في ما اهتدت إليه التجربة الإنسانية حتى الآن، توفر الديموقراطية الآليات الأكثر فاعلية لحل التناقضات السياسية والمذهبية والمجتمعية، بشكل سلمى، وذلك من حيث أنها في جوهرها، عملية لـ "الحكم" تستهدف تنظيم ممارسة السلطة السياسية في الحدود التي لا تهدر حرية الإنسان، من حيث كونه مواطناً يتنازل عن جزء من هذه الحرية لضمان الحفاظ على الجزء الأخر. الديموقراطية، إذن، عملية تنظيمية بالأساس، يتمثل محورها في ضمان حقوق المواطنين، من حيث هم "مواطنون لا رعايا" إزاء السلطة.. ومن ثم، فهي ترتبط بمجموعة من القيم والأعراف الإنسانية العامة، مثل: التسامح والتعايش واحترام الآخر والحوار والحل السلمي للخلافات، أكثر من ارتباطها بمنظومة "عقيدية" (أيديولوجية) ما، وان كان لكل منها "رؤية" محددة في كيفية تحقيق الديموقراطية.
في هذا الإطار، نجد أنفسنا مباشرة في مواجهة السجال الدائر، الآن، على الساحة السياسية العربية حول الديموقراطية.. السجال الذي يتبنى البعض من خلاله، محاولة تفسير أزمة التخلف الوطني، والانهيارات ـ المتتالية ـ في "النظام الإقليمي العربي"، وصولاً إلى احتلال العراق، على أنها ترتكن إلى غياب الديموقراطية.
بيد أن حال الضعف العربي العام، وفقدان المناعة الأمنية الكاملة، وغيرها، لا يمكن ـ منطقياً ـ نسبتها إلى مجرد عامل واحد ووحيد هو "غياب الديموقراطية".. إذ، رغم الأهمية التي تتمتع بها الديموقراطي كـ "عامل مجتمعي مؤثر"؛ إلا أن هناك مجموعات شتى من البلدان، وكذا مجموعات إقليمية عدة، تفتقد "الديموقراطية" كما نفتقدها نحن، ولكنها لا تعاني ما نعانيه من حال "الفراغ الإستراتيجي"، التي تدفع كافة المتغيرات السياسية الدولية ـ المتناقضة في أحايين كثيرة ـ إلى النيل منا في نفس الوقت، وكأنها ليست متغيرات سياسية تختلط فيها الفرص بالمخاطر، وتثير ـ من ثم ـ احتمالات الانتصار والانكسار.
في ما يعنيه، يعني هذا أن ثمة مجموعة من العوامل، المتشابكة، يمكن من خلالها تفسير الأزمة العربية الراهنة؛ وأن الديموقراطية تأتي ضمن هذه العوامل.. رغم ذلك، نجد أنفسنا مدفوعين إلى "الدخول على الخط" مع السجال الدائر الآن حول المسألة الديموقراطية.
ولكن ما يجدر التنويه إليه: أن محاولتنا، هنا، سوف تنأى عن الانجرار إلى ما يطرحه البعض من مفاضلة بين "الاستبداد" الذي يسم جل النظم السياسية العربية و/أو الإسلامية، وبين "الديموقراطية الغربية" حتى لو جاءت من الخارج وأنتجت احتلالاً (النموذج العراقي سابقاً، والنموذج الإيراني لاحقاً)..
وفى سياق المرحلة التي يعيشها العالم راهنا والتي تعبر ـ في حقيقتها ـ عن"مناخ عالمي جديد" بما يشتمل عليه من متغيرات دولية جذرية، وبما يتضمنه من محاولة لتسييد النموذج "الغربي" تتبدى ضرورة طرح التساؤل التالي، حول المسألة الديمقراطية وموقعها داخل هذا "المناخ الجديد": ترى، هل يعزز"المناخ" المشار إليه الديمقراطية في العالم، أم انه في الواقع سوف يجهضها، أو أن النتيجة سوف تكون مختلطة تعزز المسألة الديمقراطية من جانب وتحبطها من جانب آخر؟!.. ثم، هل أن "الديموقراطية الغربية" تمثل النموذج الذي يجب أن يحتذى من جانب المجتمعات الإنسانية؛ أم أنها محض "صورة إعلامية" يجري الترويج لها، للتغطية على جوهرها ـ الحقيقي ـ المتمثل في كونها "ديموقراطية الأقوى"، داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. بل، وثقافياً أيضاً؟!.
وسنحاول، هنا، أن نلامس الإجابة على التساؤل الأول، على أن نحاول في فرصة أخرى تناول التساؤل الأخير.
وفي اعتقادنا، أن ترجيح أي من الاحتمالات التي ينطوي عليها التساؤل حول "المناخ العالمي الجديد" وتناقضاته بخصوص المسألة الديموقراطية، إنما يعتمد على "قياس" مدى تأثير العوامل، التي تشكل في مجموعها أساسيات ذلك "المناخ"، إيجاباً أو سلباً، على المسألة المطروحة.
وحسبنا أن نقرر أن أهم هذه العوامل، اثنان: أولهما، قدرة الإنسان الفرد على تجاوز حدود الدولة التي يعيش فيها؛ والأخر، التراجع الحاصل في سيادة الدولة.
في ما يتعلق بالعامل الأول، لنا أن نلاحظ: أن الإنسان الفرد أصبح "يستطيع" التعامل بمفرده مع العالم كله مباشرة، وليس من خلال حكومة أو دولة، وذلك من خلال شركة السياحة أو طبق الاستقبال التلفزيوني، أو شبكة المعلومات الدولية.
وإذا كان ممكناً لهذا الإنسان ـ بحكم الثورة الاتصالية الراهنة ـ أن يحمل بطاقة بلاستيكية (ما ستر كارد، أو فيزا كارد، أو غيرهما)، ويستخدمها بالطريقة نقسها في عواصم العالم كافة، فإن الحاجة إلي الدولة ونقودها أصبحت أقل من ذي قبل.
بل، إذا كان الفرد، والهوية النفسية والعاطفية التي يندرج تحتها، يمكنه التعامل مع العالم مباشرة دون وسيط، فإنه لم يعد مبرراً البقاء داخل اتحادات مصطنعة لا تكن الشعوب فيها كثيراً من الود لبعضها البعض، ولعل هذا ما يفسر الانفجار المجتمعية التي نراها في غير ما مكان في العالم.
هنا، تتبدى أهم الآثار الإيجابية بالنسبة إلي المسألة الديمقراطية. إذ أن انهيار "الحواجز الاتصالية" بين كافة أرجاء المعمور الذي نعيش بين جنباته، ساهم، وسوف يساهم، في تعميق نقل الخبرات السياسية ـ وغير السياسية ـ في ما بين الشعوب؛ وهو الأمر الذي يفسح المجال أمام بعض الشعوب، وخاصة تلك الأقل تقدماً بالمعايير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتعرف أولاً ماذا يجري لدى الشعوب الأخرى الأكثر تقدماً، ولتستفيد ثانياً من خبرات هذه الشعوب، ولتقارن ثالثاً بين أوضاعها وأوضاع شعوب تمارس حقها في إدارة شؤون أوطانها، وفى اختيار من يمثلها في "الحكم".
بل إن انهيار"الحواجز الاتصالية"، وما أدى إليه من انكشاف ما في داخل الدول أمام تقنية الاتصالات والمعلومات، أظهر بوضوح ضعف قدرات النخب الحاكمة، خاصة في بلدان "الإطار الجنوبي" على إخفاء حقيقة التطورات والممارسات التي تجري داخل بلدانهم. ويعنى ذلك أنه لم يعد في مقدور هذه النخب ممارسة أفعال من شأنها تشويه صورتها في الخارج، في ظل وجود احتمال خلق رأى عالمي عام مضاد لها، كما أصبح لزاماً عليها تخفيف القيود المفروضة على أجهزة الإعلام في الداخل. إذ ما جدوى تقييد حرية الإعلام في الوقت الذي يستطيع المواطنون، في هذه البلدان، أن يعرفوا ما يجرى داخلها من خلال أجهزة الإعلام "الأجنبية".
نتيجة لذلك، فان "المواطن" أصبحت له "قدرة" مستقلة على المعرفة تتجاوز تلك المعرفة التي تفرضها عليه الدولة، وهو ما يسمح له: ليس، فقط، بحرية التفكير والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين؛ بل، أيضاً، بمقارنة أداء دولته وإنجازاتها بأداء وإنجازات الدول الأخرى. وبالإضافة إلي هذا التدفق "الحر" للمعلومات، بما يمثله من شرط أساس من شروط الديموقراطية، من حيث أنه يكفل للمواطن الإمكانية ـ وليس "القدرة" ـ على الاختيار، فإن ثورة الاتصالات الكبرى في العالم، جعلت ظواهر القهر وانتهاكات حقوق الإنسان، في أي دولة من دول العالم، مسألة عالمية، سواء كان القهر قومياً أو عرقياً أو سياسياً. ولعل ذلك لابد وأن يشكل قيداً على"قدرة" الدولة على العسف أو الاستبداد، تحسباً لردود الأفعال العالمية.
لكن، وبالرغم من هذه الآفاق الإيجابية التي تحملها "ثورة الاتصالات" للمسألة الديموقراطية؛ إلا أنها، من جانب آخر، لها تداعيات من شأنها عرقلة التطور الديموقراطي وخاصة في بلدان"جنوب" العالم. من هذه التداعيات، أن تلك "الثورة" تؤدى إلى اتساع الهوة بين "الشمال" و"الجنوب"، كما تساهم في زيادة احتمالات تهميش بلدان هذا الأخير، وبالتالي تفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر ـ إلي جانب عوامل أخرى ـ معوقات للتطور الديموقراطي الداخلي.. من هذه التداعيات، أيضاً، أن ثورة الاتصالات والمعلومات التي تتحكم فيها الدول الرأسمالية "الغربية" قد تساهم في خلق وعي زائف لدى مواطني بلدان "الجنوب"، خاصة وأن كثيراً من أجهزة الإعلام والاتصال الغربية تفتقد إلي الحيدة والموضوعية في تغطيتها للأحداث والتطورات في تلك البلدان. إذ أن المعلومات التي تبثها هذه الأجهزة يجري انتقاؤها وتصنيفها وتفسيرها، وفقاً لرؤى وحسابات ومصالح الدول المتقدمة، التي تحوز التفوق التقانى.. ومنها، كذلك، أن إحساس المجتمعات "المتخلفة" في الجنوب بأنها عرضة لكي يتلاعب الغير بمقدراتها، إنما يفرز لديها ردود أفعال تزيدها عجزاً ـ لا العكس ـ عن مجاراة المجتمعات المتفوقة تقانياً، ناهيك عن اللحاق بها؛ وبالتالي تلجأ للهروب من المستقبل المجهول إلي ماض معروف، أو مفترض حتى أنه معروف، ومن ثم يتعاظم شأن الماضوية كمنهج للتفسير وكذهنية عامة، تلك التي تحد كثيراً من التطور الديموقراطي.
أما في ما يخص تراجع "سيادة" الدولة.. فالملاحظة الجديرة بالاهتمام، هنا، أن "المناخ العالمي الجديد" الذي تعيش الدولة القومية في إطاره راهناً، قد وضع قيوداً عدة على فكرة "السيادة".. فالدولة لم تعد حرة في فرض النظام الاقتصادي الذي تريده؛ ومن دون شبكات التجارة والاعتماد المتبادل، وفروض وقيود صندوق النقد الدولي وأسواق المال العالمية، لم يعد ممكناً أو متاحاً أن تختار الدولة نظاماً سياسياً لايحترم، أو على الأقل يراعى، مسألة حقوق الإنسان. وإذا كانت هذه نقطة إيجابية بالنسبة للمسألة الديموقراطية، إلا أنه، من جانب آخر، يطرح العديد من السلبيات في مواجهة المسألة الديموقراطية.
وبصرف النظر عن المساعدات والقروض والمنح، والتساؤلات التي يمكن أن تثار حولها وحول حقيقة أهدافها، فإن ما يتوجب التأكيد عليه، في هذا المجال، أن ما تمارسه الأركان الأساسية لمنظومة الاقتصاد العالمي، أي الدول الصناعية المتقدمة، من سياسات واعية ومنظمة في تسييد "الليبرالية" كفكرة و"الخوصصة" كأسلوب، يتم تطبيقه في الأقطار الفقيرة النامية، لا يهدف في الواقع إلا إلي فتحها كأسواق جاهزة للاكتساح أمام صناعاتها المتقدمة. ولعل في ما تشهده منظمة التجارة العالمية من منازعات، يوضح إلى حد كبير كيف تمارس الدول الصناعية الكبرى سياسات مزدوجة في هذا الميدان.
صحيح أن مثل هذه السياسات، الليبرالية، تدفع إلي حدوث نوع من التوسع الاقتصادي في تلك البلدان النامية، وقد يحدث هذا بالفعل في بعضها نتيجة تطبيق برامج "التكيف الهيكلي"؛ ولكنه توسع "سرطاني" يتحقق على حساب تهميش الأغلبية الاجتماعية وتقزيم السوق الوطنية، ونزوع الاقتصاد الوطني بالضرورة نحو الاندماج، أو الالتحاق بالاقتصادات الكبرى.. وإذا كانت النتيجة المنطقية، في مثل هذه الحال، هي التوتر المجتمعي، وإذا كان هذا التوتر لابد وأن يزداد حدة، خاصة في ظل تراجع "سيادة" الدولة، وما أصاب دورها من "تغيير وظيفي" تحولت من خلاله إلى مجرد "شرطي" في ما بين القوى المجتمعية وشرائحها المختلفة؛ فان المشكلة التي تواجه الديموقراطية، في هذا الإطار، هي أنها كـ "نظام سياسي" لا يمكن أن توجد وتزدهر إلا في ظل وجود الدولة واستقرار هيبتها.
إذ أن ضعف دور الدولة، وتراجع سيادتها في ظل "المناخ العالمي الجديد"، لا يؤدى دوماً إلي زيادة حرية الفرد وقدرته على مقاومة السلطة الاستبدادية، وإنما من الممكن أن يؤدى إلي انفراط عقد الدولة ذاتها، ومن ثم إلي الفوضى والحرب الأهلية التي تهدد حياة الفرد ووجوده ذاته.
وبعد، وفي هذا السياق، سياق "قياس" مدى تأثير العوامل السابقة، التي تشكل في مجموعها بعض من أهم أساسيات "المناخ العالمي الجديد" وبانوراما صورته الراهنة، يبدو أن هذا "المناخ"، وإن كان يتضمن مؤشرات إيجابية تفتح الأبواب للديموقراطية لكي تنتشر وتحقق توسعاً على المستوى العالمي؛ فإنه، أيضاً، يحمل في طيا ته تناقضات لإجهاض الفكرة الديموقراطية.
وتقديرنا، هنا، أن المسألة برمتها تتوقف ـ زمنياً ـ على حسم الصراع بين "النظام الدولي" وبين "النظام العالمي" الذي يحتاج إلي فترة زمنية للتكيف، وترتيب الأوضاع بما يتجاوز التأثير الدراماتيكي للدولة في النظام.
ولكن هذه المسألة الأخيرة، مسألة "الصراع بين النظامين" لا تعالج في عجالة، ولو أنها لا تنسى.. خاصة وأن لها علاقة وثيقة بمسألة "ديموقراطية الأقوى"، تلك التي تفرض كثيراً من الظلال على الواقع العربي الراهن.