غريب أمر هذه الحداثة التي ما إن تقرا لواحد من نقادها فكأنما تقرا الجميع،وغريب أمر ثقافتنا التي عرفت أساتذة متعصبين لإعلام حداثيين لاينون يذكرونهم متباهين مكررين قائمة المصادر الأجنبية التي يرجعون إليها والأسماء الإفرنجية التي يغرفون من مصادرها،ولا هم لهم غير الظهور بمظهر العارف الذي يطل على القراء من برج عال يشفق على من لا يعرفون لغة أو مصطلحا أو مؤلفا أعجميا ،لدرجة يصبح معها المثال "سوسير"أو"بوشلار"أو"رولان بارت"أصناما لابد من الطواف حولهم والتبرك بهم على طريقة الجاهلية الأولى،حتى أن مصطلحات هؤلاء النقاد تبدو مرتبكة غير محددة الملامح يجد القارئ نفسه ضائعا بين مصطلح النقد الحديث والحداثة والرواية الجديدة والرواية الضد والرواية النفسية وتيار الشعور والعدمية واللاشيئية والوجودية. ينسحب ذلك على الأعلام من الكتاب الذين يوضعون في مدرسة واحدة،رغم الفروقات المنهجية والتاريخية بين كل منهم،،حيث نرى كافكا"جنبا الى جنب مع "صموئيل بيكيت"في التيار العبثي و"سارتر"يقارن بيونسكو"ككاتب طليعي.
هذا الخلط يربك القارئ الذي يصل إلى مرحلة لا يميز فيها بين البنيوية وما بعد البنيوية ،والحداثة وما بعد الحداثة والسيميولوجية والتشريحية والأسلوبية والألسنية ،هذه البلبلة لا تعود لقصور في فهم القارئ بل مرجعها للمؤلف الذي لا تتضح معالم المصطلحات في ذهنه ويكتفي للخلاص من هذا المأزق بالجري وراء المصطلحات غير المفهومة مباهاة وكسبا للتميز،وهذا ينعكس على حداثة أدبنا العربي التي تبدو قلقة متضاربة،ليأتي دور من أعطي المقدرة علة متابعة مصادر الحداثة الأصلية والتي يمكن اختصارها في دوائر ثلاث:موت المؤلف والنصية ومشاركة القارئ.
هذه المحاور المنبتة الجذور عن تربتنا بسبب خروجها من بيئاتها الخاصة وظروفها الاقتصادية والفكرية.
فيما يتعلق بموت المؤلف فان لفكرة تعود في مصدرها الغربي لجذور فلسفية ممتدة مع جذور الحضارة الأوروبية نفسها ،فعندما أعلن"نيتشه"مقولته"موت الإله"التي لاقت ترحيبا في أوساط أوروبا الفكرية لأنها عبرت في حينها عن فترة تاريخية مرت بها أوروبا والتي تعني التخلص من الغيبيات أمام ظهور الإنسان ،وحسب رأيهم ،إن الحقيقة هي ما يستطيعه الإنسان،وما عدا ذلك فهو ميت ،هذا بالتالي يعني إعادة صياغة للمذهب الإنساني الذي قامت عليه الحضارة الأوروبية،هذه الفلسفة انتقلت إلى الأدب ونقده تحت مسميات متشابهة فأعلن الأدباء على أثرها موت الشخصية في مجال الأدب وموت المؤلف في مجال النقد،وبعد أن كانت الشخصية في العصر الواقعي هي محور العمل الأدبي وتعكس البطولة الفردية،وبعد أن كان المؤلف يحرص على رسم الشخصية بصدق فني مقدما أوصافها الحسية متسللا إلى نفسيتها الداخلية ،فقد اكتسبت الشخصيات شهرة أكثر مما تكتسبه الشخصيات التاريخية والواقعية كشخصيات "ديكنز وبلزاك وتولستوي وشكسبير"التي عكست تركيبة المجتمع الذي يقوم على الصراع .
هذا الموقف تغيّر مع المتغيرات السياسية مع التقليل من البطولة الفردية ،وتعمد الفنان أن يشوه معالم شخصيته ويحررها حتى من اسمها فأصبحنا نرى بطل "كافكا"يسمى بالحروف الأولى،كذلك "جويس"و"فركيز"،حتى ظهرت الشخصية الجديدة كصورة للفرد المغترب الذي لا يستجيب للمتغيرات الاجتماعية . جاء النقد في العالم يبارك هذا الوضع ويعلن موت المؤلف معلنا أن موت الشخصية يعني اختفاء القيمة في الأدب،مؤسسا أرضية لهذا المعنى ،طارحا مقولة موت المؤلف التي تعني اختفاء كل القيم التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية وحتى الفنية.
إن موت المؤلف يعني انتهاء عالم الميتافيزيقيات ما وراء النص وطرحه كعالم مستقل بنفسه لا يعتمد على شيء خارجه.
"سوزان سونتاج"تؤلف كتابا عنوانه"منع التأويل "تهاجم فيه فكرة القيمة في الأدب تحت أي مسمى ،وتنظر للنص كشيء قائم بذاته لا يحتاج إلى التأويل من الخارج،كما وتنظر إلى التأويل كلعنة للثقافة على الأدب الذي ينتهك النص ويحوله إلى مقالة ،هذا في حين إن النصية تفيد أن اختفاء القيمة في العمل الأدبي يفسح المجال الاحتفاء بالنص كما هو ،أي كعالم مكتف بذاته وليست فيما يشير إليه من تلميحات.
من يتتبع اعترافات الحداثيين الغربيين يرى أنهم يعتبرون الحداثة ثورة تفصل بين مرحلتين تاريخيتين ،بين عهد يركز على المضمون وآخر يركز على الشكل،حيث الشكل فكرة تستحق النظر والتهليل في مسيرة الحضارة الغربية بعد أن صرفت اهتمامها كله للتركيز على المضمون والمكان والمحاكاة.
من هنا نجد أن الغربيين يحتفون كثيرا بتلك الحركات التي تهتم بالشكل ويعتبرونها فتحا جديدا في مسيرة الحركة الأدبية ،وهذا يوصلنا إلى الركيزة الثالثة بعد موت المؤلف وإحياء النص وهي مشاركة القارئ، بمعنى إن النقد القديم الذي يتطلب معنى تفسيريا يحتمل الصدق والكذب قد انتهى دوره ،ولم يعد الناقد مهتما بالبحث عن معنى جاهز ويكفيه أن يثير الاهتمام لدى القارئ ويدفعه للبحث عن إستراتيجيته الخاصة التي قد تختلف عما يقصده المؤلف ، ومن هنا تتعدد الاستراتيجيات ،والأمر متروك لنا لنختار ما يثيرنا.
هكذا اصبح النقد الجديد يضخّم دور القارئ ويجعله لا يقل أهمية عن دور المؤلف لأن القارئ يصنع عالمه بنفسه ويتحول إلى مشارك ينطلق من موقع المسؤولية المشاركة في صنع العوالم الفنية ،فلا يكتفي بدور المتلقي .هكذا يتضح أن العناصر التي ذكرنا سابقا تلخص آراء الحداثيين التي يتداخل بعضها ببعض وتبدأ من مقولة موت المؤلف كمرسل لتنتهي إلى مشاركة القارئ كمرسل إليه وعبر وسيط مشترك هو النص كوسيلة .إن الباحثين مهما اختلفوا فانهم يتفقون على ان هذه العناصر تعود في مجملها إلى بنية المجتمع الغربي وترتبط برؤيته الفلسفية وحركته الاجتماعية والتاريخية ، وقد رأى "بالمر"أن الحداثة هي انعكاس للمجتمع التكنولوجي وتعبير عن ميله للسيطرة .إن تأثر النقد الجديد بالروح العلمية السائدة ،مقولة رددها كثير من النقاد الذين رأوا فيه انعكاسا للعقلية التكنولوجية التي سادت المجتمعات الغربية وتبسيطا للتجربة الإنسانية وانعكاسا للثنائية الديكارتية كما فعلت الشكلانية الروسية والبنائية التي نظرت للأدب كتجربة وليسر كموضوع .إن ما عاب عن نقادنا العرب ولم يعيروه اهتماما عندما نقلوا هذه المدارس ،أنهم نقلوها كما هي دونما وعي بمجمل الظروف التي تداخلت وتفاعلت لنشوء هذه المدارس ودونما إدراك للخلفية الحضارية التي نشأت فيها، ومن هنا تبدو غريبة علينا منقطعة عن سياقها الصحيح في أدبنا لم تلاق الانتشار والاهتمام والتقبل الموضوعي.
أفكار الحداثة لم تقبل على علاتها في العالم الغربي، فقد لاقت اعتراضات من مختلف التيارات ، إنها عند "بروس فرانكلين"تنتهي إلى شكلية جافة ،وترى فيها الوجودية امتدادا للثنائية الديكارتية، في حين أن يراها "بالمار"فكرة تحول الأدب إلى شيء بارد ،بينما يرى"هارتمان"أنها تجمّد اللغة المتغيرة .
هذا هو الإطار الذي يمكننا من خلاله النظر إلى الحداثة ضمن ظروفها الحضارية المتجذرة في التربة الوثنية الإغريقية التي تتمرد على الإله في تراثها وترى فيه عائقا يحد من انطلاقة الإنسان وتفترض صراعا بينه وبين الإله لا يمكن أن يتخلص الإنسان من أحابيله مواصلا مسيرته إلا إذا فك قيوده وأعلن موت الإله.
أما فكرة موت المؤلف فإنها تجر وراءها تداعيات فلسفية تؤدي إلى اختفاء القيمة وتحويل النص إلى شكلية ميتة، في حين أن مشاركة القارئ قد تضخمت وتحول القارئ من خلالها إلى إله مستبد ،فهل الأمر كذلك في حضارتنا ؟
أين حضارتهم من حضارتنا التي تضع الإنسان خليفة لله في أرضه !
شعرنا له قوانينه وطبيعته الخاصة ،لا يلتمس صدقه من الواقع طبقا لنموذج خارجي ،بل متداخل القصيدة ومن قوانينها الخاصة،حتى نقدنا ،جاء مسايرا لرؤيتنا فركّز على عالم النص ،والنقاد العرب حين يركزون على النص لا يبحثون عما وراءه من دلالات اجتماعية أو نفسية بل يركزون على جانب المتعة فيه دون أن يشارك هذه المتعة إسقاطات .هذا ما قاله ابن قدامة وابن خلدون والجاحظ والخفاجي ليتضح أن جذور الحداثة الحقة موجودة في تراثنا ،ولكن كوننا مضبوعين بالأجنبي ولا نولي مرجعيتنا حقها من الدرس ،نردد ما يقوله الغربيون ،حقائق لا مجال للطعن فيها ، من هنا بدت حيرة النقاد العرب وهم يقفون أمام مسارين لا ثالث لهما :إما أن يبدؤوا من تراثهم الذي يحوي الإمكانات لتأسيس حداثة ممتدة الجذور في واقعنا الحضاري ،أو ينقلوا الحداثة الغربية بعجرها وبجرها ،وحيث أن بنيان النقد العربي الحديث لم يكن جاهزا لاعتماد المنهج الأول لاسباب كثيرة لا مكان لها هنا ،ولما يتطلبه ذلك من صبر وضبط وتواصل بعيد ا عن الاضواء والشهرة ،آثر الرفاق المنهج الثاني بما فيه من سرعة وشهرة ودعاية إعلامية وحصول على مكاسب ومناصب ،فنقلوا حداثة الغرب دونما تبصر وبلا وعي على خلفياتها الفلسفية وملابساتها التاريخية وليبدؤوا من حيث انتهى الآخر،وبتنا في اطروحاتنا الجامعية لا نهدف إلى حقيقة نعمل للوصول إليها غير التباهي باستخدام التركيبية و البنائية أو غيرها ،فبدونا غرباء عن وجدان متلقينا ،بعيدين عن التطبيق العملي لنظرياتنا،مكتفين بالتهويمات النظرية التي أصبحت فلسفة مقصودة لذاتها،همنا استعراض قدراتنا : مستصغرين شأن القارئ.
أي تناقض يراه القارئ عندما يتحدث الحداثيون عن موت المؤلف نظريا وهو يراهم في كتبهم يتحولون إلى مؤلف محيط بكل شييء، ويتحولون عن مشاركة القارئ كمبدع للنص وهم يلغون دوره ، وفي حومة التطبيق العملي نراهم يذيبون النص بين زحمة الجداول والأشكال والإحصائيات التي تصرف القارئ عن النص وتبهره باستعراض عضلات فارغ وتلاعب ممجوج بالألفاظ .
إن الفكرة النظرية لدى نقاد الحداثة تعني طرح كل شيء ما عدا النص ، وعند التطبيق ، يتحول الاهتمام إلى كل شيء ما عدا النص .