التعارض بين حرية الرأي والتعبير وبين المقدسات الدينية تبدو لكثيرين مزمنة معقدة ومساحة الخلافي فيها أكبر من مساحة المتفق عليه، ولا نكاد ننفض عن أنفسنا غبار معركة من معاركها حتى نجد أنفسنا أمام أخرى، والصراع بين ما يعتبره البعض صراعا بين حرية الإنسان في التفكير والتعبير عن أفكاره وبين ما يوصف بأنه قيود دينية على هذه الحرية ليس مشكلة ممارسة تحتاج إلى مزيد من الاستنارة أو التفتح أو التسامح عند فقيه فرد أو مجمع فقهي. وإن كان جزءا محدودا من المشكلة، فالخلاف في أصله هو حول "معنى" الدين ومعناه أن يعترف الإنسان بأن هناك "موجود" هو الإله له سلطة على البشر وهو يستحق أن نطيعه في الأمر والنهي وأن نعبده وفقا لأشكال العبادة التي يوحي بها. وللأديان عموما خصائص أهمها التسليم بعقائد غيبية دون أن يشترط المتدين إثباتها بالأدلة العقلية والإيمان بضرورة اتباع "شريعة" هذا الإله التي هي تعبير عن طاعة إرادته.

والدين لا يكتمل معناه بالفصل بين الإيمان بوجود الله والطاعة الواجبة لأوامره ونواهيه لأن هذا معناه تحويل الدين إلى حالة عاطفية صوفية (عقيدة بلا شريعة) تتيح لصاحبها إن كان متبجحا أن يدعي أنه من أهل الخطوة أو مرفوع عنه التكليف أو غيرها من ضلالات التصوف وشطحاته، ولا يكتمل الدين باشتراط أن ترتبط الطاعة بأن يقبلها العقل أو تختبرها التجربة لأن هذا معناه تحول الدين من وحي سماوي معصوم مقدس إلى "فرض نظري" يمكن قبوله أو رفضه وإن أمكن اختباره في المعمل، ولا يكتمل الدين بالقول بأن شرائعه موقوتة بزمان نزولها أو قبول المكلفين بأن يطيعوا أو لا يطيعوا، لأن هذا يحول الدين إلى "وجهة نظر" مجرد وجهة نظر.

والتسليم بفكرة أن الدين وجهة نظر تترتب عليه نتيجة خطيرة هي أن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم – وعلى وجه القطع – "إرهابي"، فما الوصف الذي يمكن إطلاقه على شخص يحارب عشرة أعوام متصلة ليفرض "وجهة نظر" بالسيف؟ وهو حكم ينسحب بالضرورة على صحابته رضوان الله عليهم.

ومن ناحية أخرى فإن الدين عندما يصبح وجهة نظر فإنه يصبح رواية ضمن روايات أخرى فهناك رواية العقل النظري ورواية العلم التجريبي ورواية التاريخ، وتتحول كل رواية من هذه الروايات من وجهة نظر إلى "دين" ومع تحول وجهة النظر إلى دين يصبح الشيء الوحيد المقدس هو عملية التعبير نفسها وعندئذ يصبح لكل منا شريعته، فيصبح الحجاب حجابا على العقل والطواف حول الحجر الأسود وثنية وتصبح العفة انغلاقا ويصبح تعدد الرفيقات أفضل من تعدد الزوجات ... وهكذا.

ومع هذه التعددية في وجهات النظر /الأديان يبدأ كل مجال من مجالات النشاط الإنساني ينشئ مرجعيته الخاصة فيصبح مستنكرا الحديث عن ضوابط دينية تحكم الفن ويحل محلها شعار "الفن للفن" ويصبح مثارا للامتعاض البحث عن حلال وحرام في الاقتصاد الذي يحكمه مبدأ Bussiness is Bussiness وهكذا يتم تبادل المواقع في هدوء وبصياغات مراوغة بين الإله والإنسان فيتصرف الإنسان كإله ويصبح الإله هدفا لما يسمى "أنسنة المقدس"، وما هذا التعبير إلا قناع لإخفاء رغبة البعض في التأله وفي أن يكون له قانونه الخاص، وهو أخطر أمراض الفكر التنويري الأوروبي الذي نقله التنويريون المصريون خلال القرنين الماضيين، ويكفي أن نذكر مقولة شهيرة للفيلسوف الألماني نيتشه: "إن لم أكن فوق القانون فأنا ألعن الملعونين".

فالقضية ليست حرية الرأي والتعبير ولا يحزنون بل هي "قميص عثمان التنويري" ومن يسبغون قداسة مطلقة على حرية الرأي والتعبير يريد كل منهم في حقيقة الأمر أن يكون فوق القانون، لكنه يجب أن يحشد آخرين ليهدموا القانون، وهكذا فعل هتلر عندما وصل بصندوق الانتخابات لحكم ألمانيا، وهذه الازدواجية الأخلاقية إحدى سمات الفاشستية، أما ما فعله هتلر بعد الجلوس على الكرسي فيجب أن يكون عبرة لمن ينخدعون فيقفون تحت راية "حرية الرأي والتعبير" عندما يكون المستهدف حقيقة تقويض الشريعة ليكون لكل شخص أن يفرض بالقوة قانونه الخاص.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية