نشرت مؤخرًا إحدى الصحف العربية مقالا تحت عنوان " خرافة الغزو الثقافي الغربي " لكاتب عربي أنكر فيه أن العالم العربي يتعرض لغزو ثقافي غربي متهما جهات قومية وإسلامية عربية وصفها بأنها متعصبة تعصبًا أعمى تقف وراء تسريب مثل هذه الادعاءات الباطلة – على حد قوله – مضيفا أن هذه الجهات تقلب الحقائق وتشوهها قاصدة بذلك تأزيم العلاقات مع الغرب المتحضر ، واستبقاء العالمين العربي والإسلامي بعيدين كل البعد عن المستجدات والمتغيرات الحضارية في شتى مناحي الحياة.
*) ولم يقف كاتب هذا المقال عند هذه الحدود ، بل انه تمادى إلى درجة انه أنكر أي فضل للحضارة العربية الإسلامية على الغرب ، وسخر من أولئك الذين " يدعون " أن أوروبا لم تعرف الصابون قبل الحملات الصليبية واختلاطهم بالعرب المسلمين . ثم انه خلص إلى نتيجة رددتها من قبله كل العناصر المعادية والناكرة للحضارة الإسلامية ، مفادها أن جذور الحضارة الغربية تعود فقط إلى الحضارتين الإغريقية والرومانية .
*) وإمعانًا منه في التمادي والإنكار وجه سؤالا لأولئك الذين وصفهم بالمتعصبين مفاده : وعلى فرض انه كان هناك تأثير ما للثقافة الإسلامية على حضارة أوروبا الغربية ، فلماذا لا يسمى هذا التأثير غزوا ثقافيا إسلاميا ؟ وأضاف أليس في هذا ازدواجية في المعايير والأحكام التي يتفننون في انتقاد الغرب جرّاءها ؟ .
*) ثم انه ختم حديثه بسرد قائمة عدد فيها أفضال الحضارة الغربية على العرب والمسلمين مطالبا إياهم بالاعتراف وعدم الإنكار أن الغرب منحهم كل شيء - مفاهيم الحكم والإدارة والديموقراطية والحريات والأنظمة الحياتية الحضارية وأدوات الحضارة المادية والمدارس الأدبية والفنية والنقدية وكافة المخترعات والتكنولوجيان الحديثة - وباختصار منحهم كل شيء ، وأنهم لولاه ولولا حضارته لكانوا ما زالوا يغطون في ظلام الجهالة والتأخر والتخلف .
*) بداية لم أفاجأ بهذه الهجمة الشرسة على لسان امرئ يفترض أن دماء العروبة تسري في عروقه ، وان كنت قد أصابني الغثيان مما قرأته ، وتألمت كثيرا لهذا الجلد اللامبرر للذات ، ولهذا الخروج من الجلد ، والوقوف في صف كل من يعادي العروبة والعقيدة والتاريخ والجذور والموروث الثقافي ، وهذا إن دل فإنما يدل على شعور بالدونية ، واعتراف بفوقية الآخر .
*) ونحن لسنا هنا في معرض الدفاع عن الحضارة العربية الإسلامية وما لها من آثار حميدة على مجمل الحضارة الإنسانية ، إلا أننا نود أن نذكر بكتابين غربيين تناولا هذه الحضارة وما لها من أثر عميق ومفصل على الشعوب الغربية وحضاراتها . الكتاب الأول وله من الشهرة ما ليس لسواه ويحمل عنوان " حضارة العرب والمسلمين " للمؤرخ الفرنسي الشهير جوستاف لوبون . أما الكتاب الثاني فعنوانه " شمس العرب تسطع على الغرب ” لمؤلفته الألمانية زيغريد هونكه ، وثمة قائمة لا تعد ولا تحصى من هذه الوثائق الغربية تشهد على عظمة الحضارة العربية الإسلامية وجزيل عطائها في شتى المجالات الإنسانية على مر العصور . إنها وثائق تضيء فضاء الحقائق ، ويكفينا هنا أن نقول " لقد شهد شاهد من أهله " وكفى
*) لقد استهللت حديثي بأنني لم أفاجأ بهذه الهجمة الشرسة واللامبررة كون " فارسها " لم يكن الأول ولن يكون الأخير ، فثمة شريحة من الكتاب والكاتبات العرب والمسلمين لم يجدوا وسيلة لإشهار أنفسهم وأعمالهم إلا بتعمد اجتياز الخطوط الحمراء المرسومة أساسا لحماية العقيدة والتاريخ والموروث وكل ما يمت إلى المنتمى والموروث الثقافي بصلة . وهي وسيلة باتت مكشوفة ومعروفة غاياتها وأهدافها على المستوى الفردي، وما لها من صلات مشبوهة مدفوعة الأجر من " الآخر " خارج حدود العالمين العربي والإسلامي، وان كان تكرارها يحدث غصة في النفس ، ويعمق الجرح في المشاعر.
*) وهنا يتبادر الى الأذهان سؤال مفاده : أليس من حق أي كاتب عربي او إسلامي أن يبدي رأيه بحرية ؟ . أو ليس هذا الكلام يأتي تحت ظلال حرية الرأي ، او مقولة الرأي .. والرأي الآخر ؟ . والإجابة عن هذا السؤال ذي الشقين بسيطة للغاية . ان حرية الرأي مقدسة ، والرأي الآخر مطلوب ، حتى يكون هناك تعددية في أطياف المشهد الثقافي والفكري والإبداعي العربي والإسلامي .
*) إلا أن حرية الرأي، والرأي الآخر يفقدان مصداقيتهما وشرعيتهما اذا كانت غاياتهما الاستهداف المتعمد والتجاوز للخطوط الحمراء لأهداف خاصة ومشبوهة ومنتهكة لمنظومات ثقافية او عقائدية أيًا كانت . ساعتئذ فلا حرية ولا رأي آخر كونهما أصبحا معاديين فاقدين لكل إمكانيات التعايش الفكري ، لا مجرد ناقدين او موجهين طارحين لرؤى يمكن الدفاع عنها بأساليب حضارية بعيدة عن التشنج والانفعال ، لا تفوح منها رائحة التعالي والفوقية والتنظير والخروج السافر على المنتمى بكل ما يمثله ، او تسويقا لبضائع الآخرين .
*) ثمة جانب آخر للموضوع الذي لا يمكن فهم كل جوانبه وما بين سطوره، الا اذا أضيء هذا الجانب، ونعني به تلك الهجمة الشرسة الموجهة ضد كل ماهو عربي او إسلامي على كافة الصعد، والتي تقودها جهات غربية سياسية وثقافية وإعلامية وفنية وغيرها . وهي في حقيقتها هجمة منظمة، ليس ثمة كبير عناء لاستنتاج ما بين تلك الهجمة الخارجية وربيبتها داخل العالمين العربي والإسلامي من توقيت وتناغم وتقاطع في غالبية النقاط.
*) وهذا يفسر بما لا يدع مجالا للشك ذلك الدفاع المستميت من قبل هذه الجهات عن أي كاتب او مبدع عربي او إسلامي في هويته، اخذ على عاتقه استهداف العرب والمسلمين بصورة او بأخرى ، وتعرض جراء ذلك للمساءلة او المقاضاة، او حتى لاستنكار او إدانة من قبل مجتمعه. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة وصلت الى حد منحه مأوى آمنا وإقامة ميسرة، وكل ذلك يأتي تحت ظلال الدفاع عن الحريات الشخصية، وحقوق الإنسان، والتعددية في الرأي.
*) في اعتقادنا أن كل شي في الساحة العربية لا ينبغي له أن يكون فوق النقد والتشريح وإعادة القراءة. وهذا ينطبق على الأنظمة السياسية والاجتماعية والتربوية والعادات والتقاليد والأعراف وغيره. الا ان هناك خطوطا حمراء لا ينبغي لأي ان يتجاوزها، وهي تشمل العقيدة الإسلامية ورموزها، وقيم الانتماء العروبي، وأمجاد التاريخ العربي الإسلامي وإنجازاته الحضارية الثقافية .
*) وثمة فرق كبير بين قراءة تستهدف إضاءة فضاءات الصروح الثقافية العربية الإسلامية وإزالة ما علق عليها من غبار تقادم الزمن، او ما لحقها من تشويه مقصود ومتعمد من طرف او آخر، وبين قراءة أخرى مغرضة حاقدة متقاطعة مع استهدافات خارجية معادية تبتغي إطفاء مشاعل هذه الفضاءات والتعتيم عليها وتقزيمها او حتى طمس كل مالها من معالم والأخطر من كل ذلك إبراز العرب والمسلمين وكأنهم عالة على الحضارة ، يعيشون على فتات حضارات الآخرين وثقافاتهم .
*) وكلمة أخيرة، ان الأولى بكل كاتب او شاعر او مبدع عربيا كان ام مسلما، وايا كان ابداعه ان يسخر قلمه وإبداعه لخدمة وطنه عقيدة وتاريخا وإنجازات حضارية وثقافية، وإضاءة معطياتها الخيرة السمحة، والدفاع عنها كونها مستهدفة وذلك دون اية مغالاة او مبالغة او تحي ، بدل هذا الجلد الذميم للذات، والخروج الفاضح من الجلد، والانحياز المشبوه لهذه الموجات العدائية الغربية لكل ما هو عربي ومسلم، وذلك مقابل حوافز مادية، أو شهادة تحضر وعصرنة وحداثة وعولمة.