييرات هامة في نظامنا التعليمي. وهو يتطلب:
(أ) أن التعليم والسياسة والخطاب والممارسة تتعامل مباشرة مع مفاهيم القوة والنضال والطبقة والجنس، والعدالة الاجتماعية، والإمكانية.
(ب) أن يهدف المعلمون إلى تحرير وتمكين طلابهم نحو الوعي الناقد والتأكيد على وجهة النظر التي تسمح للناس من السيطرة على حياتهم.
(ج) إن المعلمين كما يقول جيرو، "نضال جماعي كمثقفين في التحول ... لجعل المدارس ديموقراطية لجميع الأطفال، بغض النظر عن العرق والطبقة والجنس، والعمر لأن يتعلموا أن يكونوا قادرين على المشاركة الكاملة في النضال المستمر على جعل الديمقراطية الوسيلة التي تمدهم بالإمكانيات ليتمكنوا من العيش الكريم في مجتمع عادل.

ورغم الاختلافات بين هذه الأشكال الأربعة للتعليم الإنساني، كما يبدو ذلك في مشاريع أنسنة التعليم كلها تقبل فكرة وايتهيد (١٩٦٧) أنه "ليس هناك سوى موضوع واحد للتعليم، وهو الحياة في جميع مظاهرها". إن عمل التعليم الإنساني لا يعدو عن تمكين الأفراد إلى ما يؤدي إلى حيوية الحياة السليمة التي تتميز بيقظة وتفكير مدروسين وسلوك أخلاقي ومشاركة سياسية ومشاركة حقيقية في الحياة وتقدير الجمال في الطبيعة والفن. إن المربين الإنسانيين يجب ان يسعوا إلى تطوير أشخاص متكاملين في الحكمة والمسؤولية. إن المثالي هو تحقيق التكامل في طلابهم، فضلا عن الارتباط بين حق الالتزام والأصالة. وأخيرا، لتحقيق كل ذلك، إن المعلمين الإنسانيين يتحملون المسؤولية الشخصية أن يكونوا مثالا في فن الحياة، فضلا عن خلق جو تربوي في مدارسهم يتصف بالرعاية والدعم والثقة والحوار والاحترام والتسامح والإنصاف، وتحقيق الحرية والالتزام والمسؤولية والمعاملة بالمثل. وبدون هذه العناصر الأخيرة، حتى أعظم نظريات التعليم الإنساني لا تصبح واقعا يعيشه المعلمون والطلاب.


المصادر

1. البهيجي، إيناس محمد (٢٠١٧). تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، مركز الكتاب الأكاديمي.
2. خليل، سعادة (٢٠٠٩). إعداد الأطفال لتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، شمس للنشر والتوزيع، القاهرة.
3. خليل، سعادة عبدالرحيم (٢٠١٣). توجهات معاصرة في التربية والتعليم، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزي، بيروت.
4. خليل، سعادة (٢٠٠٤). الفروقات الفردية بين الطلاب كيف نفهمها؟، دار ناشري للنشر الإليكتروني.

5. Adler, M. (1982). The Paideia proposal. New York: ةMacmillan.
6. Aloni, N. (2002). Enhancing humanity: The philosophical foundations of humanistic education. Dordrecht/Boston/London: Kluwer, 230 pp. New paperback edition, by Springer press, March 2007.
7. Aronowitz, S., & Giroux, H. (1985). Education under siege: The conservative, liberal, and radical debate over schooling. New York: Bergin & Garvey.
8. Giroux, H. A. (1989). Educational reform and teacher empowerment. In H. Holtz, et al. (Ed.), Education and the American dream: Conservatives, liberals, and radicals debate the future of education. Massachusetts: Bergin & Garvey.
9. Hutchins, R. M. (1954). Great books: The foundation of a liberal education. New York: Simon and Schuster.
10. Kurtz, P. (1982). The humanist alternative. New York: Prometheus.
11. Sartre, J. P. (1979). In W. Baskin (Ed.), Essays in existentialism. Secaucus: Citadel Press.
12. Sopova, J. (Ed.). (2011). Humanism: A new idea: The UNESCO courier. Paris: UNESCO.
13. Whitehead, A. N. (1967). The aims of education and other essays. New York: Free Press.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية