تضع حادثة الإساءة للإسلام وللرسول الكريم عليه الصلاة والسلام التي اقترفتها مؤخرا الصحيفة الدنماركية " ييلاند بوسطن "، والتي شاركتها فيها صحف أوروبية واسترالية ونيوزيلاندية وغيرها، وما سبقتها من إساءات متعمدة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين على أقل تقدير موضوع الثقافات الانسانية المختلفة على المحك. وانطلاقا، فهي تطرح سؤالاً عريضًا: هل الثقافات الإنسانية المختلفة المشارب والرؤى والاتجاهات في طريقها الى الوئام ام الصدام ؟ *) في اعتقادنا أن هذه الحادثة الاخيرة وما أفرزته من تداعيات على الصعيدين الغربي والإسلامي، قد ألقت بظلالها القاتمة على أية إجابة يمكن أن تكون موضوعية، غير متعصبة ولا منحازة، أو منفعلة، أو حتى لحظية.
*) إن العالم الإسلامي الذي فجع في التهجم على أقدس رموزه الدينية المتمثلة في شخص الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وجراء المواقف الأوروبية التي تضامنت مع الصحيفة الآثمة، أو تلك التي التزمت الصمت، أو تلك التي عزت الأمر الى ما ادعت أنه حرية التعبير واستقلالية الصحافة، إن هذا العالم الإسلامي قد خرج بنتيجة مفادها أن ما يحدث هو صدام ثقافات ، لا يمت بأية صلة منطقية الى حرية التعبير،أو بمعنى أدق هو حرب على الإسلام.
*) ولسنا نتجنى على أحد، او أننا ننقاد وراء عواطف منفعلة فيما نحن بصدده . ثمة حقائق كثيرة شاهدة ومؤيدة لما نطرحه وسبق أن طرحناه نحن وغيرنا من المسلمين غير المتعصبين الا أنهم غيورون على دينهم الذي يشكل المساحة العظمى من ثقافتهم وسلوكهم وأنماط تفكيرهم التي أصبحت في مرمى المستهدفين لها والحاقدين عليها.
*) غداة أحداث الحادي عشر من ايلول / سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الاميركية ، وغداة ما دوفع عنها في حينها انها " زلة على لسان " الرئيس الاميركي جورج بوش الابن ، يوم وصف تلك الاحداث بأنها " حرب صليبية " . غداة هذا كله اتسعت ساحة الحرب على الاسلام أفقيا ورأسيا من خلال ما يسمى " الحرب على الارهاب " ، التي – وعلى الارجح عن قصد - خلطت الحابل بالنابل.
*) أفقيًا ، والمقصود هنا التوسع في الرقعة الجغرافية الذي شمل على أقل تقدير ثلاث قارات هي اميركا الشمالية واوروبا واستراليا. ومثالا لا حصرا الولايات المتحدة الاميركية، كندا، بريطانيا، الدنمارك، السويد، النرويج، المجر، النمسا، هولاندا، اضافة الى كل من استراليا ونيوزيلاندا.
*) رأسيا، والمقصود هنا تطور مضمون الاستهداف وفحواه وتصعيد وتيرته. فاذا ما عدنا الى الماضي قليلا، فقد كانت هوليوود عاصمة السينما الاميركية السباقة في انتاج افلام شوهت صورة المسلمين واصفة اياهم بالتخلف والتأخر والانحطاط الفكري والحضاري. وبعد احداث ايلول / سبتمبر 2001 تعرض المسلمون في الولايات المتحدة الاميركية الى شتى انواع الملاحقة والاذى والمكروه اللفظية منها والفعلية.
*) إلا أن هذه الهجمة الاستهدافية التي تتنافى وأبسط أشكال الوئام الثقافي الذي يحلو للبعض ان يتغنى به في معزل عن هذه الهجمة ، تطورت ليصبح الاسلام والمسلمون عقيدة ورموزا ومنهجا وسلوكا ساحة مفتوحة على مصراعيها للهجوم الذي استباح كل المحرمات مجتازا كل الخطوط الحمراء غير عابىء بها .
*) ولدى ترجمة مكونات هذه الهجمة الاستهدافية ومركباتها وعناصرها الاساسية الى لغة الحقائق المباشرة، فإننا، ومثالا لا حصرا، نقف عند العناوين التالية: الإسلام دين متخلف لا يصلح لهذا الزمان، وهو دين يحض على عدم التسامح، والإكراه، والعنف والقسوة، والإرهاب، وهو يضطهد المرأة ويلغي حقوقها.
*) وكخطوة متقدمة في هذه الهجمة الاستهدافية ، اتجه رأس الجسر الهجومي في تطور ملحوظ صوب القرآن الكريم الذي اصبح هو الآخر في المرمى، فانتهكت حرمات ، واستبيحت قداساته من خلال تمزيقه وحرقه والدوس والتبول عليه والقائه في المراحيض.
*) ثم كانت الهجمة الاخيرة بالتطاول على شخص الرسول الكريم عليه السلام من خلال اثني عشر رسما كاريكاتوريا اقترفتها مجلة " ييلاندس بوسطن " الدنماركية والتي اعادت نشرها العديد من الصحف والمجلات الاوروبية والاسترالية في اصرار وتحد سافرين لمشاعر المسلمين في العالم.
*) والأنكى من هذا كله أن هذه الحرب السافرة المعلنة على الاسلام سرا وجهارا ، وبكل ما تختزنه من احقاد ونوايا خبيثة مبيتة تسوق اوروبيا على انها مجرد نتاج لحرية التعبير والرأي في الغرب الديموقراطي . وهو هو الغرب الذي طلع علينا بخدعة "حوار الثقافات او وئامها بدل صدامها". والسؤال العريض الذي يفرض نفسه هنا : اين هو الحوار واين الوئام ؟. لماذا الاسلام دون سواه من الديانات ؟. لماذا رفضت ادارة مجلة "ييلاند بوسطن" قبل ثلاث سنوات، كما افادت صحيفة " الجارديان " اللندنية نشر رسومات كاريكاتورية عن السيد المسيح عليه السلام معللة ذلك بعدم المساس بمشاعر المسيحيين، وهل هناك مكاييل مزدوجة للمشاعر او للديانات؟. وثمة سؤال آخر يخص لجان حوار الثقافات المتواجدة في الغرب، وما هو دورها والحال هذه ؟، ولماذا لم يسمع لها صوت، وأن سمع فهو خجول متواضع خافت لا يكاد يسمع ؟.
*) لقد غضب المسلمون في شتى أرجاء العالم وثاروا انتصارا لدينهم الحنيف الذي شكل على مدار العصور وما زال القلب والقالب لثقافتهم الانسانية ، ودفاعا عن نبيهم الكريم ، وهذا حقهم لا ينازعهم فيه كائن من كان . وقد كان من المفترض على " اوروبا الديموقراطية " ممثلة في اتحادها الاوروبي ان تبادر الى اطفاء هذا الحريق الذي اشعله الحاقدون الموتورون من دعاة الحرية اللامسؤولة والمزدوجة المعايير والموجهة سهامها السامة الى الاسلام والمسلمين دون سواهم.
*) الا ان اوروبا هذه رفضت الا ان تقف وتتضامن مع الدنمارك وتدافع عن عدم تقديمها الاعتذار للمسلمين ، واصرت على ادانة اعمال الاحتجاج الاسلامية واصفة اياها باعمال عنف مبالغ فيها ولا مبرر لها. والانكى من ذلك كله رفضها سن تشريعات تحرم المساس بحرمة الاديان احتراما لما تدعيه انه حرية الرأي والتعبير.
*) إسلاميا، وكلمة أخيرة، ان المسلمين يرفضون المساس بحرمة عقيدتهم السماوية قرآنا وعبادات ورموزا ، وفي مقدمتهم الرمز الاقدس الخالد المتمثل برسولهم الكريم . وهم مكلفون شرعا في الدفاع عن هذه العقيدة . وهم ايضا يؤمنون بحرية الرأي وليس في دينهم أي اكراه او إجبار. وهم أيضا يؤمنون بان الحرية ليست رخصة مفتوحة على مصراعيها، وإنما هي ارث من المسؤولية واحترام الآخر. وهم أيضا يحترمون كل الديانات ويسيدون انبياءها جميعا عليهم السلام. وهم أخيرا لا آخرا يعتبرون استهداف الاسلام والسكوت على ذلك فصلا خطيرا من فصول صدام الثقافات لا وئامه.