ما الذي قد يجمع بين رجلين مثل (جون روكفيللر) و (عبدالرحمن منيف)؟ مارأيكم بـ (النفط) كبداية؟!
نقطة الالتقاء هذه بالذات تدين أصحابها بأكثر مما تخدمهم للوهلة الأولى. فالنفط وبالرغم من كل خيراته الظاهرية الجمة، قد ارتبط في الضمير الجمعي بالشر الكامن.. وبثقافة الابتذال. النظرية التي لا تتفق والاسمين أعلاه بالضرورة.
الملياردير الأمريكي الشهير (روكفيللر) مثلاً، والذي يعده الكثيرون (الملياردير الأول) وفق تاريخ الدولار، كان مؤسس شركة النفط الاسطورية (ستاندرد أويل) التي تفرعت عنها شركات أخرى مثل (إكسون موبايل)، و(شيفرون) حيث ولدت (أرامكو) أيضاً. (روكفيللر) صنع امبراطورية مالية تكاد تكون الأكبر على الإطلاق. هو كان مقتنعاً بأن الله قد خصه بمَلكة فريدة لجمع المال. وأسلوبه في شكر النعمة قاده لسحق كل من ينافس موقعه في السوق بلا رحمة.. ما وصم اسمه بسمعة أشد سواداً من خام (بِرنت)!
لكن الصيت والثروة اللذين خلّفهما الرجل أرغما أبناءه من بعده على المبالغة في الظهور بمظهر المانح السخي. فآل (روكفيللر) هم الذين تبرعوا مثلاً للحكومة الأمريكية بقطعة الأرض التي بُني عليها مقر الأمم المتحدة بنيويورك. وقائمة المشاريع (النهضوية) الأخرى المنسوبة للعائلة تشمل تأسيس مصرف (تشيس مانهاتن)، وشركة (بان أميريكان) للطيران وجامعة (شيكاغو) كذلك. مع محاولة بائسة من أحد أفراد الأسرة لخدمة الشعب عبر الترشح لمقعد الرئاسة. فيما لا تزال (مؤسسة روكفيللر الخيرية) واحدة من أهم منظمات العمل الإنساني على مستوى العالم.
(عبدالرحمن منيف)، على الطرف الآخر من الأرض، مثّل قامة أدبية بذاته. فذلك المواطن العربي الذي تتنازع انتماءه عدة أقطار أعاد تشكيل الرواية العربية وقدم للقارىء نمطاً فذاً من السرد مزج فيه القصّ بالتأريخ وبالسيرة الذاتية. (منيف) الذي يعده الكثيرون (الروائي الأول) عربياً كان أول من حاز جائزة مؤتمر الرواية العربية عام 1998 قبل أن يرحل عن دنيانا ببضع سنين. وهو لم يدرس الأدب ولا الفن الجميل.. لكنه حصل على الدكتوراة في تخصص آخر بعيد هو (اقتصاديات النفط).. قبل أن يمضي شطراً من حياته في شركات البترول السورية والعراقية، ثم يرأس تحرير مجلة (النفط والتنمية) لتطل منها تجربته مع المجتمعات النفطية التي تضافرت مع معاناته الشخصية وموهبته الكامنة لتتجلى بعد عقود في روائع من قبيل (مدن الملح) و (أرض السواد) وفي (عالم بلا خرائط) التي ألّفها بالاشتراك مع الناقد الفلسطيني الكبير الراحل (جبرا إبراهيم جبرا) الذي عمل هو الآخر - بالمناسبة- في شركة نفط.. ورأس بدروه - أيضاً - مجلة ثقافية كان اسمها.. (أهل النفط)!
على النقيض من كاتبينا العربيين.. كانت استثمارت شركة (شِـل) في نفط نيجيريا سبباً في انقطاع الفتى (كن سارو ويوا) عن الكتابة الإبداعية ليتفرغ خلال العقود الثلاثة التالية من عمره للدفاع عن أراضي قبيلته وبيئتها التي انتهكتها منصات حفر الذهب الذي لم ينل ذووه منه إلا السواد.
(ويوا) الذي مثّلت له الحالة الخليجية بالذات مثالاً يستحق أن يناضل ليصل بشعبه إليه.. تم تكريس الذكرى العاشرة لإعدامه في العاشر من نوفمبر 2005 كمناسبة ثقافية على امتداد ثلاث قارات شارك فيها كبار من عينة النيجيريين (رمي راجي) و (وول سونيكا) الفائز بجائزة (نوبل) للآداب. وتم الاحتفاء يومها بأعمال (ويوا) التي تجاوزت الخمسة والعشرين في المسرح والمذكرات والمقال والقصة والرواية. قبل أن يقدم عملا مسرحياً مستوحى من نضاله (النفطوي).
بين (جبرا) و (منيف).. مروراً بـ (ويوا) وبأحفاد (روكفيللر) أيضاً.. يتشكل تعريف جديد.. شاذ لكنه واعد.. لما يعرف بـ (ثقافة النفط). ذلك العَرض الذي طالما التصق وكأنه سُبة بجتمعاتنا بحالها الحضاري الطارئ وبثرواتها الطارئة كذلك. لعنة النفط التي أفرزت كما تُقرر الصورة النمطية مجتمعات ريعية استهلاكية تعمل على فرض بصمتها بقوة المال وتميل لشراء كل شيء من الأمن وحتى المعرفة مروراً بالمكانة، تلك اللعنة ليست وصمة أبدية.
وابن حضارة النفط.. وإن كان قد مكّن عامداً باقي سكان الأرض من أن يتهموه بأنه "عالة على أرضه".. فإن عليه أن يعي كذلك أنه يملك تغيير ثمة صورة، ورسم ملامح ثقافته.. وإن تكن نفطية!
فكما تثبت الأسماء أعلاه وسواها.. تظل ملايين براميل النفط قاصرة عن حجب صفاء المواهب وشفافية الأرواح إذ تنعتق من قيد المادة وتتجاوز بعطائها سواد النفط وبريق الذهب لتتعلق بجوهر الإنسان وتسمو بوجوده.