موقف الإسلام من قضية الحرية أحد المرتكزات الرئيسة لرسالة الإسلام ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون ذلك إدراكا صحيحا ويعبرون عنه أدق تعبير بعبارة تكررت على لسان كثير منهم : " جئنا لنخرج الناس من ظلام العبودية إلى نور الحرية " ، وثمة علاقة جدل بين التوحيد ، بوصفه قلب المنظومة العقائدية الإسلامية ، وبين الحرية ، بوصفها شرطا لازما لصحة الإيمان نفسه. فالعلاقة بين الإنسان وكل من : الله ، والكون ، والمجتمع والآخر ، أسسها الإسلام على أساس من الحرية التامة المقترنة بالمسئولية ، وفضلا عن كونها شرطا لازما لصحة الإيمان ، هي كذلك شرط لصحة انعقاد كل العلاقات التعاقدية في المجتمع ، سياسية كانت أو اقتصادية ، وغيابها ليس مجرد إشكال ثقافي يهم نخبة المثقفين ، بل مشكلة حضارية عامة.


عبقرية " التداول الثقافي "


ومن يتأمل ما جاء به التشريع الإسلامي من أحكام تنظم حياة البشر ، سواء في ذلك الموقف من الرق أو المرأة أو الاستبداد السياسي ، يجد تحرير الإنسان : الفرد والجماعة على السواء سمة راسخة ، فالموقف المعادي للإكراه ، بدءا من الإكراه في الدين إلى الإكراه في المعاملات ، سمة ملازمة لهذا التشريع لا تنفك عنه . ومفهوم التحرير في الإسلام شامل يمتد من العقيدة إلى المعاملات إلى الثقافة .

ولعل هذا ما جعل الحوار وسيلة أساسية من وسائل التفاعل داخل المجتمع الإسلامي تعبيرا عن حقيقة أن الخلاف مشروع ، وأن الإقناع والاقتناع معيار ما يمكن أن نسميه : " التداول الثقافي " لا القمع والقهر وفرض القناعات بقرارات فوقية ، سواء أصدرتها سلطة سياسية أو دينية . وفي ظل منطق التداول الثقافي تعايشت أديان مختلفة ومذاهب فلسفية متباينة ، وانتقلت مراكز السيادة والتأثير الثقافي بين مشرق العالم العربي ومغربه ، وعندما انتقلت خارجه لم يمتنع العالم العربي ، وهو يحتل عبر تاريخ الأمة الإسلامية موضع القلب من أن يقر للأطراف ، من الأندلس إلى وسط آسيا ، بدور كل منها وعطائه ، وحقه في المشاركة الفاعلة في تأسيس البناء المعرفي للثقافة الإسلامية التي تعرّب لسانها .


ميراث تجريم المساواة


ورغم أن اتجاها عاما له الغلبة في الكثير من وسائل الإعلام الغربية والكتابات التي تتناول الإسلام ورؤيته القيمية ، وتلك التي تؤرخ للمسلمين ، يصم الدين وأتباعه على السواء بمعادة الحرية . ومن يرجع إلى الوراء قليلا يملؤه الرعب من الحقائق المتصلة بأوضاع المساواة في العالم الغربي ، وبخاصة في الولايات المتحدة التي تريد صرف النظر عن ماضيها القريب والبعيد على السواء من خلال قصر النظر على حاضرها ، الذي لا شك في أنه يحترم الحريات إلى حد بعيد ، وفي المقابل قصر النظر على واقعنا المرير الذي غابت عنه قيمة التدوال بمعنييها الثقافي والسياسي غيابا شبه تام . ثم يلي ذلك تصوير واقعنا كما لو كان انعكاسا دقيقا لقناعاتنا الدينية ومنظومتنا القيمية .

ولغياب المساواة في الواقع الأمريكي القريب منه والبعيد على السواء ميراث نكتفي بنماذج منه ، ففي دستور ولاية واحدة هي ولاية ميسيسبي :
الفصل الثامن ، في التربية والتعليم ، الفقرة 207 : " يراعى في هذا الحقل أن يفصل أطفال البيض عن أطفال الزنوج فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة ."
الفصل العاشر ، في الإصلاحيات والسجون ، الفقرة 225 : للمجلس التشريعي أن يهيئ الأسباب الآيلة إلى فصل المساجين البيض عن المساجين السود جهد الطاقة والإمكان "
الفصل الرابع عشر ، أحكام عامة ، الفقرة 263 : " إن زواج شخص أبيض من شخص زنجي أو خلاسي ، أو من شخص ثُمن الدم الذي في عروقه دما زنجيا يعتبر غير شرعي وباطلا . "
ولعل أعجب ما في قوانين هذه الولاية ميسيسبي النص التالي : " كل من يطبع _ أو ينشر أو يوزع - منشورات مطبوعة ، أو مضروبة على الآلة الكاتبة ، أو مخطوطة باليد ، تحض الجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية ، والتزاوج بين البيض والسود ، أو تقدم إليه حججاً واقتراحات في هذا السبيل ، يعتبر عملُه قباحةً يعاقب عليها القانون ، ويحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار ، أو بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر ، أو بالعقوبتين معا " .

ورغم أن جذور المشكلة تمتد إلى مرحلة تأسيس الولايات المتحدة ، فإنها ليست جزءا من التاريخ البعيد للولايات المتحدة كما يتبادر إلى ذهن كثيرين ، بل تمتد فروعها إلى القرن العشرين ، ففي وثيقة قدمت في فبراير 1947إلى " منظمة الأمم المتحدة " تحت عنوان : " نداء إلى العالم " ، قالت : " الجمعية الوطنية لترقية الشعب الملون " إن تشريعات مماثلة لتشريعات ولاية ميسيسبي تطبق في ولايات : فرجينيا ، وكارولينا الشمالية ، وكارولينا الجنوبية ، وجورجيا ، وألاباما ، وفلوريدا ، ولويزيانا ، وآركانساس ، وأوكلاهوما ، وتكساس ، .

ومثل تلك التشريعات - ولكنها أقل قسوة - تطبق في ديلاوير ، وفرجينيا الغربية ، وكنتاكي ، وتنيسي ، وميسوري . كما أن ثماني ولايات شمالية تحرم التزاوج بين البيض والسود : هي كاليفورنيا ، وكولورادو ، وايداهو ، وانديانا ، ونبراسكا ، ونيفادا ، وأوريغون ، وأوتاه . وفي عشرين ولاية من ولايات البلاد يفصل بين الطلبة البيض والطلبة السود في المدارس فصلا إلزامياً . أما ولاية فلوريدا فتقضي قوانينها بأن تخزن الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج بمعزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض !! .

وفي أربع عشرة ولاية من ولايات البلاد يفرض القانون عزل ركاب القطر الحديدية البيض عن ركابها السود . في حين يفرض القانون إقامة غرف مستقلة للبيض والسود في ثماني ولايات . أما في سيارات الأتوبيس فالعزل مطلوب في إحدى عشرة ولاية . وثمة قوانين تقضي بالفصل بين المرضى البيض والمرضى السود في المستشفيات ، وفي إحدى عشرة ولاية يفصل ما بين المصابين بالأمراض العقلية على أساس اللون والعرق أيضا . كما أن الفصل مطلوب بين البيض والسود في السجون والمؤسسات الإصلاحية في إحدى عشرة ولاية من ولايات الدولة .


ثورات العبيد


وثمة قوانين تقضي بعزل البيض عن السود في المجتمع الأمريكي في شؤون كثيرة لا مجال لتعدادها هاهنا . وتكفي بعض الأمثلة لتشير فقط ، دون أن نحصي إحصاء مستقصيا ، مدى الظلم اللاحق بالعناصر الملونة بقوة القانون . ففي أوكلاهوما يفرض القانون إقامة كبائن اتصال تليفوني مستقلة للزنوج ، وفي تكساس يحظر على المصارعين البيض أن ينازلوا المصارعين السود ، وفي كارولينا الجنوبية لا يسمح للعمال الزنوج والبيض بأن يقيموا على صعيد واحد في مصانع الغزل ، ولا يسمح للزنوج بأن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب نفسها التي يدخل منها البيض ويخرجون .

ورغم قسوة تعبير " ثورات العبيد " وما يبدو عليه من غرابة ، إذ يستخدم في وصف واقع الزنوج في الولايات المتحدة قبل أقل من نصف قرن - لا على مستوى البنية القانونية فحسب بل على مستوى الممارسة الاجتماعية - إلا أنه ربما يكون التعبير الأدق . ففي عام 1957 ، أمر الرئيس أيزنهاور إحدى فرق الجيش الأمريكي باحتلال ولاية أركنساس ، وإلغاء جيشها المحلي البالغ قوامه عشرة آلاف جندي ، وأعلن للشعب أنه اتخذ هذه الإجراءات لرفع وصمة العار التي كشفت للعالم كله أن حقوق الإنسان في أمريكا مهدرة .

كان سبب الأزمة أن حاكم الولاية أصر على رفض دخول السود مدارس البيض ، وتمرد على حكم المحكمة الفيدرالية الأمريكية ، متذرعاً بأن قرار الاختلاط سيؤدي إلى إشعال الفتنة وإراقة الدماء في الولاية . وقد احتاجت الولاية إلى وضع فترة انتقالية مدتها خمس سنوات ليبدأ قرار الاختلاط في روضة الأطفال سنة 1963 . وفي عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) حدثت واقعة مماثلة لكن في كاليفورنيا كان شرارتها ما وقع للبائس رودني كنغ ، حيث اعترف بوش بنفسه بفظاعة ما حدث له حين شاهده تسجيلا له ، واجتاحت لوس أنجلوس موجة من الشغب لم تشهد أمريكا لها نظيرا منذ الستينات .

ولا تعني مثل هذه الحقائق سالفة الذكر أن الغرب يفتقر تماما للحرية ، ولكن من يثيرون الشبهات هم أنفسهم يعانون أزمة حقيقية في قضية الحريات على مستوى الرؤية والممارسة معا . ولا تعني كذلك أن أخطاءهم تبرر أخطاءنا ، بل تعني أن الصورة التي ترسم للإسلام والثقافة الإسلامية تتعرض لتشويه يرجع إلى ثقافة العداء للإسلام كما ترجع لواقع المسلمين المؤسف .


تكامل الحرية والمسئولية


وأما الصورة الحقيقية لقضية العلاقة مع الآخر بوصفها أحد أهم معايير تقييم حالة الحريات فتعكسها المنظومة القيمية الإسلامية في شمولها . وتقوم العلاقة مع الآخر في الإسلام على المساواة في الإنسانية والتمايز في بعض الحقوق والواجبات ، وهو تمايز لا يعني سيادة أحدهما على الآخر أو حقه في قهره . فلم يمنع الوجود الإسلامي في البلقان مدة أربعة قرون من بقاء المسيحية بفرقها المختلفة ، والأمر نفسه ينطبق على الأندلس والهند اللتين حكمهما المسلمون قرونا ، وامتد وجود الآخر ثقافته ولغته بل فلسفته .

بينما تواصلت في الغرب جرائم إبادة الآخر عبر أكثر من خمسة قرون ، اختفى خلالها الملايين من مسلمي الأندلس ليصبح الإسلام فيها أثرا بعد عين ، وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي أخليت الأمريكتان – تقريبا – من السكان الأصليين ، واستمر النهج يحكم علاقة الغرب بالآخر حتى أباد هتلر الأقليات التي اعتبرت " غير ألمانية " بالمعنى العرقي العنصري البغيض ، وأعاد صرب البلقان إحياء التراث الأسود قبل قليل من نهاية القرن العشرين .

وأهم ضمانات الحرية في الإسلام أن الحريات ليست مفهوما فلسفيا بشريا يخضع للنقض بتصور فلسفي مغاير ، ولا انعكاسا لموازين قوى أو اتجاهات رأي عام في المجتمع يمكن أن تخضع للتغير أو التغيير المقصود ، بل تكريم أسبغه الله على الجنس البشري فليس لأيدلوجيا أو سلطة سياسية أو دينية أن تنكرها أو تخص بها جماعة من الناس دون أخرى . وتكتمل منظومة الحرية بالمسئولية ، وهي مسئولية شاملة : فردية وجماعية ، دينية ودنيوية في آن واحد ، يتحمل فيها كل إنسان نتائج اختياراته ، فهما وجها عملة واحدة .


بين المبدئي والواقعي


غير أن الرقي والشمول الذين تتسم بهما المنظومة القيمية والعقائدية في الإسلام أتيحت لهما فترة قصيرة من التطبيق النقي هي فترة التأسيس الراشدي ، ثم تأثرت النظرة تأثرا كبيرا بما حدث للفكر السياسي الإسلامي بعد نهاية حكم الخلفاء الراشدين . فبعد قليل من دولة النبوة واجتهادات الراشدين تعرض الفكر السياسي الإسلامي لمحنة قاسية اختار لها معاصروها اسما معبرا هو " الفتنة " . وفيها ، للمرة الأولى منذ تأسيس الدولة الإسلامية ، فقد المسلمون قسما من حرياتهم هو حريتهم في اختيار خليفتهم وحقهم في تقويمه .

وبعد أن وضعت قاعدة جديدة للتفاعل الاجتماعي تتسم بقدر كبير من التركيب والتناغم مع الفطرة الإنسانية السوية عادت العصبية ببساطتها وواحديتها القاتلة بين القيسية والمضرية أولا ثم بين العرب والفرس ، وهي الدائرة التي ظلت تتسع حتى أصبح العرب في مواجهة الموالي . وبحكم وحدة الثقافة ، وعلاقة التفاعل التي لا سبيل لفصمها بين العام والخاص ، وبين أصول الشريعة وأحكامها ، تعرض الإمام مالك لمحنته المشهورة بسبب فتواه بإبطال طلاق المكره وهي الفتوى التي كانت تعني إبطال بيعة المكره التي عليها تأسست " ولاية المتغلب " .

وبطول الأمد صار الاستثناء أصلا وغابت الحريات واحدة بعد أخرى عن واقعنا الاجتماعي ، بعد أن تحول غياب الحرية من مشكلة سياسية إلى مرض اجتماعي مزمن . وهذه المفارقة : بين ما تأسست عليه منظومتنا القيمية وما تحاول التبشير به باعتبار أنه رسالتها الخالدة ، وبين ما عليه الأوضاع السياسية في واقع الأمة الإسلامية ، له أثار سلبية وخيمة على الثقافة الإسلامية بعامة .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية