من المفارقات ان تجد ارتباطا وثيقاً بين مصطلحات تتردد على أسماعنا صباحًا ومساءً، ونصوص وعبارات نرددها كل يوم، ولكننا لم نفكر فيها من قبل! وربما نكون قد فكرنا، لكننا لم نتفكر فيها، لأننا لم نعِ بعد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في التفكر في كل شيء إلا في ذات الله جل جلاله. ربما ينقصنا التفكير، وربما ينقصنا التفكّر، وربما تنقصنا امور كثيرة اخرى ذكرها الله جل جلاله في كتابه او علمنا اياها نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخلاصة القول اننا نفتقد الرجوع الى ربنا وتشريعاته التي اختارها لنا.

كلنا يقرأ الفاتحة في صلاته سبع عشرة مرة في الفروض، عدا السنن الراتبة والنوافل. ومن أسماء الفاتحة “ام الكتاب”، فقد حوت الفاتحة معاني العبودية لله بأنواعها، ومعاني الهداية والضلال بأنواعها. هذا فيما يخص الفرد، فكيف بما يخص الجماعة، وقد جاءت فيها الألفاظ بصيغة الجمع: “نعبد، نستعين، اهدنا، الذين أنعمت عليهم”.

وقبل أن أعرج الى تأملات السورة اود ان أذكر عبارة نقلها ابن حجر عن ابن بطال في شرح حديث “ان لله تسعة وتسعين اسماً، من احصاها دخل الجنة”، وهي قوله: “طريق العمل بها ان الذي يسوغ الاقتداء به فيها - كالرحيم والكريم- فإن الله يحب ان يرى حلاها على عبده، فليمرن العبد نفسه، على ان يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى - كالجبار والعظيم - فيجب على العبد الاقرار بها والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها، ويؤيده ان من حفظها عداً وأحصاها سرداً ولم يعمل بها يكون كمن حفظ القرآن ولم يعمل بما فيه”.

ومن هذا المنطلق درست عالمية السورة وعالمية الاسلام من خلال سورة الفاتحة، ثم نظرت فيما يجب علينا أن نتخلق به من كل اسم او صفة من صفات الله جل جلاله الواردة في السورة، وربطت ذلك كله بتفسير العلماء للسورة.



“الحمد لله رب العالمين”

في هذه الآية ركنان: الركن الاول: التربية: فالسورة تبدأ بتقرير الربوبية لله عز وجل. قال الرازي في تفسير الآية: “قوله اول سورة الفاتحة: “رب العالمين” اشارة الى التربية العامة في حق كل العالمين”. فمن يريد ان يحكم العالم فهو مسؤول عن تربية البشر وتوجيههم الى عبادة الله وحده المستحق للعبادة، ومسؤول عن دعوتهم الى الحق والفضيلة بالحكمة والموعظة الحسنة. قال تعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (البقرة: 256).

فإذا تسلط إنسان على البشر بغير ذلك كان فرعوناً وطاغوتاً، وهنا يبرز نوعان من التسلط المحدود إما زماناً أو مكاناً:

1 - قال تعالى عن فرعون: “فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين” (الزخرف: 54)، وهذا النوع من السيطرة على العقول بالخداع والكذب والدجل ونشر الفساد في الأرض لا يمكن له أن يصبح عالمياً، فالعالم فيه الكثير من المؤمنين والعقلاء ممن لا يُخدع بتزييف المصطلحات ولا يرضى الخنوع للظلم.

2 - قال صلى الله عليه وسلم: “قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد” (غافر: 29)، وإذا كان النوع الأول ليس له دوام مع ما فيه من لين وتظاهر بالإصلاح فالإكراه على اعتناق الباطل ليس له دوام بطريق الأولى، فالإكراه مدعاة لنفور الناس عدا عن كونه إكراهاً على باطل.

الركن الثاني: ان نستمد عالميتنا منه جل جلاله دون سواه: فالآية تعلمنا ان الله هو رب كل العوالم دون استثناء ما علمنا منها وما لم نعلم فهو الذي إن شاء أعطانا قيادة العالم، وهو الذي إن شاء منعنا، والحمد لله على ما أعطى وعلى ما منع. ونظام العولمة يعتمد التفرد في الملك والقيادة على عالم واحد من العالمين هو عالم البشر، فكيف يعطينا الله العالمية ونحن نوجه الناس بغير شرع الله، أو نطلبها من غيره من المخلوقات؟


“الرحمن الرحيم”

في هذه الآية نتعلم ركن العولمة الثالث، وهو: الرحمة. والرحمة في هذه الآية نوعان كما نقل الطبري في تفسير الآية عن العرزمي قال: “الرحمن بجميع الخلق، الرحيم بالمؤمنين” (جامع البيان 1/85 دار الفكر بيروت 1420 1999). فنوعا الرحمة هما:

1- رحمة عامة بالمؤمنين والكافرين. رحمة بالإنسان والحيوان والنبات. بل رحمة بالجمادات أيضاً، سماء وأرضاً وبحراً، نحميها من التلوث وتدمير البشر. وهذه رحمة عامة لازمة لإصلاح الأرض وعمارتها. قال تعالى: “قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون” (البقرة: 30)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحِمُ شجنةٌ من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعهُ الله” (الترمذي في البر والصلة: ما جاء في رحمة الناس (1924)، أبو داود في الأدب: الرحمة (4941)).

2 - رحمة خاصة بالمؤمنين الذين يقومون بأمر الله في الأرض، وهذه رحمة لا تنتظم علاقة المسلم بغيره من المسلمين إلا بها. قال تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين” (آل عمران: 159).

والحظ في هذه الآية كيف ان الله عز وجل لم يأتِ بأوصاف العزيز الجبار المتكبر بعد اثبات ربوبية الله وملكوته على كل العوالم، فعلمنا بذلك ان الملك لا يكون بالظلم والقهر والطغيان، سواء كان الملك اقليمياً أم عالمياً، بل يكون الملك بالرحمة والرأفة.

فإذا قامت العولمة على الظلم والقهر كان كما قال الله عز وجل عن فرعون: “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين” (القصص:4)، وهذا النوع من التجبر ليس له دوام، ويؤكد ذلك قوله تعالى: “ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” (القصص:5)

فسنة الله في الكون انه من استعلى في الأرض سخر الله من أوليائه من يقف في وجهه ويغسل بعدله ما كان من الظلم، فإذا صار الظلم على مستوى العالم قابله عدل على المستوى نفسه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري: “والذي نفسي بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً..” الى آخر الحديث، ومعلوم ان نزول عيسى عليه السلام يكون بعد خروج الدجال الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه كما روي في البخاري أيضاً: “ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة” (الحج: لا يدخل الدجال المدينة 1881)، فطغيان الدجال على الأرض كلها يقابله عدل عيسى عليه السلام في الأرض.


“مالك يوم الدين”

في هذه الآية نجد الركن الرابع للعولمة، وهي: استشعار رقابة الله ومحاسبته، ففي أي هيكل تنظيمي يكون الأعلى رقيباً على الأدنى ومحاسباً له، فإذا وصل الانسان الى قمة الهرم التنظيمي ضعفت كل وسائل الرقابة والمحاسبة، ولم يبق إلا استشعار الانسان لرقابة الله “مالك يوم الدين” أي مالك يوم الحساب الذي يثيب الناس ويعاقبهم.

ويظهر هذا الركن واضحاً في نظام العولمة أكثر من ظهوره في النظام الأممي، ففي نظام الأمم والدول المتعددة تكون المحاسبة -في غياب استشعار رقابة الله- بتسليط الأمم بعضها على بعض، وهذا مصداق قوله تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” (البقرة: 251). وهذا القانون الأممي في المحاسبة والعقاب سنة كونية يخضع لها المسلمون كغيرهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله ان تدركوهن: - وذكر منها - ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم” (ابن ماجه في الفتن: العقوبات 4068). فالمسلمون يفوقون غيرهم من الأمم والدول باتباع شرع الله ومراقبته، فإذا قصروا في جنب الله أضاعوا الدنيا بترك شرع الله وأضاعوا الآخرة بضعف استشعار محاسبة الله، فيسلط الله عليهم من يقوم بحقوق الدنيا ما داموا متساوين في التقصير بحقوق الله. ولهذا سلط الله على المسلمين المغول والصليبيين واليهود.

هذا في النظام الأممي، أما في نظام العولمة فليست هناك رقابة تفوق رقابة الله ومحاسبته لمن حمل على عاتقه مسؤولية إدارة النظام العالمي وتوجيهه.


“إياك نعبد”

العبادة تأكيد عملي للإيمان بالله ومراقبته الواردة في الآية السابقة، وهي الركن الخامس من أركان العولمة الصادقة. فعبادة الله والإكثار من العمل الصالح هما سبب الاستخلاف في الأرض كما قال تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً” (النور: 55)


“وإياك نستعين”

الركن السادس من أركان العولمة هو: القوة، فلا يدوم الملك بلا قوة تقيم احكام الله في الارض، وتعاقب من تجرأ عليها، وقد تقدم حديث نزول عيسى عليه السلام.

والقوة الحقيقية هي المستمدة من مصدر كل قوة، وهي قوة الله الذي من أسمائه “القوي”. وانظر كيف أخرت الآيات ذلك الركن حتى صار قبل الأخير، فالأركان السابقة لها الأولوية من حيث الأهمية، فالإنسان قد يصل لما يريد بحكمته وإن كان ضعيفاً، أما من يملك القوة دون حكمة فستكون تصرفاته أقرب الى الطيش والتهور، ولا تستغني واحدة عن الأخرى.


“إهدنا الصراط المستقيم”
وهذا هو الركن السابع والأخير من أركان العولمة الصادقة: الهداية الى الحق: أينما كان، سواء كان في امر الدنيا أم في أمر الآخرة، فوظيفة النظام العالمي ان يبحث عن الحقيقة ويرشد الناس إليها كما مر معنا في الركن الاول (التربية)، ويعمل بها في نفسه ويحكمها بين الناس كما في هذا الركن (الهداية قولاً وعملاً).

“صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين”

تأتي هذه الآية بختام عجيب ربط أول السورة بآخرها، فأكد معنى الركنين الاول والسابع معاً مرة أخرى بصياغة صريحة، فهما المقصود الأسمى من النظام العالمي: الوصول الى الحق لتبليغه للناس أولاً والعمل بالحق ثانياً وسبب الفشل المقيت الذي تتعرض له تجارب العولمة المعاصرة يتمثل في أن القائمين على تلك التجارب يتصفون بأحد امرين:

1 انهم وصلوا الى الحق ثم أعرضوا عنه وزيفوه، وأولئك الذين وصفهم الله ب “المغضوب عليهم”.

2 انهم ضلوا عن الحق وغفلوا عنه، وأولئك الذين وصفهم الله ب “الضالين”.

فها نحن المسلمين نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة من ركعات صلاتنا، فأين موقعنا في خريطة العالم؟ ومتى سنبني بإيماننا وشرع ربنا النظام العالمي الجديد؟!

سؤال يجب ان نضع أنفسنا جميعاً أمامه لنحدد الغاية، ونرسم لها الوسيلة التي تناسبها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية