ما زالت تداعيات الهجمة العدوانية الحاقدة واللامبررة التي اقترفتها مؤخرا الصحيفة الدنماركية "يولاند بوسطون" على شخص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال رسومات كاريكاتورية نشرتها على صفحاتها، ما زالت قائمة، وآخرها توجه وفد رفيع المستوى يمثل الجالية الاسلامية في الدنمارك الى جامعة الدول العربية، واجتماعه بأمينها العام، شاكيًا له الأمر، وطالبا التدخل والمساعدة، بعد أن رفضت الحكومة الدنماركية استقبال هذا الوفد بحجة أن هذه الرسومات تعبير عن حرية الرأي المعمول بها في الدنمارك باعتباره بلدا ديموقراطيا.
وفي اجتماعهم الاخير تحت سقف جامعة الدول العربية ، فقد اكتفى وزراء الخارجية العرب بشجب الحادث واستنكاره، وكان من المفترض أن يثيروه مع الحكومة الدنماركية ، كونه بكل المقاييس والمعايير اعتداء سافرا لا مبرر له على الرمز الأول والأسمى للعقيدة الاسلامية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. إلا أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث هذه المرة ولا في مرات سابقة كانت الديانة الإسلامية رموزًا وأركانٍا ومناهج وثقافة في مرمى الأحقاد العنصرية.
وللتذكير، فقد نشرت صحيفة يولاند بوسطون المذكورة في أحد أعدادها اثني عشر رسمًا كاريكاتوريًا ساخرًا تصور الرسول عليه السلام في أوضاع مختلفة تفرز دلالاتها تشويهًا متعمدًا لشخصيته، والأنكى منها جميعًا ذلك الرسم الذي يصوره وهو يعتمر عمامة على شكل قنبلة، ولهذا الرسم ما له من دلالات ونوايا عدائية مقصودها الحاق صفة العنف والارهاب بنبي المسلمين وبرسالته النبوية.
وأيًا كانت هذه الرسومات، فإن الدين الاسلامي يحرم إبراز أية صورة أو رسم للرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وانطلاقا من هذه الحقيقة التي يعرفها المسلمون وغير المسلمين، فإن تلك الرسومات بتصويرها شخص الرسول قد شكلت اعتداء سافرًا على العقيدة الاسلامية، اضافة الى كونها ساخرة هازئة مشوِّهة مزيّفةِ، مستخفة بمشاعر المسلمين في العالم بعامة، ومسلمي المملكة الدنماركية الذين يشكلون اكثر من 5% من سكانها بخاصة.
إن المساس بالإسلام، وانتهاك حرماته ومقدساته ورموزه بعامة، والتعدي على شخصية الرسول محمد عليه السلام بخاصة، قد أصبحا على ما يبدو مسلسلا متواصلا. فما ان تنتهي حلقة منه، حتى تبدأ أخرى. وهذه الحلقات وإن كان منشؤها في أقطار مختلفة، إلا أنها وكما يبدو متناغمة متكاملة في اهدافها وغاياتها ومراميها.
ومثالًا لا حصرًا، وفي استعراض سريع، فقد سبق وأن أقدم "شارلز مرور" المدير السابق في صحيفة "ديلي تلغرا " البريطانية على كتابة مقالة وجّه من خلالها إساءات بالغة للرسول الكريم تخص موضوع زواجه من السيدة عائشة رضي الله عنها وزوجاته الأخريات لا مكان هنا للإعادة ذكرها. وفي ذات السياق، فما زال المسلمون يتذكرون تجنيات الفلم الهولاندي "الخضوع " الذي شوه صورة الاسلام ووصفه بأنه دين رجعي لا يصلح لهذا العصر، ونعت الرسول الكريم بصفات الطغيان والجبروت. وإمعانا بالتجني والمعاداة والتحدي، فان كاتبة هذا الفلم – وهي عضو برلمان هولاندي - قد فرغت مؤخرا من كتابة سيناريو فلم "الخضوع 2" على ذات النهج والمنوال في استهداف الاسلام.
واستطرادًا، فإن هذه الحملات الهجومية المعادية للاسلام والمسلمين تفرض الكثير من الطروحات على شتى الصعد. فعلى صعيد من يقف خلفها ويغذيها، فانهم يبررونها في اطار حرية الرأي والديموقراطية التي تتمتع بهما بلادهم، او انها تاتي على حد ادعائهم في سياق حوار الثقافات والديانات.
وأما على صعيد الرد علىهذا الادعاء، فان الامر لا يحتاج الى كبير عناء وجهد. ان الديانات والعقائد السماوية وحتى غير السماوية لا ينبغي لاي كائنا من كان ان يدخلها في "لعبة حرية الرأي والديموقراطية" . انها بكل بساطة اسمى واجل من كل هذه المهاترات والانتقادات والتعليقات والمحاكمات. ولو كان الامر بهذه السهولة لاصبحت الديانات بكل ما ترمز اليه في مهب اهواء النفوس المريضة المعادية، ولاصبحت عامل افراز عناصرالشر والكراهية والمعاداة والاحقاد بين الشعوب، ولفقدت عناصر الخير والمحبة والالفة والتسامح التي جاءت من اجلها.
وأما الطرح الثاني فيأتي على صعيد اتهام المسلمين ظلما وزورا وبهتانا بانهم يمارسون ثقافة الاكراه وعدم التسامح، والتحريض على الارهاب والعنف والقسوة، هذه السلوكات التي على حد ادعائهم الباطل مستقاة من تعاليم دينهم، وسنن رسولهم.
واستكمالا، - وسواء ارتدع هؤلاء الحاقدون العنصريون، وهم لن يرتدعوا – فإن المسلمين يكفيهم إيمانًا وخُلقًا وتسامحًا أنهم يؤمنون بكل الانبياء والرسل الذين بشروا بالديانات السماوية، وتعايشوا مع المؤمنين بها. وهم يسلمون ويصلون في صلواتهم ودعائهم على كل هؤلاء الرسل والانبياء، وعلاوة على ذلك يقدسونهم ويسيّدونهم. ولم يسجل لكاتب أو ناقد او اعلامي او عالم دين من المسلمين ان استهدف واحدا منهم، او هاجم معتقدات الديانتين السماويتين الاخريين، كما هو حاصل ضد نبي الاسلام عليه السلام، او تعاليم الديانة الاسلامية من قبل هذه الفئة الحاقدة المعادية.
والطرح الثالث مفاده ان المسلمين عبر العصور والأزمان، وفي أحلك الأحوال، لم يتزعزع إيمانهم برسولهم الكريم ونبيهم الأمين، وهم يذكرون أولئك الحاقدين العنصريين ان رسولهم ونبيهم محمدا عليه السلام أجل وأسمى من كل هذه الترهات والإساءات، وكفاه تعظيما وتكريما ان رب العباد في كتابه الكريم قد قال عنه "وإنك لعلى خلق عظيم"، صدق الله العظيم . وكفاه انه لم يكن فظا ولا غليظ القلب، وكان مثالا للرحمة وحسن المعاملة ، فتجمع المؤمنون حوله وما انفضوا.
والطرح الاخير يخص ردود افعال اصحاب الشأن وهم العرب والمسلمون الذين ما كانت ردود افعالهم ازاء مثل هذه الهجمات المتصاعدة الوتيرة الا منخفضة السقف، او بصحيح العبارة اما انها لا تكون، واذا كانت فانها تأتي خجولة متواضعة. وهنا لا بد من التأكيد على ان ردود الافعال تأتي في الغالب من الجاليات والمنظمات العربية والاسلامية المقيمة في الاقطار الاوروبية او الاميركية، وهؤلاء يظلون وحدهم في الساحة لا يجدون من العالمين العربي والاسلامي الا النذر اليسير من الدعم والمؤازرة، وكأن الامر يخصهم وحده .
وكلمة اخيرة في هذا الصدد. إن المشكلة الكبرى لا تكمن في هذه الهجمات الظالمة المتجنية المتطاولة على العقيدة ورموزها ومناهجها، والمشوهة عن قصد لصورة الاسلام والمسلمين، بقدر ما تكمن في تقاعس الجهات العربية والاسلاميةوالتي لها الكثير من الوسائل والخبرات والامكانيات في العالمين العربي والاسلامي، والتي يفترض بها ان تتصدى بردود افعال دفاعية تتناسب وجسامة الافعال الهجومية. والمقصود هنا الانظمة السياسية العربية والاسلامية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، والازهر الشريف، وجامعة الدول العربية، وكليات الشريعة الاسلامية، والمنظمات والجمعيات الاخرى. ورحم الله الشاعر العربي الذي قال:
لا يلام الذئب في عدوانه - إن يك الراعي عدو الغنم