- للأدباء والكتّاب في المجتمعات التي نسميها ناميةٍ أدوارٌ صعبةٌ ومركبةٌ ومعقدة، فهم الذين يؤرخون للمرحلة، وهم الذين يستعيدون خلاصة الماضي ليكونوا خبرة الحاضر من أجل مستقبل ينفي عن أوطانهم صفة التخلّف التي تبدو راسخة. هم الذين يساهمون بعمق في ترسيخ قيم الجمال والحق والخير، أو هكذا يفترض بهم أن يفعلوا، وهي إسهامات صعبة لأنهم محاصرون. لاأحد يمنحهم نعمة التفرّغ للإبداع، بل هم مطالبون بالإبداع وترسيخ القيم الجمالية والمساهمة في نهضة الأمة، جنباً إلى جنب مع واجباتهم في تحصيل لقمة عيش ضنينة وصعبة المنال.
يقاومون عفونة البيروقراطية وأرباب العمل الذين يشكّلون جبهة تكره التغيير كما تكره الإبداع وتحارب أصحابمها بكل ما أوتيت من نصوص صارمة، إن لم تجدها تخترعها لتكبّل بها المبدعين الذين تسميهم متمردين.
الأدباء والكتّاب هم بعض رسل الزمان، وكما نعلم. دائماً يكون في العالم (أبو جهل) الذي يسفّه الرسالات ويحاول تشويه أصحابها.
باختصار، كي لا نطيل نقول: الكتّاب مجاهدون، يحملون على أكتافهم الجهادين: الأكبر والأصغر معاً.
- لم يحقق المفكرون العرب منذ قرون سوى فضيلة الجهاد التي تمثّلت في إبداعاتهم. في إعادة تشكيل العالم جمالياً. ومحاربة القبح فيه.
لكن القبح في بعض الأعمال الأدبية والفكرية والفنية موجود، ومرده إلى أولئك المتنطّعين الأدعياء الذين حُرموا ملكة الإبداع، فامتطوا سلّم الوصولية وما تتطلبه من نفاق وتملّق.
وإذا كانت الدول النامية لم تقدر على تحقيق التقدم على صعيد عملي، فالسبب واضح كالشمس، على مدى القرون العشرة الماضية. السبب هو افتراق أهل العمل عن أهل الفكر، المفكرون لايحكمون ولا يؤخذ بآرائهم، والحكام لايفكّرون. كلّ منهما له همومه وتطلعاته المختلفة عن الآخر، والحاكم كالعالم، كلّما نهل مما يحبّ يستزيد ولا يشبع، العلم يتطلب مزيداً من المعرفة، والحكم يتطلّب مزيداً من الاستبداد، وكراسي الأمر والنهي مغرية وتكوّن لدى أصحابها عبادة التشبّه بالإله الذي يأمر فيطاع، وقد تنبّه الحكام إلى أهمية المال للحفاظ على كراسي الحكم فضمّوا إليهم قافلة الجشعين الذين يحبون الاكتناز واستغنوا عن العلم والعلماء.
- علاقة الكاتب بمجتمعه عندنا علاقة تصادمية تناحرية عدائية. يظن الناس في بلادنا أن الكاتب مجنون أو أبله وكسول، يواري بطالته بالكتابة. والثقافة عندنا بضاعة كلامية لاقيمة لها ولا قيمة لصاحبها، وهي لاتغني ولا تمنع من جوع.
يقولون: الأخ متعلم، هذا قَدَره!
هذا هو الحال عندنا، حتى إذا طرقت باب أحد كبار المفكرين والأدباء الذين يحترمون أنفسهم ولا ينافقون ولا يتخلفون عن علمهم أو يوظفونه في خدمة شخص أو هيئة متنفذة من التجار المنحرفين، إذا طرقت باب أحدهم وقد خلّف مايربو على ثلاثين كتاباً وخمسين من السنوات، تجده يستقبلك بوجه بشوش وحذاء عتيق.
في الدول المتقدمة. أقصد في الدول التي تريد أن تصنع حضارة. الدول التي يعرف ساستها المصلحة الحقيقية للمجتمع، في تلك الدول.. يكفي الأديب أن يصدر كتاباً واحداً حتى تجده وقد استغنى به وتفرغ للإبداع وللتفكير في تطوير بلده في مجال تخصصه.
- إذا عدنا إلى السؤال الأساسي الذي جابه المفكرين العرب منذ قرنين نجد اتفاقاً يؤلف بينهم. إنه ليس تخلّف الإسلام ولكنه تخلف المسلمين، وهنا تبدو وجهات نظر مختلفة حين يرى الأصوليون أن سبب الهزيمة هو التخلي عن أصول الإسلام الصحيح السليم وتحويله إلى الصوفية والغيبية.
أما المعتدلون فيرون أن سبب الهزيمة ليس ترك أصول الإسلام الصحيح، وإنما الجمود والتعصب للمذاهب وإغلاق باب الاجتهاد. ويرى آخرون السبب في عدم اتباع العلمانية وفصل الدين عن الدولة. أو في تخلف المرأة واضطهادها الذي يشل نصف المجتمع ويضعف النشء.
من وجهة النظر الغربية: إن غياب الحرية هو السبب.. وقد بدأ الكواكبي بإثارة هذه التساؤلات منذ قرنين، وتساءل عن: حرية الفكرمن القيود والغيبيات التي لاتمس. وعن حرية التعبير وحرية طرح الأسئلة وطلب الإجابة. وحرية الاقتصاد من الفساد وسوء الإدارة. وحرية المرأة من اضطهاد الرجال، وحرية المواطن من استبداد الدولة.إن غياب الحرية هو السبب الأساسي لهزيمة العالمين العربي والإسلامي.ولكن الطريق إلى الديموقراطية هي طريق صعبة وطويلة محفوفة بالمخاطر والعقبات.
قرنان مرّا على حلم النهضة الذي اتّخذ أسماءَ مختلفة من غير أن نتمكّن نحن العربَ من تحقيقه، بل نكاد نجزِمُ بأننا نواصلُ الانزلاق بخطاً حثيثة نحو الانقراض أو نحو التماهي في إطار تكتلات لاتعبّر عنّا، ثم نغتني بالقشور واهمين أنها خلاصةُ الحضارة وأوجُ النهضةِ المبتغاة.
لقد تصوّر روّادُ اليقظة العربية الحديثة مشروعَهم الشامل، على اختلاف الانتماءات، تصوّراً يفضُلُ تصوراتِنا التي تفتر عندما نظنُّ أننا وصلنا إلى منتصف الطريق.ولكن الطريقَ إلى تحقيق الحلم هي أن التشخيص السليم هو أحد مراحل البناء.
كان السؤال النهضوي الأساسي: كيف يمكن أن نوائمَ بين الأفكار الإسلامية والعصر؟وأصبح بعد احتلال فرنسا وإنكلترا لتونس ومصر: كيف يمكن للدول الإسلامية أن تواجِهَ الخطرَ الأوربي؟ والآن نفكّر: كيف يمكن أن نواجه أمريكا التي نصبت نفسها وصيّة على العالم، بعد أن أرهقته بمساندة الطغاة والفاسدين؟!