تواصلا مع فكره في المقالة الماضية، يركز علي عزت بيجوفيتش علي سمه انسانيه اخري يقوض من خلالها نظريه التطور البيولوجي المادي, وهي مقدره الانسان علي الاختيار, اي قضيه الحريه(وهنا يظهر اثر كانط عليه, وان كان بيجوفيتش قد عمق من هذه الاطروحه وطبقها بطريقه ربما لم تخطر علي بال الفيلسوف الالماني العظيم). ففي عالم الطبيعه/الماده توجد الاشياء وجودا موضوعيا, خاضعا لقوانين موضوعيه صارمه.. فالارض تدور حول الشمس سواء عرفنا ام لم نعرف, شئنا ام ابينا. ثمه حتميه ماديه تسيطر علي عالم الحقائق الموضوعيه, وهو مالا يمكن وصفه بالخير او بالشر, فنحن في هذا العالم لانفعل مانريد ان نفعله, بل ماعلينا ان نفعله. ثمه جانب فينا خاضع للحتميات الماديه, ولكن الانسان لايعيش في عالم الماده وحسب, فهناك عالم جواني قوامه الحريه التي تعبر عن نفسها في النوايا والاراده والشوق والرغبه.
في الاطار المادي لايمكن ان تكون هناك حريه, بل هناك قوانين ماديه صارمه تسري علي الانسان سريانها علي الحيوان والجماد, وهي قوانين شامله تحتوي الانسان في كليته ولا تترك له مساحه يتحرك فيها, وهذه هي احاديه النماذج الماديه الاختزاليه. اما خارج الاطار المادي فثمه حيز للانسان يتحرك فيه بحيث يمكنه الاختيار بين بدائل مختلفه فيختار مثلا ان يتجاوز البرنامج الطبيعي الحتمي ويقوم بفعل قد يبدو غير عملي وغير مفيد من الناحيه الماديه, مثل ان يدافع عن كرامته او يرفض الظلم.والانسان الذي ينطلق من الرؤيه الماديه قادر ولاشك علي الاختيار والحريه والبذل والعطاء, ولكنه بذلك يكون قد سلك بطريقه تتناقض وماديته المزعومه.. فقد تجاوز قوانين الماده. فهو ان ضحي بنفسه من اجل ابنه القعيد مثلا فانه لا يمكنه اخضاع هذا الفعل للنموذج المادي, وعلينا ان نهنيء هذا المادي علي نبله وعظمته التي تجاوز بها منظوره المادي! اذ انه حين اختار ان يدافع عن ابنه ويحمله قد عبر عن شيء عظيم داخله يتجاوز منظومته الماديه الواحديه.
ولان الحريه لايمكن ان توجد الا داخل منظومه غير ماديه.. يربط علي عزت بيجوفيتش بينها وبين فكره الخلق, فنحن ان قلنا ان الانسان لم يخلق وانما تطور( بشكل طبيعي مادي حسب نموذج داروين), فانه ينتج عن ذلك انتفاء الحريه, اذ تصبح الحريه لامعني لها علي الاطلاق, لان البرنامج الطبيعي هو الذي افرزه, وهو الذي يحكمه. بعد ان اكد علي عزت بيجوفيتش حريه الاختيار كسمه انسانيه اساسيه, ينتقل الي قضيه اخري هي قضيه الاخلاق, حيث يفرق بين الموقف المادي من الاخلاق والموقف الانساني. فالاخلاق الماديه( الداروينيه النيتشويه) تنطلق من التسويه بين الانسان والماده, وبذا يصبح الهدف الوحيد لكل منهما هو البقاء, والياته الاساسيه هي الذكاء والقوه. في هذا الاطار المادي لايمكن ان نتحدث الا عن الفعل ورد الفعل. فالمثير(المادي) تتبعه استجابه ماديه بلا تردد او ثنائيات او ذكريات او كوابح او محرمات. في هذا الصراع من اجل البقاء(المادي) لايفوز الافضل( بالمعني الاخلاقي) وانما الاقوي والاكثر تكيفا مع قوانين الطبيعه, اي الافضل الطبيعي/المادي.ولذا فان صوت الطبيعه هو تخلص من الضمير والشفقه والرحمه.. اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم علي حد قول نيتشه, ابن داروين وبسمارك! ان كل ما فعله نيتشه هو تطبيق قوانين البيولوجيه علي الانسان, فكانت النتيجه المنطقيه هي نبذ الحب والرحمه وتبرير العنف والكراهيه.
والاخلاق الماديه هي النفعيه الماديه, ومن ثم يكون الانغماس في كثير من النشاطات الماديه للانسان(التي تحقق الربح المادي له) هو قمه الالتزام الخلقي المادي. خذ علي سبيل المثال مايسمي بالجرائم المقننه( اي التي يسمح بها القانون) كالفن الاباحي, والكتابات الداعره, واستعراضات العرايا, وقصص الجرائم وما شابه ذلك.. اي فيلم داعر ارخص في انتاجه عشرات المرات من انتاج فيلم عادي وارباحه تزيد عشرات المرات علي ارباح الفيلم العادي. ان انتاج مثل هذا الفيلم من منظور المعايير الماديه افضل من انتاج فيلم يلتزم بالمعايير الماديه والثقافيه والانسانيه. ثم يضرب علي عزت بيجوفيتش مثلا اخر بالحروب العدوانيه والامبرياليه واضطهاد الاقليات: فهذه الافعال من منظور مادي مربحه, فالاسبان ربحوا بالقضاء علي الهنود الحمر وسط امريكا وجنوبها, والمستوطنون البيض استفادوا من الاباده المنظمه لسكان امريكا الشماليه من الهنود, وقد حققت القوي الامبرياليه منافع ماليه بالغه باستغلال ونهب الدول المقتله, وحقق النازيون مكاسب ماليه كبيره باباده اليهود وغيرهم من الاقليات.. فهل هذا يعني ان افعال الاباده والاستغلال افعال فاضله خيره؟
من منظور مادي هي بالفعل كذلك! فمع غياب ايه منظومات اخلاقيه متجاوزه للنظام الطبيعي المادي تصبح اللذه هي الخير والالم هو الشر,ويصبح ما يحققه الانسان نفسه من منفعه ماديه( تزيد من امكانيات بقائه المادي) هو الخير الاعظم. او كما يقول بنتام صاحب مذهب المنفعه لقد اخضعت الطبيعه البشر لحكم سيدين, هما: اللذه والالم. فهما وحدهما اللذان يحكمان افعالنا, اي انه اختزال كل السلوك الانساني في هذين العنصرين الماديين, تماما مثلما فعل هلفتيوس الفيلسوف المادي الفرنسي الذي ذهب الي ان الانسان لا يقوم باي عمل الا ليزيد من لذته, او يقلل من المه لقد تدخل العقل المادي وحول مشاعر الالم واللذه وهي حقائق بيولوجيه حيوانيه داروينيه! الي مفهوم الخير والشر. وهكذا, تنحصر اخلاقيات المنفعه في حدود الطبيعه, وينحسر بصرها عند اسوار هذا العالم الدنيوي. فهي لا يمكن ان تتقدم وراء حدود المصلحه لكي تصبح اخلاقيه بالمعني الاصيل لهذه الكلمه.
وهنا يطرح علي عزت بيجوفيتش السؤال التالي: هل يمكن للعقل( الذي يدور في الاطار المادي) ان يولد منظومات اخلاقيه؟ ويجيب عنه بالنفي: ان العقل يستطيع ان يختبر العلاقات بين الاشياء ويحددها, ولكنه لا يستطيع ان يصدرحكما قيميا عندما تكون القضيه قضيه استحسان او استهجان اخلاقي.. الطبيعه والعقل علي السواء لا يمكنهما التمييز بين الصحيح والخطا, بين الخير والشر. فهذه الصفات ليست موجوده في الطبيعه.. ان محاوله اقامه الاخلاق علي اساس عقلي لا تستطيع ان تتحرك ابعد مما يسمي بالاخلاق الاجتماعيه, او قواعد السلوك اللازمه للمحافظه علي جماعه معينه, وهي في واقع الامر نوع من النظام الاجتماعي, نوع من الاجراءات والقوانين الخارجيه, كما ان التحليل العقلي للاخلاق يختزلها الي انانيه وتضخيم للذات.
ولكننا حين نتفحص الامر بشيء من العمق نجد ان في الانسان شيئا ما يرفض هذا النموذج المادي, وان الاخلاق الحقيقيه( كما هو الانسان ذاته) ضد الطبيعه/ الماده. فالانسان ليس مجرد لاهث وراء اللذه او المصلحه الشخصيه كما تصوره العلوم الانسانيه العلمانيه, التي تستند الي نماذج مستمده من العلوم الطبيعيه, فهو كثيرا ما يرفضها, بل ان الخبره الانسانيه في مجال الاخلاق تناقض الفكره الماديه. فاي لذه توجد في الزهد والتبتل والصيام وفي كثير من انواع نكران الذات وكبح النفس؟ فالانسان يضحي بنفسه من اجل الوطن او من اجل جوانب معنويه ليست لها اي قيمه ماديه, ويموت دفاعا عن الشرف. وهو, حينما يري مشهد العداله المهزومه, قد يهب لنصره المظلوم رغم القوه الغاشمه, رغم انه يعرف ان هذا قد يود ي, وهو علي استعداد للتضحيه بنفسه من اجل الغير( وعنده ايضا الامكانيه للبطش به).
وكما يقول بيجوفيتش, فان التضحيه تمثل ظهور مبدا جديد[ خطا فارق ملموس فاصل] بين الانسان والحيوان. ولكن هذا المبدا مناقض لمبدا المصلحه والمنفعه والحاجات. المصلحه حيوانيه, اما التضحيه فهي انسانيه( والافكار الاساسيه في السياسه والاقتصاد السياسي لا تتعامل مع التضحيه وانما تتعامل مع المصلحه والمنفعه).
ان الاخلاق الحقيقيه ليست مربحه..ويمكن تصور مواقف عديده يكون الظلم فيها والكذب هما المفيدين[ من الناحيه الماديه] وبالمثل, فان التسامح الديني والسياسي والعرقي والوطني ليس مفيدا بالمعني[المادي] المعتاد للكلمه, اما تدمير الخصوم مثلا.. فهو اكثر فائده من وجهه النظر العقليه[ الماديه] البحته. فحمايه العجزه والمقعدين, او العنايه بالمعوقين والمرضي الذين لا امل في شفائهم, كل ذلك ليس من قبيل السعي وراء الفائده. فالاخلاق لا يمكن ان تخضع لمعايير المنفعه. نعم.. قد يكون السلوك الاخلاقي احيانا مفيدا, ولكن ليس معني هذا ان شيئا قد اصبح اخلاقيا لانه اثبت فائدته في فتره ما من فترات الخبره الانسانيه. علي العكس.. فهذه الخبره نادره الحدوث. وثمه مفهوم اخر عرض له بيجوفيتش, وهو مفهوم المساواه, حينما يري ان هذا المفهوم لا يمكن ان يتحقق في الاطار المادي. فلو نظرنا الي البشر ورصدناهم بطريقه علميه ماديه لوجدنا التفاوت بينهم في الصفات, فهذا بدين وذاك نحيف, وهذا ذكي وذاك غبي, وهذا جمجمته كبيره وذاك جمجمته صغيره, وهذا ابيض وذاك اسود, وهذا اصفر وذاك احمر وبناء علي هذا الاختلاف يمكن ان نختار فنقرر الا يبقي الا الاذكياء, اما الاغبياء فلنتخلص منهم, بمعني ان عمليه الرصد العمليه او عمليه الحكم العلميه الماديه لا تنطوي علي فكره المساواه علي الاطلاق.
وبين علي عزت بيجوفيتش ان ثمه علاقه بين فكره المساواه بين الناس وفكره الخلود. ومن ثم نجد ان اخلاقيات الاديان السماويه وحدها تسلم بجلاء لا لبس فيه بمساواه جميع البشر باعتبارهم مخلوقات الله. اما النظم الدينيه والاخلاقيه التي لا تعترف بالخلود او لديها فكره مشوشه عنه, فهي لا تعترف بالتالي بهذه المساواه. فاذا لم يكن الله موجودا, فان الناس بجلاء وبلا امل غير متساوين.
ان المساواه والاخاء بين الناس ممكنان, فقط, اذا كان الانسان مخلوقا لله, فالمساواه الانسانيه خصوصيه اخلاقيه وليست حقيقه طبيعيه او ماديه او عقليه. ان وجودها قائم في اعتبارها صفه اخلاقيه للانسان, كسمو انساني او كقيمه سماويه للشخصيه الانسانيه.