(الآخر) مرة أخرى..
هذا المصطلح الذي استُهلك حد الابتذال.. يزداد تشبثاً بحواسنا طالما هو يمثل (تيمة) هذه الجولة من اللقاء الوطني للحوار الفكري. وطالما تم تكريسه كرمز للإشكالية التي تلازم تعاملنا مع (المُخالِف).. كما يتكشف لنا بين حين وآخر. كنت قد كتبت قبل ثلاثة أسابيع عن (الآخر الذي مِنّا).. ومثّلت له بفئة من أبناء هذا الوطن لا ينتسبون بالضرورة لقبائل الجزيرة العربية، كما تشي الصورة النمطية لـ (السعودي)، لكنهم يتجذرون بمناطق منها من قبل أن يتأسس هذا الكيان. غيري تحدث عن (الآخر) السعودي الذي يخالف صورة الغلاف في المذهب أو المزاج الفكري. وهي كلها طروحات تتسق مع الجو الحواري العام وتبررها الحاجة لفهم الذات بـ (آخرها) الداخلي قبل القفز لمواجهة الآخر القادم من خارج الحدود.
لكن اللقاء الحواري الذي شهدته عسير الأربعاء الماضي اختزل كثيراً من جوانب هذا الطرح. وفيما تناولت مداخلاته، كما نقلت الصحف، قضايا الآخر السعودي والمسلم والعامل الوافد، فإن إعلانه الختامي حجَّر مفهوم (الآخر) الذي يجدر أن نلتفت له ونتحاور حوله على ذاك الذي يخالفنا في الدين.. والذي درجت أدبياتنا على تسميته بـ (الكافر)!
وصية ملتقى عسير باستبدال مصطلح (الكافر) بـ (الآخر) في الخطاب الدعوي والإعلامي.. تترجم لنا ضمناً شعار اللقاء الوطني الحالي بـ (نحن والكافر)!.. وفي هذا اجتزاء شنيع للقضية من سياقها الأرحب. و (الآخر) الذي صار بوسعنا انتقاؤه بسهولة بفعل هذا التعريف المبتسر، سيقودنا لتساؤل جديد: إذن من يدخل في (نحن)؟
ثمة نبرة اعتذارية لا يخطئها الحدس في صيغة هذا الإعلان. وإذا كان القائمون على برامج الحوارات الوطنية يصرون على أنها تستمد زخمها من رغبتنا الذاتية في الإصلاح بدون التفات للتوبيخ الآتي من الخارج، فلماذا يفاجئوننا الآن بأن مهرجان الحوار في نسخته الخامسة موجه بكليته لذلك القادم من الخارج، والذي يشكل نمطاً واحداً من (الآخر).. في حين يعاني خطابنا من أزمة لا تقل عمقاً مع الآخر المحلي والمجاور؟ لماذا نتوجه لهذا الآخر الخارجي باعتذار مُغلّف عن صفة (الكافر) وكأنها سُبة يفترض أننا طالما وجّهناها لكل من ليس مسلماً؟
بالنسبة للمسيحي فأنا كافر بلا مواربة. كافر بالتثليث وكافر بالخلاص على يدي يسوع. كما أنا كافر بـ (شيفا) وكل طاقم آلهة الهندوس. وينبغي باليهودي الذي يحاورني أن يفهم بدءاً كيف يمثل هو بالنسبة لي نموذجاً للكفر بنبوة محمد بن عبدالله، بغض النظر عن نقاط التقائي الكثيرة معه. هذه (الكفريات) هي أساسيات في الاختلاف بين الأديان تمنعها من أن تغدو نسخاً مكررة ينفي بعضها وجود بعض، وينفي تطابقها الحاجة لإدراج أتباعها تحت بند (الآخر). والذين طرحوا الفكرة يحاصرهم الآن التساؤل حول مدى انسحابها على النص الشرعي والبعد الأيديولوجي لمصطلح (الكافر) الذي لا يمكن تجاوزه ببضع محسنات بلاغية من قبيل (الآخر) أو (غير المسلم).. هي ربما تكون أكثر تهذيباً.. لكنها لا تليق بطرح فكري يؤسس لممارسة على مستوى الوطن. أنا سأظل مسلماً، وغير المسلم سيظل كافراً ببعض ما أؤمن به، وأزمتي الراهنة معه لن يحلها نعتي له بألفاظ أكثر ديبلوماسية.
اللافت أن توصية (عسير) قد أشارت كذلك إلى لب المشكلة المتمثل في الابتعاد عن كره (الكافر) وتحقيره والحض على تجنب التعامل معه. مع تنويه جريء بضرورة الاعتراف بالأخطاء الواقعة في مؤسساتنا الشرعية وتصحيحها سواء في مجال القضاء أو من على المنابر. هي هنا تدندن حول بمفهومي (المساواة) و (التسامح) حيال شريحة (الآخر) التي يمثلها (الكافر) كمبادئ لا مفر من أن نعترف بالتفوق الحالي لـ (الآخر/غير المسلم) علينا بأشواط في مضمارها.
خلال دورة تأهيل المبتعثين التي حضرتها، نبهنا أحد الدعاة على أن نعتز بإقامة شعائر ديننا ولو كنا مغتربين ببلاد غير مسلمة. واستشهد بقصته الشخصية حين أدركته الصلاة في مكتبة بإحدى الدول الاسكندنافية فما كان منه إلا أن استقبل القبلة وكبّر.. لكن بعد أن أن رفع بنفسه الأذان والإقامة.. مذكراً إيانا بأن أحداً لم يحتج عليه. هذا المثال الفريد في التسامح الاسكندنافي مع المخالف في الدين، والذي كان يمكن أن تتم صياغته في شكل محضر رسمي بتهمة إثارة الإزعاج في مكان عام، كيف ستكون نتائجه فيما لو بدلنا الأدوار؟ ماذا لو فوجئ مرتادو المكتبة (التراثية) على سبيل المثال بعامل فلبيني يرتدي قلادة عليها صورة العذراء.. ناهيك عن أن يترنم بآيات من الإنجيل؟ أكان سيشفع له أن يهتف بهم: "ولكن مهلاً.. فأنا آخر" ؟!
والخطاب الإعلامي الذي تمت مطالبته باستبدال (الكافر) بـ (الآخر).. عليه أن يعي روح هذا التغيير قبل أن يتحفنا بتقارير صحفية تتحدث عن مداهمات لأوكار العمالة غير النظامية تم خلالها ضبط رجال ونساء في حال سكر بيّن، وعدد من الهواتف لتمرير المكالمات الدولية، واسطوانات أفلام إباحية و"عدد واحد صليب".
الملتقى الحواري بعسير كان شجاعاً في اعترافه بالعديد من المغالطات الرسمية التي نمارسها ضد غير المسلم. لكنه وهو يقدم لجلسات اللقاء الخامس بأبها خلال ديسمبر المقبل لا يزال يناورنا في حقيقة (الآخر) التي يكتنفها كثير من اللبس.. حتى والعنوان الفرعي يشير لـ "رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية". وإذا كان بوسع البعض أن يعد (المنتو واليغمش) ملامح ثقافة عالمية، فأين موقع هذا من النظرة التي نفترضها للآخر؟
إحلال لفظ مكان الآخر ليس سوى التفافاً على القضية، وتدخلاً في شأن مجامع اللغة العربية الموقرة التي أدلت يوماً بدلوها في نكبة 48 لتنبه المجتمع الدولي بأن الصواب هو استخدام كلمة "غوث" في مسمى (وكالة إغاثة اللاجئين).