السلطة داء، وحالة طارئة على المجتمع البشري، هي طفرة طرأت على جين المجتمع، وبدل أن يتحكم هذا المجتمع بعلاقة سليمة مع الطبيعة ومع ذاته، ينتج ويستهلك ويجدد قدراته، دون الحاجة إلى تراكم ما ينتجه لأنه يكفيه، فحدثت الطفرة في لحظة من تراكم الثروة، فأصبح للثروة مالكاً، ومع هذا التراكم احتاج المالك إلى قوة للدفاع عنها، ومع هذه الحاجة مباشرة وُلد المالك والمملو ، السيد والعبد، الذي يدفع الأجر والعمل المأجور، أي السلطة (صاحب الملك، وهو يملك إنتاج غيره، ينهب غيره، يتطفل على الآخر)، والسلطة أهم شيء قامت به هم منع التواصل المباشر بين المجتمع والمجتمع، وبين المجتمع وبين الطبيعة إلا من خلالها من أجل القدرة على التحكم والسيطرة والعبور بذاتها نحو المستقبل، و أصبح المجتمع لا يأخذ حاجته مباشرة من الطبيعة بل عن طريق وسيط (السلطة)، هذا الوسيط يتحكم بأمرين الدفاع ، والثروة. وهما أمران لم يكونا عندما كانت العلاقة مباشرة مع الطبيعة، ولا داعي لحماية الثروة، ولا لإعادة توزيعها كأجر (ولادة العمل المأجور) وبدل أن ينتج المجتمع ما يكفيه، أصبح ينتج ما يزيد عن حاجته، وهذه الزيادة هي بفعل أمر من السلطة التي تأمره وتتحكم به، فبدل أن ينتج لصالحه أصبح ينتج لصالحها، تحت تأثير قوتين :
- القوة والضغط .
- التحكم والسيطرة.
ولاحقا يتمثل ذلك في عصرنا الحاضر عبر قبول للسلطة تحت مسمى عقد اجتماعي معها اسمه الوطنية، أو الهوية، والدفاع عنها، وهو يقدم لها الضرائب ويسمح لها بنهب ثروات الأرض وتدمير البيئة تحت مسمى هذا المسمى .
وأشبه السلطة بفيروس التهاب كبدي، فخلايا الكبد السليمة تفرز الصفراء لصالح الجسم، وعندما يتم غزوها من قبل الفيروس ، تستمر في عملها لكن الفيروس يقول لها ، استمري في العمل ، لكن لصالحي، وتستمر، ويستمر الفيروس بالتطفل على الخلية التي تعمل لصالحه وليس لصالح الجسم، وتظهر الأعراض المرضية من يرقان وغيره وتنهي بموت الخلايا، لأنها غير قادرة على تجديد نفسها وغير قادرة على تلبية احتياج الفيروس إلى الأبد ..
وهكذا حال المجتمع، مثله مثل الخلية المصابة بفيروس، السلطة لا تسمح له بالعمل لصالحه، وبالتالي تبدأ مرحلة انهياره منذ اللحظة التي تغزوه السلطة، كلما كانت السلطة قوية ، بلغ المجتمع حد الانهيار (سلطة واشنطن الآن) الإصابة بفيروس السلطة في حالة نشطة وعلى أشده والتطفل بلغ ذروته، وقدرة المجتمع على الاستمرار وعلى تجديد ذاته أصبحت أضعف فلجأت إلى الخارج (حرب العراق) من أجل التعويض، لكن الخارج أيضا يقاوم ، والنتيجة واحدة هو سقوط السلطة .
وكلما كانت السلطة ضعيفة حافظ المجتمع على توازنه، وكان المجتمع أقوى (مجتمع منظمة أطباء بلا حدود – لا سلطة قوية فيه، لكنه مجتمع يقوم بوظائف عظيمة ومستمر وغير مهدد من قبل أحد) .لا مستقبل لأي سلطة في العالم، والدليل سقوط الإمبراطوريات الكبرى في العالم ، وهو سقوط للسلطة، وميزة المجتمع هو إعادة تجديد نفسه، ولكن مع استمرار العامل الجيني للسلطة الذي تشكل في لحظة من خطأ بنيوي اجتماعي ولا يزال قائما إلى حدٍ ما،
هل هذه الطفرة (السلطة) قدر وأبدية ؟
الجواب لا،
المجتمع يقوم بعملية إعادة ترتيب بنيته من جديد بفعل ثلاثة عوامل :
1- خلق بديل عبقري للتراكم والانتقال من تراكم مادي إلى تراكم معرفي (ثورة معرفية)، يتميز بـ:
- لا يحتاج إلى حماية .
- متاح للجميع .
- مملوك من قبل الجميع .
- سلمي – اجتماعي ، غير قابل للتمركز بيد أحد .
- غير ممركز والسلطة غير قادرة على التطفل عليه
2- قوى اجتماعية أهلية كونية ، تتميز بـ:
- ليس لديها سلطة عسكرية أو مالية .
- ليس لديها هوية وطنية وإنما إنسانية (حركات مناهضة العولمة ، ومن أجل البيئة).
- لامركزية في العمل وهذه سمة إنسانية تحسب لها .
- سلمية – أهلية – خلاقة .
3- يعتمد المجتمع في هجومه على السلطة وتقويضها ، ونقل القوى التي تنهبها منه إليه بـ:
- تفكيك القوى الممركزة عالميا ، وتحويلها إلى قوى بأيدي المجتمع شيئا فشيئا ( الشركات العابرة للحدود الاقتصاد العائلي ونموذجه الناجح في إيطاليا ودول شرق آسيا).
- ضعف السلطة ذاتها، وعجزها عن السيطرة على القوى الاجتماعية الصاعدة .
- مقاومة الطبيعة للسلطة (وعدم تلبية احتياجاتها) مثال مصنع للورق يعتمد على أشجار الغابات، يقطع كل أشجار الغابة ، فيقف المصنع .
هذه المعادلة حتمية أيضا بالنسبة للصناعة النفطية .
إذن نحن أمام مرحلة جديدة، يصوغها المجتمع وفق معادلة بديلة ، معادلة على النحو التالي: لا سلطة قوة تتحكم بالآخر، ولا سلطة بديلة كما كان يحدث في تناوب الإمبراطوريات صعودا وسقوطا، بل مجتمع سلمي أهلي حر يتحكم بقواه، مثال القوى الاجتماعية : منظمة أطباء بلا حدود، صحفيون بلا حدود ، منظمة الشفافية العالمية، كلها قوى اجتماعية ليس لديها جيش من أجل الصراع، بل هي منظمات تعمل للتنمية الاجتماعية، ومثل هذه المنظمات أو هذا البديل الاجتماعي سيقوض بالتأكيد مركزية السلطة وقواها لتكون الصيغة على النحو التالي: مجتمع يتحكم بقواه المادية والروحية، كبديل عن مجتمع تتحكم بقواه سلطة تنهبه .
نشهد الآن انهيار لمركزية القوى الإمبراطورية لصالح تحول في السلطة لتكون مجتمع يفرز سلطته، لا سلطة تتحكم بالمجتمع، كما حال اللعبة الليبرالية التي استمرت مئتي عام في أمريكا والغرب، ولم تتمخض إلا عن استعمار قديم بفعل السلطة ، وعن استعمار جديد، هويتهما واحدة (النهب والاستحواذ على قوى الداخل والخارج).
ولا يمكن أن يستمر ذلك إلى الأبد ، فنحن أمام مشروع إمبراطوري أمريكي يتهاوى، لصالح مجتمع كوني سلمي أهلي