أكتب قصة الخيال العلمي منذ اثنتي عشرة سنة. واحدة من (التيمات) الخالدة في هذا الضرب القصصي تقوم حول السؤال: ماذا لو؟.. ماذا لو لم تسقط التفاحة على رأس (نيوتن)؟ ماذا لو انتصر (هتلر)؟ سأطرح هنا مشروع قصة فانتازية تبدأ بالتساؤل: ماذا لو كان (كولومبوس) قد اكتشف أميركا باسم زعيم عربي؟! فالبحّار الإيطالي كان قد شحذ ملوك أوروبا واحداً تلو الآخر كي يُمولوا حملته لاكتشاف الطريق غرباً إلى الهند، حتى ارتمى آخر الأمر عند قدمي (إيزابلا) ملكة (أراغون) التي تصدقت عليه بثلاث سفن وصل بها لما ظنه - حتى بعد عودته مكللاً بالغار- الساحل الشرقي لشبه القارة الهندية. مما يفسر التصاق صفة " الهنود" بسكان أميركا الأصليين إلى اليوم! وقد كان ذلك كله في عام الرب 1492م.. نفس العام الذي احتفل فيه (فرناندو) ملك (قشتالة) وزوجته (إيزابلا) السالفة الذكر بإخراج (أبي عبدالله الصغير) من غرناطة.
تعالوا نفترض مجرى آخر للأحداث تطرد فيه الملكة الإسبانية هي الأخرى المغامرالإيطالي العنيد من بلاطها، فلا يجد هذا بُدّاً من أن يقصد حاكم (المور) في الطرف القصي للقارة الأوروبية: (أبوعبدالله محمد) آخر ملوك دولة بني الأحمر.
وفيما يقف البحارالإيطالي متلعثماً ليفسر فكرته في عبور بحر الظلمات، دعونا نتخيل الملك الشاب وقد انحنى على أذنه أحد كبار مُلاك السفن، أو أحد أصحاب مكاتب استقدام البحارة، ليقنعه بالفوائد الخفية لدعم حملة الإيطالي لاسيما تحت التهديد الذي يمثله النصارى في الشمال. هكذا سيبحر (كولومبوس) بثلاث مراكب أندلسية ليغرس ذات يوم راية بني الأحمرعلى شواطيء (كوبا) - التي ستصبح "قوبـه"- ويعلن الأرض جزءاً من أملاك صاحب غرناطة.
حين يجد (الصغير) نفسه مضطراً لتسليم قصرالحمراء كما ينص التاريخ الحقيقي، فإنه - في نسختنا المعدلة - بدلاً من أن يبكي ملكاً لم يحفظه كالرجال ويرحل للمغرب كملك منفي تاركاً شعبه تحت رحمة معاهدة هشة مع الإسبان، سينظم حملة رهيبة يخلي بها غرناطة من كل رعاياه ليعبر بهم المحيط بأسره نحوالأرض الجديدة.
والحملة الخيالية سترسو عند مكان لنسمه "مسطوشطش"كما في اللسان العربي الذي سيشرع في لَوك الأسماء والثقافات في هذا العالم الجديد الذي سيجمع فيه الأندلسيون فلول دولتهم.
كيف ستسير الأمور في الدولة العربية الوليدة؟ كل الخيارات مفتوحة في هذا التصورالفانتازي. لكن بوسعنا أن نفترض تعايشاً سلمياً نسبياً بين السكان الأصليين والوافدين الجدد الذين لا تحركهم ميول استعمارية كما كان الحال مع جيوش الإمبراطورية الإسبانية التي اجتاحت القارة بالفعل.
طبيعة الأشياء ترغمنا على تخيل انتشار تدريجي ثابت للديانة الإسلامية بين القبائل الأصلية. هذه الطبيعة كذلك تدفعنا دفعاً لتوقع بلبلة سياسية تكرر نمط ملوك الطوائف تدخل فيها (أميركا العربية) في دوامة من الانقلابات لاسيما أن المهاجرين يتدفقون للأرض الجديدة تحت ضغط حروب الاسترداد التي يمارسها الإسبان في المغرب.
لا شيء يضمن ألا تتوجه أطماع العثمانيين أو حتى (بني مرين) في المغرب نحو الأرض الجديدة. ثم من قال إن الإسبان ومن بعدهم الفرنسيون والإنجليز سوف يتركون شتات الأندلسيين ينعمون بالفتح الجديد ويشكلون سلالة حاكمة جديدة تنصهر مع قبائل (الداكوتا) و(الشيروكي) الأصلية؟
الخلاصة أن واقعاً استعمارياً ما سيقوم هنا أيضاً في القارة الجديدة. لكن تذكروا: في هذه القصة أميركا.. أو ما يقوم مقامها.. ستظل عربية.
كيف كان ذلك سيؤثر على مجرى التاريخ؟ وهل كانت أميركا العربية سترفد الحضارة المادية بنفس الزخم الذي تفعل به أمريكا اليوم؟ بوسعنا أن نتخيل وفق التصور أعلاه عالماً بلا دولار. عالما لا يكتشف فيه (بنيامين فرانكلين) سرالكهرباء ولا يخترع فيه (كاروذرز) مُركّب (البلاستيك).
وإن يكن أولئك مجرد أسماء في ترويسة التاريخ كان سواهم سيحل محلها وفق حتميات المنطق. على ذكر الأسماء فلنمرح قليلاً ونتخيل حاكماً عربيا ذا أصول "هندية" لأمريكا الجديدة ينتهي اسمه بـ "الراقص مع الذئاب"! غني عن القول أن لفظة "أميركا" نفسها كانت لن توجد.
هل كان الواقع في القلب العربي سيتأثر مع وجود فرع للحضارة العربية في الأرض الجديدة؟ ربما ليس كثيراً! فلنتنبه إلى أن ظروف الجغرافيا السياسية حدت بالأندلسيين للعيش بمنأى عن القلاقل في سائرالعالم العربي.
وتحليل (أبي جعفر المنصور) للحالة بينه وبين (عبد الرحمن الداخل) يمكن تكبيره وإسقاطه بسهولة على تطورالأوضاع في تلك الأندلس الجديدة التي ستترعرع بها ولا شك أنماط فريدة للثقافة العربية الإسلامي بطبيعة الحال. إنما قد لا يلقي أهلها بالاً لسقوط الخلافة في المشرق مثلاً ولا للمد الاستعماري الذي سبق والتهم باقي (ديار الإسلام).
أوروبا كانت ستتطورعلى نحو مختلف تماماً بالتأكيد، ربما كانت البروتستانتية ستندثر وفق ثمة سيناريو. ولعل القارة كانت ستقع في حضن الاشتراكية بسهولة أكبر أو في قبضة كنيسة كاثوليكية مطلقة السلطة ليظهر تعريف جديد تماماً للمعسكرين (الشرقي والغربي).
ويبقى السؤال مفتوحاً حول دور الحضارة (الأميريـ - عربية) في هذه المواجهة. وعما إذا كان العالم سيعرف بنظرية (صراع الحضارات) وبأسطورة (الشعب الذي يحكم) كما نعرفهما اليوم.
باقي القصة ليس سوى سلسلة متعاقبة من تساؤلات (هل) و (ماذا لو) التي تفتح كل منها باباً لرواية أخرى جديدة. ماذا لو دخلت (أميركا العرب) الحرب العالمية؟ من كانت ستحارب؟ هل كان الأندلسيون في الأرض الجديدة سيلتزمون بالمذهب (المالكي) أيضاً؟ وكيف كان ذلك سيؤثر على الحراك الثقافي والسياسي الذي جعل من أمريكا اليوم ماهي عليه؟
هل كان سيقوم بها أصلاً نموذج مفتوح للأعراق والجنسيات كما هو الحال مع (أميركتنا)؟ ماذا كان العرب سيفعلون بنفط الغرب الذي دشن ثورة الطاقة في العالم؟ من كان سيصنع لنا (الكابريس)؟ ثم ماذا لو هاجر (اينشتاين) لهذه الأميركا الخيالية؟ هل كان العرب سيمتلكون القنبلة النووية الأولى؟ وعلى رأس من يا ترى كانوا سيفجرونها؟