بعد أربعين عاماً... كنتُ أَوَدُّ لو تَرَكَتُ " خَوَاطِرَ في زَمَنِ المِحْنَةِ " كما هو في مَادَّتِهِ "الخَامِ " الأُولَى، التي كُتِبَ بها، ما بين عَامَي 1975 و 1985، بِقَلَمٍ شابٍّ غَضٍّ ثَائِرٍ، لكن مُرورَ أربَعَةِ عُقُودٍ على الكِتَابِ وكاتِبَتِهِ، واِلْتِبَاسِ بَعضِ الصِّياغاتِ اللُّغَوِيَّةِ، كما بَعْضِ المعانِي الهامة في الأذهان، وتَطَوُّرَ فَهْمِنا المُعَاصِرِ لبعض المَسَائِلِ والمُصْطَلَحَاتِ، وضَرورَةَ التَّوَجُّهِ بالكتاب إلى شَرِيحَةٍ أكبر وأوسع من الشَّرِيحَةِ التي اِنْطَلَقَ من بِيئَتِهَا وكُتِبَ لها في حِينِهِ . .. كُلُّ هذا اِسْتَدْعَى اليوم القِيَامَ بهذه المُهِمَّةِ "شِبْهِ المُسْتَحِيلَةِ"، وهي: إِعَادَةُ كِتَابَةِ الكِتَابِ مِنْ جَدِيدٍ، وتحديثُ وتَوثيقُ نُصُوصِهِ، مع محاولة الحِفَاظِ على أفكارِه وأسلوبِه ورُوحِهُ ولُغَتِهِ الأَصْلِيَّةِ.
لاقَى الكِتاب - بفضل اَللَّهِ تعالى- خلال العُقودِ الأربعة السَّابقةِ، إِقْبَالاً مُلْفِتًا، مِنْ قِبَلِ شَرِيحَةٍ واسِعَةٍ مِنَ الشَّبابِ - والإِسلامِيِّينَ منهم على وجه التَّخْصِيصِ- وفي كافَّةِ بُلْدانِ المِنْطَقَةِ العربيَّةِ وخارِجَها، ودون أي نوع ٍ مِنْ أنواع الدّعَايَةِ أو التَّرْوِيجِ، و ما زال الأمر كذلِك حتى اليوم في عَصْرِ مَواقِعِ التَّوَاصُلِ الإِلكترونيَّةِ - الاِجتِماعيَّة .. وربما كان ذلك بسبب عَفويَّتِهِ ومُخاطَبَتِهِ الشباب بِلُغَتِهِمْ وطَرِيقَةِ تَفكِيرِهِمْ.
ومن المُثِيرِ لِلْعَجَبِ والرَّوْعَةِ مَعًا، أَنَّ "خَوَاطِرَ في زَمَنِ المِحْنَةِ " كان كتاباً "فَيسْبُوكِيًّا- تُوَيْتِرِيّاً" قبل اِختراعِ الفَيْسَبُوكِ والتُّويتِر بثلاثين عامًا! إذ اِسْتَخْدمتُ " فَنَّ الخَاطِرَةِ "، الذي لم يكن مَطْرُوقًا بشكلٍ كبيرٍ في السَّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ .. أما الآن فقد أَصْبَحَ "فَنُّ الخَاطِرَةِ"، الأكثر رَوَاجًا بين الشَّبَابِ كِتَابَةً وَتَأْلِيفًا وقِرَاءَةً .
ولعل أَبْلَغَ ما قيلَ في هذا الباب، هو ما سَجَّلَهُ الكَاتِبُ البَرَازِيلِيُّ ذَائِعُ الصِّيتِ بَاوْلُو كَوِيلْلَّوْ، بِقَوْلِهِ : "أَنْ تُوَيْتِّرْ هو أَنْ تَصْطَادَ البَحْرَ فَتَجْعَلَهُ في كَأْسِ مَاءٍ " ! و"تُوَيْتِّرْ" -هنا- تعني أن تَكْتُبَ في مَوقع "التُّوِيْتِّرْ" الشَّهيرِ، وهو وَصْفٌ "فَاتِنٌ" حَقيقَةً، لِمَا يَكْتُبُهُ مُرْتَادُوا موقع التُّويتِّرْ مِنْ خَوَاطِرَ مُقْتَضَبَةٍ تُؤَدِّي مَعَاني عَظِيمَةٍ.
ومِمّا يجب تَسجيلُه، بين يَدي هذه الطبعة من "خَواطِر في زَمن المِحنَة"، أن هذا الكتاب كانت قد صَدَرَت الطبعة الأولى منه، باِسم "يمان السباعي"، في زمن لم نكن نكتبُ فيه بأسمائنا الصَّريحة .. حيث كان الاِعتِقال والتَّعذيب وفَرم الأيدي بآلاتِ فرمِ اللَّحم، مصير كلّ من يتجرأ فَيَكتُب خارج السِّياق في مملكة الرُّعب والأهوال! ويعود اليوم لِيَصدُر باِسمي الحقيقي، بعد رحلته الطويلة بين مختلف المطابع والمواقع، تارة بصورة قانونيَّة، وفي كثير من الأحيان بصورة غير قانونيَّة.
تَفَضَّل بِتَصميم غلاف هذه الطبعة الجديدة .. المُصمم السوري الفنان "وضاح المصري"، اِعتماداً على بعض لوحاته المتميزة التي صَمَّمها في ثورة 2011، وتَمَّ اِختيار هذه اللوحة " الفَجْريَّة" بالألوان البنفسجيَّة، لأنَّ اللون البَنَفسجي هو لون الفَجر لَدى معظم الفنانين العالميين، فجاء عملاً إبداعياً، جمع بُزوغَ ووَعْدَ الفَجر إلى مَخزونِ رُموزِ التاريخ في الذاكرة السورية ..
أضَع هذه الطبعة بين يَدَيّ القارئ، بعد مُرور أربعين عاماً، وثورةً كبرى اِندَلَعَت عام 2010 من تونس، ما زالت تَشهَد زَلازِلَها بلادُنا حتى كتابة هذه السُّطور، وتَغييراتٍ كبيرةٍ في طبيعة الأجيال الجديدة من شُعوبِنا، التي هَشَّمَت جُدرانَ الخَوف والخَديعَة، وتَحَدَّتْ الوحوش التي تَحكُمُها.. اِنطلقت تُنادي بِحُريَّتِها وكرامَتِها وخلاصِها، تَداعت عليها ضباعُ الأرض لِلَجْمِ ثورتها، فاِمْتُحِنَتْ ونَزَل بأحرارها بَلاءٌ شديد، ضريبةً باهظةً دَفَعَتْها شعوبنا -وما زالت تدفعها- ثمناً لما أصابها من تَرَهُّلٍ و اِرتِكاساتٍ، بعد عُقودٍ من الاِستِبداد المُتَغَوِّل الذي اِستولى على بلادنا وعَمِل على تَدميرها بأوامِر المُستَعمِرين.
ما زال كِتاب "خَواطِر في زَمَنِ المِحْنَة"، ساريَ المَفعول حتى السَّاعة -ساعة إعدادِ هذه الطَّبعة- بأفكاره وتَطَلُّعاتِه، وبِكُلّ أبعادِ الصورة، بعد أربعين عاماً على نشره أول مرة.
إنّه بفضل الله، ونَظَراً لاِنْتِشارِه على نِطاقٍ كبير جداً في مختلف وسائل التَّواصُل الإلكتروني الاجتماعية، ما زال يُمثِّل وُجهة نظر وطريقة تَفكير شَريحةٍ واسعةٍ من الشباب في مختلف بُلدان المنطقة العربيَّة وفي المَهاجِر.. ممّا يَضَعُنا أمام مسؤوليَّة كبيرة، في المُضيّ على ذات الدرب، في مُناهَضَةِ وُحوشِنا الذّاتيَّة منها، ثم الداخليَّة و الخارجيَّة، اِنْقَضَّتْ علينا من كلّ حَدَبٍ و صَوب، لِتُبقي بلادَنا مُستَعمَرَةً، و رُكَبُنا مَكْسورَةً، فلا نَتَمَكَّنَ مِن النُّهوض، ولا الخُروج من مَتَّاهاتِ الذُّلِّ و العَذاب و زَمَنِ المِحنَة ..
إنّ ذلك كلَّه، يَجعَلُنا في مُواجَهةِ أنْفُسِنا أولاً وقبل كلّ شيء، بما يَعنيه ذلك مِن اِمْتِحانٍ حقيقيٍّ لِقُدْرَتِنا على الثَّبات، و تَمَثُّلِ واِلْتِزامِ ما كَتَبناه وما رَفَعناه مِن لافِتاتٍ و شِعاراتٍ خِلال حياتنا.
سَنَسْتَمِرُّ بِعَونِ الله في الطريق، نَتَشَبَّثُ بِحِبال "الأمل بالله"، في مُواجَهَةِ تسونامي "اليَأس" الذي يَضْرِبُ اليوم القُلوبَ والأرواحَ، في زَمَنِ مِحْنَةٍ مُزَلْزِلَةٍ على هامِشِ ثَورةٍ عظيمة تَداعَى المُجتَمَع الاِستِعْماريّ الدُّوليّ وأدواتِه في أرْضِنا لِذَبْحِها...
سَنَتَعَلَّقُ بِسُفُنِ "الإيمان"، وَسَطَ لُجَجّ الكُفْرِ بِقُدْرَتِنا على الإصلاح والتَّغيّير"...
لَيستْ "المَسألَة"، و لم تَكُن، و لَن تَكون .. أنْ نَصِلَ إلى نِهايَة الطريق، مهما كان شكلُ هذه النِّهايَة"، كانت "المَسألَة"، و ما زالت، وسَتَبقى .. مَشْيُّنا في هذه الطريق، ووُجودُنا فيها، نَمضي مع جُمُوعِ السَّائرين.
...................