العرب أقوياء ومبدعون ، علينا أن نؤمن بهذه المقولة ونعمل على ترجمتها إلى حقيقة وواقع حال كما فعلت الكثير من الأمم والشعوب ، هكذا ارتأت تلك الشعوب أن تحدد لها مفاهيم وقناعات وتعمل على تجسيدها إلى ملموسات وحتى إلى بديهيات تنطلق منها نحو تحري واستقصاء ما يمكن أن تحققه في ظل عصرنة أو عولمة العالم واليوم ، والعرب ليسوا بحاجة إلى أبتداع مفاهيم وفلسفات تثبت قوتهم وإبداعهم وتميزهم ، إنهم حقاً يتميزون بالقوة والإبداع ، ولا أعتقد أن اثنين من العرب يختلفان على ذلك ، ولكن المفارقة التي دائماً تخيبها الفراسات والفلسفات العربية هي في تحديد الظروف والمنطلقات التي من خلالها يمكن تحديد مفاهيم القوة والتميز لدى هذه المجموعة التي تحمل إسم العرب، لأن العرب ضمن مفهوم التكوين المجتمعي يمثلون تكتلاُ إقليمياً يشترك بمجموعة مقومات مصلحية وإرثية من شأنها أن تعطي الدافع لهذه المجموعة أن تطرح مشروعاً فكرياً وحضارياً وتعمل على تحقيقه ، وعملية الطرح تلك إما أن تكون مشفوعة بتكوينات وأسس إرثية لها صلة بواقع وفلسفة المجموعة أو من خلال تبني مشروع جديد على أساس منظومة مفاهيم تخدم مصلحة مشتركة .
لنبدأ مع تلك المقولة التي كانت أساس كل هذه التداعيات ألا وهي " العرب أقوياء ومبدعون" ، نعم العرب كانوا أقوياء ومبدعين حينما كانوا يعيشون حقيقة الإنفتاح والإعتدال ، كانوا أقوياء لأنهم لم يكونوا عرباً بالمفهوم السادي والشوفيني لكلمة عرب ، ذلك المفهوم المعلن في عالم اليوم ، كانوا يعيشون عروبتهم ضمن حضارية حقيقية تلك التي وحدتهم مع الفرس والترك والقوقاز والكرد ، أي لم يكن المشروع العربي مطروحاً آنذاك على أساس عرقي ولم يكن العرب قد استنجدوا بقوميتهم العربية التي كانت غير قادرة على الحيلولة في منع النزاعات التي امتدت لعقود زمنية طويلة بين مجتمعات قبلية عربية ، وخير مثال على ذلك حرب البسوس وحرب داحس والغبراء ، تلك الحروب والنزاعات نشبت مع وجود عنصر القومية العربية ، لم يكونوا يستصرخوا عنصريتهم المؤطرة بالفكر الشعوبي والعنصري أو القومي إن صح التعبير ، العرب كانوا أقوياء لأنهم تعايشوا مع ذواتهم وانسانيتهم بعيداً عن أطرهم اللغوية والقبيلية التي أثبتت فشلها من قبل ( ماقبل الإسلام )، لذلك حاولوا أن يؤسسوا لمناخ اكثر إنفتاحاً من خلال إطار الدولة الإسلامية ، وربما سائل يسأل لماذا الإسلام بالذات ؟ أعتقد أن الجواب هو لأنه كان الاكثر إحتواءاً لرغباتهم وتطلعاتهم الإنسانية ، وكان يتكلم بلغة تعنيهم قبل غيرهم ، وربما لو طرح مشروعاً غير الإسلام آنذاك يتحلى بنفس المرتكزات لكان قادراً على التعامل معهم بنفس المرونة التي عكسها الإسلام على سلوكياتهم وطرق تفكيرهم .
في تلك الفترة التي أعقبت فشل مفاهيم القومية العربية قبل ظهور الإسلام أحس العرب بحاجة لمشروع إقليمي أكثر انفتاحاً من مشروع القبيلة والقومية ، مشروعاً يتيح لهم ممارسة إنسانيتهم وحريتهم ضمن إطار يحتفي بكيانهم كمجتمع إنساني لا قومي ، فكانوا أحراراً ينشدون العدل والمساواة والحرية ، ويعملون الليل مع النهار في تدعيم أسس ومفاهيم الحضارة يد بيد مع مختلف الإثنيات والألوان والأطياف ، لايظلمون عبداً أسوداً ولا نصرانياً ولا يميزون بين لون وجنس ، ونظرتهم المتسامحة تطال الجميع دون استثناء ، هكذا كان العرب حينما كانوا مسلمين حقيقيين تجاوزا حدود قبيلتهم ولغتهم وجغرافيتهم ، أبدعوا في كل المجالات ، في الطب والرياضيات والهندسة ، في الفلسفة والمنطق والشعر والأدب ، أسسوا الحضارات وفتحوا المدن والامبراطوريات العصية ، تعايشوا ضمن حدود دولتهم مع الجميع وتفاعلوا مع كل مفردات الحياة فكانوا أشداء لايسمحون للفتنة أن تأخذهم من قبالتهم ولا ظهرانيهم ، في هذه الظروف الزمنية والحالية كان العرب أقوياء يمتلكون كل مقومات التميز والإبداع ، أما ما حدث خارج هذه الظروف والإحداثيات فهو محو الفقرة التالية .
في ظل الظرف الزمني ( الآن ) العرب بحاجة إلى إعادة النظر في كل المفاهيم والمقولات التي أسندت إليهم دون أن يكون لهم أي دور في تدوينها ، وعليهم أن يعيدوا صياغة المفاهيم بأيديهم لا بأيدي الغرباء ، عليهم أن يتأملوا ما فعله أسلافهم حينما غادروا خيام البداوة ومظلات العروبة المزيفة ، وأن يدركوا أن قوتهم تكمن في مكان آخر بعيداً كل البعد عن خيمة قوميتهم العربية المتهرئة ، تلك الخيمة التي تآمر حراسها وموظفيها مع الأجنبي ، عليهم أن يروا العالم قوميات وأطياف ، ويكثروا من جرعة الإحساس بالفرد العربي المقموع من الرأس لأخمص القدم ، ويتنبّهوا لنظرية المؤامرة التي أكلتهم الواحد تلو الآخر ، أن يستفيدوا من فلسفة عدوهم المزعوم أو الحقيقي الذي روّجوا له أكثر مما يروجون لقوميتهم السالفة الذكر ، وأن يقرأوا عبارة ( فرّق تسد ) لا كما يريد لها أن تقرأ ذلك المتخفي في الظلام الذي كتبها وأثار الفضول حولها ، ويفهمونها لا كما يريد لها أن تفهم ذلك المتخفي وراء قزحيات الحضارة ، فرّق تسد لاتعني الحدود والجغرافيات ولا نقاط التفتيش أو السفارات والقنصليات ، فرق تسد تعني العربي ضعيفاً حينما يكون بعيداً عن مبدئه ، بعيداً عن حريته وبعيداً عن حلمه ومشروعه الإقليمي المرتبط بمصالحه ومصالح الآخرين ، العرب ضعفاء إذا تمترسوا بسواتر قوميتهم العربية التي خذلتهم إبان حروبهم الطويلة قبل الإسلام وتخلّوا عن مشروعهم المرتبط بمصالحهم ، لأن العنصرية والشوفينية عاجزة لامحالة عن حماية الضعفاء ، هل تساءل العرب يوماً عن حقيقة هذه النظرية المرعبة من وجهة نظر الحاذقين من فلاسفة العرب ؟ لاشك أنهم توهموا أن منطقة القتل تكمن في تجزئة حدود دولتهم العربية أو وطنهم العربي الذي لم يكن يوماً موجوداً ، ولا سمعنا لافي التاريخ القديم أو الحديث أن العرب أقاموا دولة عربية خالصة لها حدودها الواضحة والمعلنة ، بل أن التاريخ تحدث عن دولة الإسلام التي بناها النبي محمد على أسس الدين والإنسانية والحرية ولم تكن يوماً دولة عربية . إذن من غير الإنصاف أن ينادي العرب بإعادة أمجاد دولة ساهموا في بنائها وفق أسس تختلف تماماً عما يرفعون من شعارات حالية تفسر معنى الدولة في أحلامهم ، فدولة الإسلام لم تكن يوماً دولة القومية الواحدة أو الجماعة الواحدة ، بل كانت دولة الجميع ، جميع القوميات والأطياف والإثنيات ، وكان العرب من البناة المهرة في تلك الدولة إن لم نقل من أفضل المساهمين فيها .
إذن مالذي يستهدفه مهندس هذه النظرية " فرق تسد" التي تعتبر بحق نظرية متكاملة الحيثيات والمفاهيم ، البعض يعتقد وربما هم قلة وقد يكونوا ثلّة الصواب ، أن فحوى نظرية "فرق تسد" هو تشجيع الفرد العربي على إحتساء مفاهيم قوميته العربية حد الثمالة ، وجعله يحتفل بها ويرفعها شعاراً يشوّه وجهه أمام العالم والمخلوقات ، ويجعله يتناقض مع فلسفته وفكره، وحينما يتخذها عنواناً لسعيه في تحقيق حلمه وهويته سوف ينفرد بذاته وينعزل عن الآخرين ، لايرى أقليات ولا أطياف ، أناه العربية تغزو كل مناحي تفكيره ويبدأ بالتسيد على الضعفاء من الأقليات ، ويرسم صورة الرب الوثني الذي لايخلع لكل سلوكياته وردود أفعاله من خلال سلطويات وأسيجة وجدران ، وحين تنجح هذه النظرية في عزل العربي ضمن صحرائه وقوميته تبدأ بتفتيت عقائده ومفاهيمه التي يمثل الإسلام جل كيانها ، وهم يدركون أن مفاهيم الفرد العربي تستمد قوتها لامن الإنزواء في نفق القومية بل من الخروج والإنفتاح على الجميع ، لذلك كان التخطيط لعزل الفرد العربي والفكر العربي من اكبر وأخطر المكائد التي أسست لها هذه النظرية ، أن تفريق العرب عن مفاهيمهم وفلسفتهم التي تنوجدوا ضمن أطرها يمثل الحلقة الاولى التي نجح مؤسسوا هذه النظرية في تحقيقه ، هاهو العربي اليومي يتبجح بقوميته العربية أينما حل ويرفعها شعاراً في كل الولائم والمناسبات وصار يجند لها مؤسسات وسلطات إعلامية مهمتها الترويج فقط لمفهوم القومية العربية والعمل العربي المشترك وما إلى ذلك ، متناسين أن عدوهم يصفق لهم منشياً وهو يراهم ينساقون بهذه السذاجة لتحقيق مبتغاه ، مبتغاه بزج العربي لمنطقة يسهل قتله فيها .
أما المرحلة التالية التي شرع بها مخططوا نظرية "فرّق تسد" بعد أن احتفلوا بنجاحهم في المرحلة الأولى وحولوا البلاد العربية إلى قماقم تتنفس من خلال رئة القومية العربية بعد أن جنّدوا لإدارة هذه الحملات البشعة الكثير من منتفعي السياسة والوصولية والرؤوس التي تحلم بمجد القبيلة وعصر الجواري ، صاروا الآن على أعتاب تنفيذ المرحلة التالية التي أسسوا لها منذ زمن مساندتهم للحركات الأصولية الدينية في تنفيذ برنامج الجهاد المقدس في أفغانستان ، ودأبوا على زرع الخلايا التي أخذت على عاتقها العمل بكل طاقاتها الفكرية والمادية على تنفيذ المرحلة التالية من نظرية فرّق تسد ، وفي حقيقة الأمر فإن المرحلة التالية تتلخص بإنتاج إسلام رديء ومشوه وإرهابي لتجعله بديلاً عن ذاك الإسلام الذي انتصر به محمد ، إسلاماً فاقداً لمصداقيته ، ملطخاً بالدم والوحشية ، لماذا كل هذا ياعرب ؟ هل فكرّ أحدنا بمجريات الأحداث إلى أين ستؤدي بنا بعد أن نجد أنفسنا نكره إسلامنا الذي كنا بوجوده يوماً أقوياء ومبدعين ؟ ، والأدهى من ذلك حين نجد أنفسنا نحارب هذا الإسلام الذي ندرك أنه ليس ذلك الإسلام ولكن الذي يبتغيه الطرف الآخر هو هجرنا لكل شيء ينتمي للإسلام الحقيقي ، الإسلام الذي يحترم الجميع ويقبل بتعايش الجميع وحرية الجميع .
والمرحلة الأخيرة من تلك النظرية التي تستهدف الإنساني فينا هو أن نبادر لتدوين ردود أفعالنا تجاه ما يسيء لعروبتنا ، أي نتعامل مع الواقع من منظار شوفيني متطرف ، يستخدمه الطرف الآخر في محاكمتنا ، أن يكون رد فعلنا منسجماً مع شعاراتنا وعناويننا في تجسيد قوميتنا التي تبدوا اليوم أكثر من أي وقت مضى مشوة وعارية من كل إدعاءات القوة ، لابل وضعيفة حتى في تأكيد سلامة منطقها تجاه أزماتها الداخلية ، وهاهي اليوم تعيش مأزقاً حقيقياُ في إيجاد لغة معتدلة مع من ينتمون إليها ، فاللغة وحدها ما عادت قادرة على تأسيس المفهوم العام للنظرة الشمولية للمجتمع الحر ، ولا حتى القبيلة التي توكأت على مضاربها ما عادت قادرة على مجاراة عصر الكمبيوتر والسوريالية .. إذن علينا العودة إلى عبارتنا الأثيرة " العرب أقوياء ومبدعون " ولكن ربما علينا أن نكون أكثر حذراً في تحديد الظرف الزمني ( متى ) والظرف الحالي ( كيف ) . ونفكر ملياً في صيغة الطرح الذي نبتغيه لمشروعنا الجديد ، المشروع الإقليمي الذي يمثل الإطار الأكثر ملائمة لمجموعات بشرية تشترك بمقومات مثل اللغة والدين والتاريخ وإن كان التاريخ عاملا ضعيفاً في الإسهام في صوغ منهجية المشروع ، فالتاريخ يتشكل من حركة الفعل الماضي وغير معني بالجنس واللون والعرق ، لذلك علينا كعرب أن نؤسس لمشروع إقليمي يخدم بالدرجة الأساس مصالح الأفراد ضمن هذه البقعة الجغرافية بعيداً عن قومياتهم وطوائفهم ، ولنستثمر كل المفردات والمفاهيم التي نراها مناسبة لذلك في تدعيم مفهوم وتداعيات هذا المشروع ، وبهذا نكون أكثر صدقاً في التعامل مع الواقع الراهن ، نحن لسنا بحاجة لدين جديد يطهرنا من آثام قوميتنا العربية التي عادت تمارس علينا فصولها السابقة في القهر والتنكيل والتجاهل ، فالدين حاضر وشاهد على تعسفية قوميتنا في كل يوم نعيشه ، ونحن لسنا بحاجة إلى لغة جديدة نكتب بها أفكارنا ومفاهيمنا وتاريخنا ، لدينا لغة جميلة وسهلة وعميقة .. ويكفي أن احد أهم الكتب السماوية قد كتب بها ، نحن لسنا بحاجة إلى تاريخ يرفع من شأننا أذا ما تباهى السلاطين بمآثرهم ، نحن بحاجة إلى رؤية جديدة تدلنا كيف نتعامل مع مصلحتنا ومصالح الآخرين ، لا الدين ولا اللغة ولا التاريخ ولا القومية العربية ، كل هذه المقومات لاتستطيع أن تبني لنا مفاهيم إقتصادية تتعامل مع ثرواتنا ومقدراتنا وحرية الفرد فينا ، أمريكا التي نكن لها كل الكره المنطقي وغير المنطقي أسست لمشروعها الخاص على أساس مفاهيم بعيدة كل البعد عن اللغة والدين والتاريخ .. وكلنا نعرف أن الدين في أمريكا غير معني بالمشاريع الإقليمية والمصلحية ، ولا حتى اللغة .. أما القومية فهي آخر ما يفكر فيه ... ومع ذلك نجد أن أمريكا طرحت مشروعها الذي انعكس على حياة الناس وإنسانيتم وحريتهم ، بعيداً عن الإختراقات التي مارستها وتمارسها الآن مجاميع من المتطرفين على القرار الأمريكي لخدمة مصالح فئة محدودة .. علينا أن ننتبه للأسس العامة للمشروع الحياتي الأمريكي وكيف استطاع أن يتعامل مع الواقع والإنسان ، ترى هل نستطيع أن نوظف ما نمتلكه من مقومات لتدعيم مشروعنا الإقليمي الذي يخدم مصالح كل القوميات ضمن هذه الرقعة الجغرافية التي نصر تعسفاً على إخضاعها لتسمية الوطن العربي ، مع أن قارة امريكا الجنوبية تتكلم الأسبانية في معظمها لكننا لم نسمع يوماً بمصطلح الأمة الإسبانية ، ونكون قد خلصنا إلى نبذ فكرة المشروع القومي العربي وويلاته وتبعاته وتبنينا فكرة المشروع الإقليمي المشترك على غرار السوق الأوروبية المشتركة وفوتنا الفرصة على من يستهزئ بنا في الظلام .