حاجز رقيق بين أن نعتمد على قوتنا وبين أن نعتمد على قوة الله فنكون مؤمنين، وخطوة واحدة بين أن نعمل وبين أن ننوح كالثكلى التي لا تلوي على شيء. {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ ليَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16)} [الحج :الآيتين 15و16].

قال البيضاوي: ”إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه ... {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ ليَقْطَعْ}، فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظاً أو المبالغ جزعاً حتى يمد حبلاً إلى سماء بيته فيختنق “ [تفسير البيضاوي (4/118)].

الواقع في غاية السوء كما يحلو لبعض الناس أن يقول، لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف: الآية56] ؛ قال ذلك بعد قوله: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: الآيتين55و56].

فلماذا لا ندعو الله بصدق وإخلاص يقارنه العمل الجاد الدؤوب، بدلاً من النواح كالثكلى التي فقدت ولدها الوحيد، فتخدع نفسها ببكائها، ولا تجد إلى إرجاعه سبيلاً.

قد نجد عذراً لتلك الثكلى أنها فقدت عقلها، لكن ما بال العقلاء من أمتنا ؟! ما بالهم يكثرون العويل ويجهشون بالبكاء؟! هل فقدوا الحيلة؟! أم أنهم يأملون ببكائهم أن يَسْتَدِرُّوا عطف الناس من حولهم؟! فلعل عدواً يتحرك قلبه بالرحمة على خصمه فيتوقف قطار المجازر وسفك الدماء وانتهاك الحرمات والأعراض؟!!

لن يحصل أبداً شيء من ذلك، وإن كنا ننتظر الرحمة من عدونا فنحن ننتظر الرحمة من غير رحيم، وإن كنا نأمل أن يأتي التاريخ بمعجزة تخالف سنن الكون وحقائقه فنحن مخطئون، بل غارقون في الخطأ إلى أعماق قلوبنا، ونظن فوق ذلك أننا على صواب!!

يحلو لبعض الناس أن يقول: الخطباء مرتزقة، والعلماء بعيدون عن الواقع، والحكام يريدون نهش لحوم شعوبهم بعد أن قضوا على أموالهم، أما الشعوب فهم قطيع غنم يتحركون كيفما أشار لهم سادتهم وعظماؤهم، ولم يبق في الدنيا أحدٌ مؤهل لدخول الجنة غير الناطق بتلك الكلمات !!!

وكل متفيهق في هذه الدنيا يكرر تلك العبارات في خطبته، أو في مقاله، أو في كتابه، أو مع أحبابه!! فكيف ينتظر ذلك الواعظ هداية الناس وهو يشتمهم ويسبهم ويشكك في إخلاصهم وإيمانهم علانية بملء فِيهِ من حيث لا يشعر ؟!!

{ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:الآية 49] .

كل الناس في غواية وعلى ضلالة والمتكلم قد أدى واجبه على أتم وجه وأكمل صورة !! فإما أن يكون ”مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ ، لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ “ أو كما قال صلى الله عليه وسلم [الترمذي : 2795 ، أحمد : 11918 ، 12052 ، 18402] ، وإما أن يكون المتكلم وحده قد ضيع الطريق وكثرت عليه شرائع الإسلام فلم يعد يدري ما يفعل.

هل الناس كلهم على ضلالة ؟؟؟
فأين نحن منهم ؟!!

لن يحاسبنا الله جل جلاله يوم القيامة على ما يقوله الناس ويفعلونه، ولكننا سنحاسب على ما نقوله نحن ونفعله، وبأبي وأمي أنت يا رسول الله قلت وقولك الحق : ”لا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ“ ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” وَلا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ“ [متفق عليه واللفظ لأحمد].

قال ذلك وهو الرسول المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلماذا لا نبدأ ـ من الآن ـ بلوم أنفسنا ونكف ـ إلى الأبد ـ عن لوم الناس.

قالوا: الواقع بلغ من القتامة حداً لم تعد تفرق فيه بين عدو وصديق ، وبين أبيض وأسود، وبين الخير والشر، أو بالأصح بين من مدعي الخير ومدعي الشر.

قلت: إذن قد لاح النصر واقترب، فقد قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة : الآية 214] .

فإما أننا متبطلون ننتظر نصراً بلا جهد ولا تعب، وإما أن الجهد والتعب الذي كابدناه في حياتنا ذهب بعقولنا فساوى بيننا وبين الثكلى!!
فالله الله لطفك ورحمتك أن تمتحنا أو تفتنا بما لا نطي!!
فالله الله إنا نسألك {مَتَى نَصْرُ اللّهِ} ؟
نسألك بها سؤال رحمة وتسليم، لا سؤال اعتراض وجزع.
نسألك سؤال رحمة ترحم بها تلك الأجساد التي مآلها إليك، فلا يضيرها إن شِيكَت أو قُطِّعَت.
نسألك سؤال القلوب التي بك تعلقت، فلم تعد ترى من الدنيا شيئاً يستحق البكا.
نمشي في المركب الذي اخترته لنا، وننساق لما أمرتنا، وارتضيناك قائداً لنا في مسيرتنا إليك .. كيف لا وأنت خالق المركب بمن في ؟! لا اعتراض على حكمك، لا اعتراض، لا اعتراض.

كيف ينساب الجزع إلى قلوبنا من أهوال الدنيا وقد تنورت قلوبنا وعيوننا وأسماعنا بنورك، فلم نعد نرى في الدنيا كلها إلا نور وجهك وعظيم سلطانك.

اتهموا المسلمين وقالوا عنا إننا نعيش دوماً في الخيالات والأوهام بعيدين عن الواقع ، لابد أن نملك كذا وكذا وكذا من أسباب القوة حتى نوازي القوى العظمى وندافع عن أنفسنا.

قلت: نحن لا نملك من أسباب القوة إلا ما هو موجود، فهل ندافع عن وجودنا بالممكن، أم ننتظر حتى يقضي عدونا على البقية الباقية منا أملاً في أن نتفوق على عدونا.

الله جلّ جلاله برحمته بنا، وبعظمته وقوته وجبروته لم يأمرنا إلا بالصبر والتقوى فقال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [آل عمران: الآية186] .
وفي إعداد القوة قال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم} [الأنفال: 60] .

أما النصر فقد تعهد هو به جلت قدرته فقال: { .... وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} [آل عمران :الآيتين 126-127] ، وقال: {... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [لحج:الآية 4] ، وقال أيضاً عن المظلومين: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج:الآية 39] .

هذا { وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء :الآية 122] .
تريدون الواقع، فأعلموني بالله عليكم في أي معركة أو غزوة أو قتال انتصر فيه المسلمون وهم أكثر عدداً وأقوى عتاداً ؟!
أهي غزوة ”حنين“ ؟ { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة : 25الآية]، ثم كان النصر. ولكن كيف ؟ { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة :الآية 26] .

الإيمان هو باب النصر، ثم بذل الجهد في حدود المستطاع. إن لم نفهم سنة الله الكونية في ذلك فسيكون حالنا كحال بني إسرائيل عندما جاءهم الأمر الإلهي على لسان موسى عليه السلام بتحرير الأرض المقدسة: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)} [المائدة : 21-23] .

القصة لم تأت في القرآن أمراً لبني إسرائيل، فبنو إسرائيل رفضوا أمر ربهم وانتهى دورهم في التحرير: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة : 24]

الأمر الآن موجود في القرآن، فهو موجه لنا نحن معاشر المسلمين، فلماذا لا نلبي أمر ربنا حتى نخرج من التيه الذي نحن فيه، وحتى تعود الأرض المقدسة لأصحابها.

حاجز رقيق بين أن نعتمد على قوتنا وبين أن نعتمد على قوة الله فنكون مؤمنين، وخطوة واحدة بين أن نعمل وبين أن ننوح كالثكلى التي لا تلوي على شيء.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية