خرجت علينا في العقدين الأخيرين نظريات عديدة عن التعلم والتعليم متعلقة بالذكاء. وجل هذه النظريات يركز على الجانب الخارجي (المظهر) لعملية التعلم والتعليم ولم تغص إلى أعماق الطالب والى قدراته الفعلية كالذكاء مثلا والقدرة على مواجهة المواقف والمشاكل وايجاد الحلول وتوصيفات لمثل هذه المسائل والمواقف. وفي أوائل الثمانينات من القرن الماضي قام هوارد قاردنر Howard Gardner باعادة النظر جذريا فيما يتعلق بالذكاء وآثاره على التعلم والتعليم وتقدم بنظرية جديدة مفادها أنها تقوم على أساس تميز الفرد عن سواه وأنه لا بد لكل انسان أن يتمتع ويتميز بذكاء خاص به وحده. وأطلق على هذه النظرية "الذكاء المتعدد" Multiple Intelligences وكان لهذه النظرية الأثر الأكبر على عملية التعلم والتعليم حيث غيرت مفاهيم كثيرة كانت تعتبر من المسلمات.

سنحاول في هذه العجالة أن نجيب على أسئلة محددة هي:
• ما هو الذكاء المتعدد؟ وما الفرق بين هذه النظرية ونظريات الذكاء التقليدية؟
• ما هي المبادئ التي تقوم عليها نظرية الذكاء المتعدد وما هي معاييرها؟
• ما هي أنواع الذكاء المتعدد؟
• ماذا تعني نظرية الذكاء المتعدد وأنواعه للطالب والمدرس؟

1. الذكاء المتعدد
إن النظرية التقليدية للذكاء هي عبارة عن حصيلة نتائج الاختبارات والتحليلات الإحصائية التي تخص فردا ما. وإذا كان في مضمون الاختبار شيء من الصعوبة فمن الطبيعي أن نرى بعض الأفراد يتفوقون على أقرانهم في نفس المستوى العمري والتحصيلي. وبالتالي يقال عن هؤلاء المتفوقين نسبيا على أقرانهم أنهم يتمتعون بمعدلات ذكاء أعلى يعبر عنها بالأرقام حيث يطلق عليها معامل الذكاء(IQ).

وهكذا إذن فإن النظرة التقليدية للذكاء جوهرية وأصيلة كالطول ولون الشعر وأي شيء تستطيع قياسه ويستمر مع الفرد مدى الحياة. وهذا ما حمل المدرس التقليدي على الاعتقاد بأن أداء بعض الطلاب أحسن من غيرهم حيث يرجع ذلك الى الاختلاف في قدرات الذكاء الثابتة التي لا تتغير البتة.

إن جوهر الذكاء يحتمل وجهات نظر مختلفة. فعلى المستوى العملي معامل الذكاء يحدد الاختبارات التي تستخدم لقياسه. فالباحثون يقولون إن للذكاء عدة عناصر تؤدي إلى معامل ذكاء واحد يقيس معرفة واحدة.

أما هوارد قاردنرHoward Gardner الذي حسم النقاش والجدال الدائر حول ماهية الذكاء في كتابه المعروف "أطر العقل" Frames of Mind حيث توصل الى نظرية جديدة تختلف كليا عن النظريات التقليدية. إن نظريته ذات معايير أكثر تحديدا من الاختبارات التقليدية التي تتعلق بالمفهوم اللفظي والرياضي. فهو يقول بأنه لا يمكن وصف الذكاء على أنه كمية محددة ثابتة يمكن قياسها. وبناء على ذلك يمكن زيادة الذكاء وتنميته بالتدريب والتعلم. بل أكثر من ذلك فهو يقول بأن الذكاء متعدد وعلى أنواع مختلفة وأن كل نوع مستقل عن الأنواع الأخرى ويمكنه أن ينمو ويزيد بمعزل عن الأنواع الأخرى وذلك باستخدامه واستعماله. فكان لتصنيف (قاردنر) هذا أكبر الأثر على طريقة التفكير في عملية التعلم والتعليم وكذلك على الاختبارات وحتى على طبيعة الأفكار نفسها.

2. مكونات الذكاء عند (قاردنر)
يرى (قاردنر) أن هناك معايير محددة تشكل مهارات الذكاء وهي:
• القدرة على ابداعِ\\انتاج مهم ومؤثر أو على ابتكار طرق ووسائل جديدة في طرح المسائل وحلها.
• القدرة على القيام بحل المسائل ومواجهة المواقف مع الاهتمام بالكيف وليس بالكم أي بإمعان النظر وتفحص الطريقة المتبعة في حل المسائل.
• القدرة على ابتكار مسائل ومواقف جديدة تضيف شيئا جديدا أو معلومات جديدة.


3. المبادئ التي قامت عليها نظرية الذكاء المتعدد
المبادئ كما وردت في أعمال (قاردنر) هي كما يلي:
• إن الذكاء ليس نوعا واحدا بل هو أنواع عديدة ومختلفة.
• إن كل شخص متميز وفريد من نوعه ويتمتع بخليط من أنواع الذكاء الديناميكية.
• إن أنواع الذكاء تختلف في النمو والتطور إن كان على الصعيد الداخلي للشخص أو على الصعيد البيني فيما بين الأشخاص.
• إن كل أنواع الذكاء كلها حيوية وديناميكية.
• يمكن تحديد وتمييز أنواع الذكاء ووصفها وتعريفها.
• يستحق كل فرد الفرصة للتعرف على ذكائه وتطويره وتنميته.
• إن استخدام ذكاء بعينه يسهم في تحسين وتطوير ذكاء آخر.
• إن مقدار الثقافة الشخصية وتعددها لهو جوهري وهام للمعرفة بصورة عامة ولكل أنواع الذكاء بصورة خاصة.
• إن أنواع الذكاء كلها توفر للفرد مصادر بديلة وقدرات كامنة لتجعله أكثر انسانية بغض النظر عن العمر أو الظرف.
• لا يمكن تمييز أو ملاحظة أو تحديد ذكاء خالص بعينه.
• يمكن تطبيق النظرية التطورية النمائية على نظرية الذكاء المتعدد.
• إن أنواع الذكاء المتعدد قد تتغير بتغير المعلومات عن النظرية نفسها.

وبناء على ذلك فذكاء الانسان يجب أن يكون مختلفا عن الذكاء الصناعي مثلا. بحيث يضم في ثناياه صفات انسانية معينة لا يمكن أن تتوفر في الآلة أو الحاسوب. مثل:
• عزل الذكاء عند اصابة الدماغ بأي خلل أو عطب
• امتلاك تاريخ تطوري نمائي
• تفوق بعض الأفراد المتعلمين في الذكاء
• وجود هدف تطويري للذكاء يمكن بلوغه
• سهولة التقويم على المستوى التجريبي أو النفسي أو القياسي
• وجود نظام تمثيلي رمزي

تشكل هذه المعايير والمبادئ أساسا وسلسلة من نقاط التحقق والتثبت التي يجب أن تمر المهارة عبرها قبل أن تعتمد ذكاء حقيقيا. وبناء على ما تقدم أورد (قاردنر) أنواع الذكاء التالية:
• الذكاء اللغوي وهو ما يتعلق باللغة المكتوبة والمحكية
• الذكاء المنطقي – الرياضي وهو ما يتعلق بالأرقام والمنطق
• الذكاء الموسيقي وهو ما يتعلق بالأنغام والألحان والآلات الموسيقية
• الذكاء المكاني وهو ما يتعلق بالصور والخيالات
• الذكاء الحسي – الحركي وهو ما يتعلق بحركة وإحساس الجسم واليدين
• الذكاء البيني (الاجتماعي) وهو ما يتعلق بالتفاعل الاجتماعي مع الآخرين
• الذكاء الشخصي الذاتي (الإنفعالي) وهو ما يتعلق بالعواطف والانفعالات الداخلية للشخص
• الذكاء البيئي وهو ما يتعلق بالطبيعة بما فيها من تنوعات واختلافات

4. الآثار المترتبة على عملية التعلم والتعليم
بينما يتم التركيز في التعليم التقليدي على الحلول والإجابات للمسائل والمواقف التي يتعرض لها الطالب فضلا عن الطريقة المتبعة في التوصل لكل الحلول أو الإجابات، نجد أن نظرية الذكاء المتعدد تقترح عمليات وطرق واستراتيجيات مستقلة عن بعضها البعض لدى كل طالب. فمعظم المسائل الشائكة ومواقف الحياة العملية الحقيقية تتطلب استخدام أنواع متعددة من الذكاء في نفس الوقت. فمثلا عازف (البيانو) لا يستخدم ذكاءه وحسه الموسيقي فقط وانما يوظف ذكاءه البيني الشخصي أيضا ليحافظ على التواصل مع الموسيقيين من حوله وكذلك يستخدم ذكاءه الحسي – الحركي كي يسيطر على مفاتيح البيانو.

وهنا يكمن واجب المدرس في ملاحظة قدرات تلاميذه وأساليبهم في التعلم حتى يكون قادرا على تغيير أو تحسين طرائق التدريس. وهنا يصح القول: إذا كان الطالب لا يتعلم بطريقة المدرس فمن ثم يجب على المدرس أن يعلم بالطريقة التي يتعلم بها الطالب.

كيف يتأتى ذلك للمدرس؟ يتأتى له بالملاحظة الدقيقة لطلابه خلال الدرس مع التركيز على الاستراتيجيات والطرق التي يوظفها الطلاب عند قيامهم بحل مسألة أو مواجهة موقف ما ولا يكون ذلك من خلال إعدادهم لتقديم الاختبارات مثلا. وبمعنى آخر يجب على التعليم أن يركز على استراتيجيات الحلول حتي يتقنها الطلاب ويتوصلوا للإجابة أخيرا. ولا يجب التركيز على مجموعة من المهارات الجامدة أو على الإجابة نفسها. وبهذا المعنى فإن نظرية الذكاء المتعدد تتماشى وتتماهى مع كثير من محاولات التعليم الإصلاحية الحديثة التي تأخذ في الاعتبار أن الطفل هو وحدة متكاملة أي أنه مشروع كامل.

ويستحسن عند تحضير وإعداد الدروس أن يقوم المدرس بطرح أسئلة تساعده على استخدام أكبر عدد من أنواع الذكاء السالفة الذكر. فمثلا يمكنه طرح مثل الأسئلة التالية:
 كيف استخدم الكلمة المكتوبة أو المحكية في هذا الدرس؟
 كيف استخدم الأرقام والحسابات والتصنيفات المختلفة وكذلك المنطق والتفكير الناقد؟
 كيف أقوم بتوظيف الأنغام والآلات الموسيقية في أنشودة مثلا؟
 ما هي الوسائل المساعدة البصرية التي يجب استخدامها وكذلك ما هي الألوان والرسومات والتشبيهات أو الموجهات البصرية المناسبة؟
 كيف يكون توظيف حركة الجسم وكذلك حركات اليد؟
 ما هي النشاطات التي يمكن أن تزيد من التفاعل بين طلاب الصف وكذلك تزيد من مشاركتهم؟
 ما هي الخيارات الفردية التي يمكن تستثير الانفعالات الايجابية لدى الطلاب؟
 كيف استخدم تنوعات الطبيعة وموجوداتها كالرحلات مثلا؟

إن العلاقة بين نظرية الذكاء المتعدد والتعليم بسيطة وعميقة في نفس الوقت. فالطرق المتعددة للتعلم تستخلص الحاجة إلى طرق متعددة للتعليم. والتعليم الموجه بإمكانيات الطلاب الذكائية في الصف يجب أن يصبح طريقة منهجية لجميع المدرسين بحيث تكون مطعمة بالذكاء المتعدد والامكانيات الممثلة في الصف.

ومن هنا فإن نظرية الذكاء المتعدد لا تشير إلى طريقة تعليمية بعينها بل يستطيع المدرس أن يستخلص طرقا كثيرة تناسب الموقف وتناسب المسألة وتناسب كل طالب على حدة حسب معطيات أنواع الذكاء التي يتمتع بها الطالب. وهكذا فإن المدرس هو المنوط باختيار المناسب وإلى أي مدى يقوم بتوظيف هذه النظرية.

إن هذه النظرية تزود المدرسين والآباء كذلك بإطار معرفي عملي كي يتم تفصيل التعليم على مقاس الطالب، إن صح التعبير. فعلى المدرس أن يدرك في صف قوامه ثلاثون طالبا مثلا أنه لا يوجد اثنان متشابهان أبدا على الإطلاق. ومن هنا فأن نظرية الذكاء المتعدد تستوعب كل هذه الاختلافات والفروقات الفردية والتشعبات وتشجع المدرس على تنمية كل طريقة واستراتيجية خاصة بكل طالب على حدة. فعلى سبيل المثال، يمكن للمدرس أن يشرح مفهوم الكسور العشرية باستخدام الذكاء المكاني. حيث يقوم برسم أجزاء الكسور على شكل أعمدة تمثل وحدة قسمة كاملة كالدائرة مثلا. أو يستطيع أن يستخدم الذكاء الموسيقي لايجاد العلاقة ما بين الكسور والنوتة الموسيقية.
وهكذا فالطلاب هم اجدر وأقدر من يوضح ويفسر الطرق والاستراتيجيات التي يفضلونها في التعلم. وعندما يقوم المدرس بتعليم تلك الطرق والاستراتيجيات التي يفضلها الطلاب، عندئذ يستطيع الاختيار إما تعزيز انجازات الطالب المتمكن أو تشجيع الطالب الضعيف لتحسين انتاجه المعرفي.


وخلاصة القول أن نظرية الذكاء المتعدد تقدم لنا إطارا عمليا وجذريا ومرنا يمكننا من خلاله تحقيق الأهداف المحددة للتعليم. وهكذا فإن نظرية الذكاء المتعدد تشبه إلى حد كبير مواءمة الحذاء للفرد فالمقاس الواحد لا يصلح لجميع الأفراد. فمن هنا يجب تنوع وتعدد طرق واستراتيجيات التعليم لتعكس الفروقات والاختلافات الفردية.


.........
المصادر:

- Armstrong, Thomas, “Multiple Intelligences: Seven Ways to Approach Curriculum”, Educational leadership, November, 1994.
- Chipongian, Lisa,Multiple Intelligences in the Classroom, Brain Connection News Letter, May 2000.
- Dehn, N. & Schank, R. C. Artificial and Human Intelligence. In R. Stermberg (Ed.), Handbook of Human Intelligence (Vol. I, pp 352-391), New York: Cambridge University Press, 1982.
- Gardner, H. Frames of Mind, New York: Basic Books, 1983.
- Gardner, H. CTE Technical Report Issue No. 4, Project Zero, Harvard University, March 1990.
- Hanson, E. Simon. A New Approach to Learning: The Theory of Multiple Intelligences, Brain Connection News Letter, May 2000.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية