التخلف يأتي من ركود الحياة الثقافية أولا، ويأتي الركود بشكل أساسي من غياب الفكر النقدي عند الأمة.
فعندما تركد الحياة الثقافية تصبح الثقافة كلها تكرارًا واجترارًا للماضي والتراث، بعيدًا عن الإبداع والتطلع للمستقبل.
وفي حياة الأمة العربية إرث عظيم من الفكر النقدي، يتجلى معظمه في التجربة الإسلامية العالمية الأولى، التي قامت على مجموعة من العوامل النقدية، وفي مقدمتها نقد الواقع الجاهلي، ونقد الأمم البائدة (عاد – ثمود - الفراعنة)، ونقد واقع الأمم المعاصرة للرسالة (الروم والفرس وغيرهما) وطرح البديل الأفضل من وحي السماء الذي يدعم العقل والتفكير والابتكار، فكان أن ازدهرت حضارة العرب التي قامت على أنقاضها حضارة الغرب.
بيد أن الجمود لم يلبث أن هيمن على حياة المسلمين في القرون الأخيرة، فبعد نكبة بغداد الأولى عام 656هـ على يد هولاكو انكفأت الثقافة الإسلامية على نفسها لتدون ما فقد من كنوز التراث، ولم نلبث أن وقعنا في الجمود والانحطاط والتكرار والاجترار.
نشأت أفكار بعيدة عن الدين، تكرس التبعية المطلقة للشيخ، وتأمر المريد أن يكون كالميت بين يدي الغاسل، وإذا رأى شيخه يعمل منكرًا فعليه أن ينكر ما رأت عيناه وأن يقول إن الشيطان قد تمثل بصورة شيخه. ثم أغلق باب الاجتهاد، وصارت الثقافة العربية الإسلامية تدور حول القرون الثلاثة الأولى من غير تجديد ولا مزيد.
ثمة محاولات كانت لمحمد عبده والأفغاني ورشيد رضا وغيرهم لإيقاظ العقل المسلم ودفعه في دروب النهضة والتفكير، وهي محاولات على جلالتها لم تستطع أن تجسّد طبيعة التخلف الذي تعاني منه الأمة، وهو تخلف يرتكز بطبيعته الأولى إلى البون الشاسع بين التقدم في الحياة الدنيا لدى الغرب مقابل تخلفنا فيها، فكان التركيز ينبغي أن يتركز على تطوير الحياة بشكل أساسي، ولكنه عند غالبية أهل العلم ذهب إلى إصلاح الحياة الروحية للأمة على أساس أنه هو السبيل لإصلاح الدنيا، وأدى الغلو في الإصلاح الديني إلى تأخير الإصلاح الدنيوي في وقت تتسارع فيه عوامل التطور والنهضة عند الأمم الأخرى بشكل بطيء بينما هي شبه متوقفة عند العرب والمسلمين.
إن إصلاح الفكر الديني مطلوب، ومطلوب معه إصلاح الفكر الاجتماعي والواقع الاقتصادي والحياتي للأمة، وينبغي التمييز بين عوامل النهضة الدينية وعوامل النهضة الدنيوية، وتفعيل قانون السببية، وتفعيل النقد البناء في حياتنا الدينية والدنيوية من أجل الوصول إلى رؤية سديدة تصنع لنا مستقبلا أفضل.
ولا بد أن نشير إلى أن أبرز من عني من القدماء بنقد الفكر الغزالي وابن تيمية، أما في العصر الحديث فهناك كتاب كثيرون في بداية القرن العشرين، ولكن هذا الاتجاه خَفُتَ في أواخر القرن العشرين حيث تحولت الحركة العلمية إلى حركة أكاديمية هادئة ملاينة تقبل بالواقع وتنساق معه قبل أن تسوّقه.
إن الواقع المزري للفكر والتربية في العالم العربي، والسلبية القاتلة تجاه البحث والتفكير النقدي جعلنا نغرق بالاتباعية وننام نومة تزيد عن ألف سنة، فقد توقف الفكر والإبداع تحديدا بعد القرن الرابع الهجري، وكان الاستسلام للنوم والغفلة هو أحد علائم الموت الثقافي الذي اعترى هذه الأمة كمقدمة للموت الحضاري.
وإن إحياء الفكر النقدي الذي يمعن ويحلل ويسنتج بعيدا عن الوصاية والكبت هو أهم علائم الحياة عند الغرب وغيره من الأمم الناهضة، وإذا أردنا أن نحيا علينا أن نفكر، وإذا فكرنا فقد وجدنا، وإذا حاسبنا أنفسنا قبل أن نحاسب شربنا إكسير الخلود.