بعد تشريق وتغريب ورحلة مع الإنسان وعلاقته بالمشترك بينه وبين الحيوان والنبات والجماد، والذي أشعل فتيلها الفيلسوف جورجيس الذي يقول "أن مقياس جميع الاشياء هو الانسان"، نصل وإيّاكم إلى المرحلة الأهم وهي المرحلة التي نبين فيها ما لا يشترك فيها الإنسان مع غيره من الكائنات وما يختصّ فيه دون غيره من أحوال وصفات. وفي بداية البحث الذي أردت لخاتمته أن تكون مسبوكة بأدلة وبراهين ثابتة، بدأت في قراءة الدليل الانساني (القرآن الكريم) الذي نزل على النموذج المثالي للانسانية (محمد صلى الله عليه وسلم) ، فالمرجع الذي يصلح لكل زمان ومكان لهذا المخلوق هو كتاب الله الخالق البارئ المصور، وبعد البحث والتفحّص والتمحيص لمفردة "الانسان" وجدت أن الحصيلة كانت ممتعة وثرية، مدّت للأفق آفاقًا وجعلت من العمق أعماقًا، فكانت الحصيلة 30 آية من كتاب الله العزيز ذُكرت فيها هذه المفردة ما بين وصف لأحواله وخَـلقه وصفاته، وإليكم ما قاله الله سبحانه وتعالى عن الانسان:
"الانسان" : ( أكثر شيء جدلا ، ذو دعاء عريض ، كفـّار ، خصيم ، فرح ، ضعيف ، جهول ، هلوع ، كنود ، عجول ، يئوس ، قنوط ، قتور ، فخور ، ظلوم وتكررت مرتين ، كفور وتكررت خمس مرات ، مبين وتكررت مرتين).
أترك لكم الرجوع للمعاجم والتفاسير لمعرفة معاني هذه الكلمات لتتضح لديكم هذه الصفات التي وجدت عند الانسان وكلها صفات سلبية تدل على دنو النفس البشرية في مختلف هذه المعاني، وقد وردت عشر صفات منها على صيغة الوزن (فعول) وفيه كما نعرف ايراد صيغة المبالغة، نعم فهذه الصفات عند الانسان تكون مذمومة وبشدة لأن الله تعالى وهبه ما لم يوهبه للحيوان أو النبات أو الجماد، لكون الإنسان يختلف عن النماذج الثلاثة التي قارنّاه بها كونه مكلف ومحاسب وهذه أولى الخصائص التي تميز الانسان عن غيره ولا يمكن أن توجد عند غيره إلا الجن – وهو ليس مدار بحثنا وحديثنا - والحيوان محاسب لكنه غير مكلف كما جاء في الحديث "لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم - ثم يقول لهم كونوا ترابا. أما الإنسان فهو مكلف ومحاسب ومجازى بالعقاب أو الثواب، ومن هذا المنطلق سنربط التكليف الالهي بالخصائص الانسانية التي وهبها الله تعالى له دون غيره.
ثاني هذه الخصائص هي نعمة العقل التي تمنح الإنسان القدرة على الانتقال من الحقائق المشهودة إلى المغيّبة ومن المسائل الجزئية إلى الحقائق العامة ومن الأمثلة الواقعية إلى السنن الإلهية ومن الظواهر المعروفة إلى القوانين العامة المجهولة، كذلك فمن خلاله نفهم ما يدور حولنا والغايات التي خلقنا من أجلها وندرك أهمية وجودنا وما هو مآلنا ومصيرنا، فنعمة العقل إذا ما وضعت في كفة ووضعت في الكفة الأخرى جميع الطاعات والأعمال الصالحة لأعبد الناس لرجحت كفة العقل. فالحمد لله على هذه النعمة ونسأل الله أن تكون حجة لنا لا علينا يوم القيامة. كما أن الانسان كائن متطور لا يستجيب للمواقف الحياتية المثيرة بمجرد رد الفعل الاستجابي بدون مشاعر وانفعالات تهز كيانه كما يحصل عند الكائنات الحية الاخرى. فهو يستجيب ومعه الانفعال والإحساس بالموقف "عندما اخضع علماء النفس السلوكيين الكائن الحي للتجريب بغية دراسة رد فعله وضبط استجاباته وفقا للموقف المفاجئ، وجدوا أن الإنسان على الاختلاف التام في ردود الافعال والانفعالات ومستوى التأثر عن الكائنات الحية الاخرى، وهي حقيقة يدركها كل من يدرس الإنسان في ظاهره وباطنه، وان ما يميز الانسان ايضا هو عنصر التفكير وتقييم الواقع." (الدكتور أسعد الامارة)
وثالث ما يميز الانسان اللغة المنطوقة والمكتوبة التي يتواصل بها مع غيره، فهي التي حيرت الباحثين من نشأتها إلى مراحل متقدمة من تطورها، وهي قبل كل شيء معجزة الله الخالدة التي أعجزت أرباب البلاغة في عصر البيان والفصاحة إلى قيام الساعة. وهذه المعجزة نزلت بلغة العرب التي هي من ضمن مئات اللغات التي عرفتها الإنسانية، وتتنوع استخدامات اللغة من أداة أو وسيلة لتوصيل فكرة أو معنى، إلى ما يسمى حديثا باللغة الهندسية التي تهدف إلى استخلاص المعلومات والتحليل الآلي للنصوص كما في محركات البحث، فانتقلنا من البساطة اللغوية التي كان هدفها الرئيسي هو التواصل إلى التعقيد الحاصل في تحويل اللغة إلى رموز هندسية تساعد في تركيب شبكات أكثر تعقيدا في الحاسب الآلي وغيره.
أخيرا،فإن الانسان يتميز بهذه الخصائص الثلاث التي تتفرع منها بقية الاختلافات ما بين الإنسان والكائنات الأخرى، فمن خلال إدراك التكليف الإلهي ينبع الاإمان والاعتقاد والعلم والعمل ومن خلال العقل يناضل الإنسان ويبحث عن الحرية والاستقلالية، ومن خلال اللغة يعبر عن إحساسه وشعوره بصورة مختلفة، ومن خلال هذه الخصائص يختلف الحب الانساني عن الحيواني وتختلف الوظيفة الإنسانية عن الجمادية ويختلف العطاء الإنساني عن النباتي، وتتواصل هذه الاختلافات من حلقات كبيرة إلى أصغر فأصغر، حتى نصل إلى الاختلاف ما بين البشر أنفسهم، وهذه هي المنظومة الكونية التي مهما بحثنا واكتشفنا فيها فإننا في واقع الأمر نثبت جهلنا أمام علم الله وملكوته العظيم.