بداية، إن أي أمة من الأمم تحاول أو ستحاول بناء مشروعها الإمبراطوري على غرار الإمبراطوريات السابقة، أقل سؤال يمكن طرحه وبشكل مباشر: أين هي تلك الإمبراطوريات؟ ثم ما الأسباب التي أدت إلى زوالها؟ وما العوامل الكامنة وراء صعود وسقوط تلك الإمبراطوريات، أسئلة تحتاج الإجابة عنها إلى المزيد من البحث والدراسة من أجل الوصول إلى قراءات ضرورية لفهم ما يجري معنا وحولنا. قد تكون كلمة وهم أنسب ما يمكن وصف النظام الإمبراطوري به, وشكل من أشكل السلطة التي تختلط فيها الرغبة بالمستحيل والخيال بالجنون, ويرادف مصطلح المشروع الإمبراطوري كثير من البؤس لما يتسبب به من تدمير لإمكانات هائلة خرافية في سبيل الحفاظ على ما نهبه من خيرات المجتمع والطبيعة.
رغم الفظاعة التي مرت بها التجربة الإمبراطورية الرومانية, لا تزال هذه الرغبة قائمة في واشنطن, ومع أن المحاولة التي تحاول أمريكا القيام بها قد مرت في فرن النهضة الأوربية أو الفرن الحداثيّ الذي انتهى بتعليق موسوليني الخارطة الكاملة للإمبراطورية الرومانية في مكتبه, ثم انتحر مع حلمه الأوربي في صراع دموي مرعب (الحرب العالمية الثانية) كاد يدمر العالم برمته (أزمة كونية كاملة), وساهمت به السلطة في واشنطن بوحشية عندما ألقت سلاحها النووي فوق الأبرياء في هيروشيما وناغازاكي, ولتتصدر رأس الحرية في التوسع نحو بناء ما يسمى الإمبراطورية, بعدما كان التنافس بين الطرفين حاداً على الأقل لمدة نصف قرن ـ من نهاية القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين ـ هذا إذا تجاوزنا فترة ما بعد مبدأ مونرو 1823م ومحاولة أمريكا الانعزال فيما وراء الأطلسي والاستحواذ على مقدرات الأمريكيتين ـ الشمالية والجنوبية, وابتعاد أوربا عن محاولاتها للسيطرة على العالم الجديد بسبب انشغالها بمعاركها ضمن فضاء العالم القديم ودافعة بحنينه الماضوي ـ النوستالجي ـ إلى الآخر بعد سقوطها المريع تحت الضربات الارتدادية لتوسع السلطة المركزية, ولتتبنى سلطة واشنطن هذا المشروع.
بين الإمبراطورية الرومانية والمحاولة الأمريكية:
ـ التشابه في الولادة والنشأة:
ربما يعود الاستيطان البشري الأولى في روما إلى 1000 عام قبل الميلاد, لكن إقامة أول مستوطنة على تل البالاتين من قبل الأخوين التوأم رومولوس وريمون كانت سنة 753ق.م. يرتبط بهذا التاريخ بداية التأسيس على نهر التيبر وسط إيطاليا النواة الأولى للإمبراطورية الرومانية (يشبه ولادة جيمستاون) أول مستعمرة أمريكية.
انتمى المؤسسون إلى مجموعات رعاة الغنم واعتمدوا على الرعي والزراعة في تنمية الثروة اللازمة للتوسع والانتقال من مرحلة التماهي مع الطبيعة إلى مرحلة تراكم الثروة, وبعد أن نجحوا في ذلك من جراء عمل الرعاة, أنشئت قوات غير نظامية للدفاع عن هذه الثروة بحجة أن تلال روما في خطر (أي دفعت السلطة المتشكلة إلى التخويف من العدو بسبب خشيتها على ما تملكه), ما لبثت أن تحولت تلك القوات إلى أداة أساسية في دعم التوسع, وانتقلت من طابع اللاتنظيم إلى التنظيم مستفيدة من الأسلحة اليونانية وهي أول ما ورثته عن أثينا كقاذفات الأحجار والسيوف, وعملت جاهدة على تطويرها لتصنع السيوف القصيرة والعريضة المميزة, ترافق تطور السلاح مع بناء قوة عسكرية مدربة, كانت استجابة لرغبة السلطة الناشئة (نلاحظ منذ البداية كيف تتشكل أداتا السلطة: الثروة والجيش), ونفذت سلسلة من العمليات العنفية بغية تحقيق المكاسب المباشرة لدعم مؤسسة السلطة التي انتهت بتأسيس الجمهورية سنة 509 ق.م وطرد الرومان الاترسكانيين (يشبهون المجتمع الأصلي في أمريكا) إلى خارج أسوار البلاد التي تمكنت من السيطرة عليها كاملة سنة 275 ق.م.
بعد تأسيس الداخل وعزله عن الآخر ـ العدو, انطلقت نحو ـ الخارج ـ لتحقيق المزيد من الثروة, وكان ذلك الخارج الطبيعة وقرطاج الغنية, دخلت مع الطرف الثاني في ثلاثة حروب متتالية:
* حرب بونية أولى: 264 ـ 241 ق.م وضم صقلية وسردينيا وكورسيكا.
* حرب بونية ثانية: 218 ـ 201 ق.م وهزيمة القائد القرطاجي هانبيال الذي مهد لحرب بونية ثالثة وسقوط قرطاج نهائياً بأيدي الرومان والانتهاء من الحرب عام 126 ق. م.
الخلاف على الثروة, وكما يبدو ظاهرياً خلاف على السلطة, وتوزيع الأدوار اشتعلت الحرب الأهلية ـ وهي في جوهرها صراع عنفي يفجره اختلال التوازن (المادي والعسكري) داخل مؤسسة السلطة, ليكون الحسم في النهاية عسكرياً وتولد سلطة غالباً ما تكون عسكرية ـ وهكذا انتهت هذه الحرب بقيام ما أسموه الإمبراطورية ـ أي كانت مقدمة لحسم النزاعات الداخلية, وإعلان أوغسطس نفسه إمبراطوراً سنة 27 ق.م, ويبدأ معه فصل جديد من فصول تحول السلطة في روما انتهت بتقسيمها إلى قسمين سنة 395م: شرقية بيزنطية عاصمتها القسطنطينية, وغربية.
لم تتمكن السلطة في العاصمة الغربية ـ روما ـ من الاستمرار فسقطت سنة 476م على يد الزعيم الجرماني إدواكر الذي هزم آخر حاكم روماني وهو روسولوس أوغسطس, ثم تلتها القسطنطينية التي سقطت على يد العثمانيين سنة 1453م, ومع هذا السقوط أسدل الستار على سلطة عملت الكثير من أجل السيطرة على العالم كله (أزمة كاملة وسقوط شامل للسلطة)..
بالتأكيد يدخل في سياق هذا العرض التاريخي السريع جوانب كثيرة أخرى غير الصعود والهبوط والحروب والتوسع ثم الانهيار, لم أتعرض لها, وقد تم دراسة تاريخ هذه السلطة بكثير من الاهتمام كونها عمرت طويلاً, ومن الباحثين في تاريخ روما ميكافيلي واشتهر في عمله (الأمير) الذي أرجع أسباب انهيار روما إلى الدين, إذ يقول: "إن الدين المسيحي هو الذي قوض روما", من الصعب الاتفاق معه حول هذا التفسير كون سبب الانهيار يعود إلى بنية السلطة ذاتها التي لا تحتمل الاستمرار, لكنني أتفق معه عندما نصح أميره ببناء دولة حرة مشيراً وبوضوح إلى بنية السلطة, هذا، توضح قراءته المنطقية لأدوات وآليات عمل النظام الإمبراطوري (إن بناء أي مجتمع جديد من القاعدة يتطلب "المال" و"السلاح" ويجب البحث عنهما في الخارج), وتكمن في هاتين الأداتين جذور أزمة السلطة, كما أنهما تشكلان جسد السلطة, وتستخدمهما في خلق انسجام قسري ـ عنفي بين الفضاءات الأخرى ـ الاجتماعية ـ الفكرية ـ الاقتصادية ـ السياسية..
بنية السلطة في روما:
بدأ التوسع يزداد مع تحقيق المزيد من تراكم الثروة بالسيطرة على الأراضي الزراعية, وتحول الجيش إلى أداة تلبي حاجة هذا الغزو, فظهرت طبقة الفرسان الذين هم ملاك الأراضي والذين راحوا يستغلون المزارعين والعبيد وأسرى الحرب لتحقيق المزيد من الثروة, واستفاد الأثرياء من عائدات الضرائب, ومن غنائم الحروب, أدى هذا التراكم إلى شعور الأثرياء بالقوة والجبروت, فطردوا المزارعين الصغار من مزارعهم ليحل محلهم العبيد ولتعود ملكية الأراضي بالكامل لهم, ولد ذلك مجتمعاً شديد الانقسام:
1 ـ طبقة عليا حاكمة ومالكة يمثلهم أعضاء مجلس الشيوخ.
2 ـ طبقة دنيا وضيعة من المزارعين وعمال المدن وأسرى الحروب والعبيد.
أدخل هذا الوضع المجتمع في صراع حاد مع السلطة قاد في النتيجة إلى تشكيل مجلس للعامة تحت اسم "الترابنة" وانتخبوا زعيماً لهم, ومُثلوا في "جمعية القبائل" وحققوا بعض المكاسب السياسية (أمة جزئية).
ازدياد الفجوة في البنية الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء دفع بالأخوين تيبروس وجايوس جراكوس /133 ـ 123ق. م/ بتقديم برنامج لتوزيع الأراضي على الفقراء, لكن أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ عارضوه وقُتِلَ الأخوان, أدى هذا الصراع إلى اضطرابات حادة, أنهاها القائد الروماني "سولا" بالقمع ونصّب نفسه دكتاتوراً سنة 79ق.م.
نجم عن هذا الوضع الاقتصادي والانقسام الطبقي الحاد فيه قلاقل سياسية انتهت إلى شكل جديد من أشكال السلطة, سلطة أكثر تمكناً وبالتالي أكثر قوة وقمعاً, حيث أمسك الأباطرة بالسلطة العليا وتحكموا بالجيش والقانون وأبعدوا المؤسسات الدستورية: مجلس الشيوخ والمجالس الشعبية التي أصبحت مؤسسات صورية.. وهكذا انتقل الجيش من حام لسلطة الجمهورية إلى سلطة الإمبراطورية تحت اسم كتائب الحرس الإمبراطوري (البريتوريا) وخلق ما يسمى النزعة البريتورية في الحكم, وبمقدار التراكم وضرورة الحفاظ على الإمبراطورية, اضطر الحكام لنقل وظيفة الجيش من مجرد الحماية والسطو إلى وظيفة المساهمة في الشؤون السياسية والتدخل في كل شيء والاستحواذ على ما تمت مراكمته, ترافق ذلك مع توسيع المؤسسة العسكرية تلبية للحاجات التوسعية وأصبح عدد الجيش سنة 20ق. ق 300.000 جندي مدرب ومنضبط, تسعفنا هذه المقدمة في فهم ما جرى للسلطة التي بدأت بامتلاك للثروة يتعاونون مع الجيش في إدارتها, ولتنقل إدارة الثروة للجيش نفسه, وهذا تحول حتمي باتجاه تمركز السلطة ونقلها من مدنية إلى عسكرية التي تستحوذ على كل شيء وبالتالي تنهار, إذ إن الجيش يستهلك وبشكل مفرط إمكانات المجتمع والطبيعة وهما اللذان يقوضان هذا التسلط, فالقوة العسكرية استهلكت المزيد من الثروات لدرجة أنها أصبحت عاجزة عن تلبية حاجات الجيش والطبقة الحاكمة معاً, وهذا العجز هو الذي أدى إلى تعميق الخلاف الاجتماعي وهيأ الظروف لسقوط الإمبراطورية, رغم توسعها وإمكاناتها الخارقة التي بلغت أقصاها تحت ظل الإمبراطور تراجان سنة 117م, حيث ضمت أوربا بكاملها تقريباً وشمال أفريقيا وشرق المتوسط بالكامل, وفي النهاية انهارت هذه السلطة الهائلة لتترك كل ما راكمته في مهب الريح, ثم يبدأ المجتمع من جديد منطلقاً من حالة التماهي مع الطبيعة إلى السماح بالاعتداء عليه بتشكيل سلطة جديدة تمتص قوته وتنهكه ولا تسمح له بالعودة إلى فطرته التي نشأ عليها.
ماذا عن أمريكا؟
(مثير للدهشة, حقاً أن هناك تشابهاً قوياً بين هذه التجربة الأمريكية والتجربة الدستورية القديمة وبخاصة النظرية السياسية المستهلكة من روما الإمبراطورية)(1) منذ أن وطئ كريستوف كولومبس جزيرة سان سلفا دور في الباهام عام 1492م تشكل أمريكا أرض رغبة بالنسبة للأوربيين وللإنسان القديم الذي قطع شوطاً كبيراً في تدمير علاقته بالطبيعة وبالآخر, وجاء إلى أمريكا معبأ بالخراب الذي لحق به جراء قبوله تحطيم السلطة لسماته التي وُلِد عليها, ولدى وصوله إلى أمريكا جاء كإنسان ساع لمزيد من التملك بعد سنة 1760 مُنح فريق من أبناء المستعمرات الذين شاركوا في حرب السنوات السبع أراضيَ في الغرب مكافأة لهم"(2) فكان أول اختبار له في أمريكا هو الإمعان في القتل والتنكيل بالسكان الأصليين, ووصف المنصّر الدومينيكاني بارتو لومي دي لاس كازاس المعاملة الوحشية التي تعرض لها السكان الأصليون على يد الغزاة الجدد, كما وصف كتاب تدمير الأنديز (1552م) آلية وبشاعة تدمير الغازي للمجتمع الأصلي وإحلال ذاته مكانه, وأوضح مدى قسوته وجشعه وطمعه بالثروة وبالتوسع..
شكل المستوطنون الجدد 13 مستعمرة بقيت تابعة للبلد الأم فترة من الزمن ما لبثت أن تمردت عليها في حرب استقلال بزعامة المتمرد جورج واشنطن.
وبعد تصفية السكان الأصليين (إنجاز مهمة القضاء على الآخر الذي يمكن أن يقاسمهم الثروة) عملوا على استقدام الأفارقة كعبيد للعمل في مزارعهم (بمعنى الإمعان في استغلال الطبيعة دون أية مقاومة من السكان الأصليين) هذا الاستغلال المزدوج:
ـ للعبيد الذين أصبحوا أداة مجانية لجمع الثروة.
ـ وللطبيعة الغنية.
أدى إلى قيام مزارع واقطاعات واسعة هيأت لقيام دولة ذات طابع قومي ـ تمايزي, وهو الهدف المباشر لأي سلطة تعبر عن ذاتها بالكم الذي تمكنت من جمعه وتراكمه, وبالتالي العمل على زيادته وترسيخه والدفاع عنه, وتطويع المجتمع تحت مسميات مختلفة ـ الوطنية والعدو غيرهما ـ كي تتمكن من امتصاص كمونه إلى أقصى حد.
تمثلت نواة السلطة القمعية والناشئة بمجموعات رعاة البقر المسلحة (تشبه رعاة الماشية "الغنم والماعز" الرومان) في تحقيق التراكم الأولى عبر تدمير السكان الأصليين, واستعباد الزنوج, والإسراف في استغلال العبيد جاعلة منهم قطعاناً لتحقيق التوسع الضروري لتأمين احتياجات السادة الجدد "تقوم الإمبراطورية على بناء علاقات القوة الخاصة بها القائمة على الاستغلال"(3).
ويتفق بوليبوس ومونتسكيو وغيبون بأن الإمبراطورية منذ نشأتها تكون فاسدة, ويقدم رعاة البقر هؤلاء نموذجاً صارخاً لسلطة ستعبر عن نفسها لاحقاً بوحشية لا مثيل لها في التاريخ البشري, مما دفع بمفكر مثل مايكل هاردت إلى إعلان (مواجهة الإمبراطورية بإمبراطورية مضادة)(4) وإن كنت ضد مثل هذا الطرح, لأنني ضد فكرة الصراع, لكن القراءة الخاطئة لمفهوم الصراع, يدفع بالمفكرين للبحث عن الخلاص من داخل الصراع ذاته, وهذا خطيئة كبرى تحتاج إلى مراجعة جدية وقراءة منطقية لما حدث ويحدث في واقعنا.
بين فساد الإمبراطورية ومواجهتها تبدو المجتمعات الإنسانية والطبيعة أعجز من احتمال الهزيمة, لأن نصر السلطة في النهاية مستحيل, ويقدم لنا التاريخ نماذج كثيرة لأنظمة إمبراطورية قد انهارت, ويمكن الاستفادة من تجاربها إلى أقصى حد واستخلاص العبر, وتقدم لنا واشنطن الآن إحدى هذه النماذج, خاصة بلغ الأمر بها حداً فاصلاً من التأزم علينا الانتباه إليه بجدية دون الانغماس في أية أوهام لابلاسية لفهم ما يدور حولنا, وعدم الانشغال كثيراً بالعنصرية الجديدة أو العنصرية التفاضلية كما عبر عنها إيتيان باليبار ونقل التمايز من البنية البيولوجية إلى البنية الثقافية, إذ توصلت القناعة لدى الأمريكيين بأن الله يحبهم ولا يحب غيرهم وبلغت هذه النسبة من البشر الذي يشعرون بالتمايز أو الذين تم أدلجتهم عرقياً إلى 80%, وهذه الأدلجة تخدم في النهاية المؤسسة الساعية لتحقيق بنية كونية خاضعة لها عبر الأسيجة لأملاكها مقابل فتح أسوار الآخرين عبر ضغوط جبارة ومدمرة في آن معاً (العولمة), وإن كانت الدولة تتعامل غريزياً مع مبدأ الاستحواذ, فإن التوسع في جوهره يستلزم الصراع وهو بالضرورة سبب جوهري لإنقاذ الحكم من الوقوع في الفساد حسب تعبير مونتسكيو, وهو سبب زوال السلطة بالتأكيد, إذْ لا يمكنها الاستمرار دون التوسع الذي يستلزم الصراع كما هو ضرورة لاستمرار الحكم, وفي روما القديمة, ما احتدم الخلاف حول الصراع بين التوسع أو اللاتوسع إلا وحسم لصالح التوسع, ويعرّف توماس جفرسون الحدود "بأنها كل عقبة أمام الحرية ويجب إزالتها" لتصبح الحرية (مذهب حقوق الإنسان) هي الأصولية ـ القومية ـ التمايزية والتي يُخاض باسمها التوسع, ويصبح السكان الأصليون طغاة وفق مفهوم الغزاة, ويُحول العبيد إلى سلع تباع وتشترى, ويقدر العبد بثمن زهيد يساوي ثلاثة أخماس الشخص الحر بشكل يكاد يكون التطبيق حرفياً لما مرت به التجربة الرومانية التي نعرف جيداً ما حدث لها, ثم ليتحول العالم بأسره إلى هدف تعمل على تطويعه وإخضاعه بما فيه الفضاء الخارجي (أقمار التجسس الاصطناعية).
تابعت التجربة الأمريكية خطاها مرغمَة نحو مرحلة لاحقة من تطور السلطة وفق تدرج تراكمي تمثل بمرحلة الإمبريالية (الإمبريالية الروزفلتيه) التي عملت على المزيد من تحطيم التوازن القائم ما بين الداخل والخارج في سبيل ترسيخ قيم التسليع والتهافت وراء الثروة, وتمكنت من تحقيق مكاسب مؤقتة بسبب إمكانية المجتمع والطبيعة على تحمل هذه الأعباء, وما دام الخارج (الطبيعة والمجتمع) قادراً على تلبية مطالب السلطة ستبقى موجودة, وتصرفاتها التي تعتبر مكاسب للمجتمع (كالنشاط البرلماني والرقابة المشروطة لسلوكها..) إلى حدٍ ما لا تُمس, وعندما يعجز هذا الخارج عن تلبية مطالبها, تكشف عن أنيابها عبر مؤسستها العسكرية وتبدأ بالتدمير الذي يتجلى بالاستحواذ إلى أقصى حد, دون أن يحقق لها المتوافر احتياجاتها, فتنهار وتموت أو تلجأ إلى افتعال أزمة تنقذها من ورطتها.
إن أية سلطة كبيرة كانت أم صغيرة تتشابه في جوهرها بغض النظر عن الهامش الذي تتنازل عنه للمجتمع من حريات وغيرها, ومن السهل ملاحظة التشابه الشديد في النشأة, ثم التطور اللاحق بين التجربتين الرومانية والأمريكية, وبدا هذا التماثل عندما انطلق النظام الناشىء التأسيس وفق المدرسة الرومانية التي ألهمته, وكانت مثاله الذي اقتدى به من خلال الممارسة الفعلية, واستقطب أيدلوجيا تلك المؤسسة بجعل السياسة حركية عبر المؤسسات البرلمانية: مجلس الشيوخ ومجلس النواب, هذه الحركية تُمثل فعلاً إنسانياً لائقاً للمجتمع البشري يحق له أن يعيش هذه الحرية التي صُودرت منه أصلاً وكان يتمتع بها قبل انطلاقة السلطة كمؤسسة تدير العلاقة بين المجتمع والتراكم ـ الثروة, وهنا تبقى هذه الحركية السياسية مصابة بالشلل كونها تعبر عن إرادة النخبة المتسلطة ولا تعبر عن المجتمع الخلاق الذي يستحق أكثر بكثير من لعبة (انتخابية) يدخل فيها شخصان يدفعان ما يقارب المليار دولار, يخسر واحد, ويجلس آخر على كرسي الحكم بفارق أصوات قليلة جداً, ثم تؤخذ الناس من أيديهم كي يصفقوا لهذا الإنجاز الحركي الذي هو في جوَهره روماني ـ سلطوي ـ اغتصابي. أما لعبة التوازن بين السلطات الثلاث: القضائية, النيابية, والتنفيذية, فلا تمثل إلا النخبة وأقل نقد لها يتمثل في ملفاتها السرية التي لا يمكن للمجتمع المشاركة بها.
لا تزال السلطة في واشنطن تتباهى بإنجازها المتمثل في تجاوز أزماتها الجزئية وتمكنها من عبور مرحلة الإمبريالية بفوز كبير حققته من خلال جعل الخارج أكثر طاعة لها بعد الحرب الكونية الطاحنة (الثانية) وجعله أكثر خضوعاً من خلال وسيلتين:
ـ المال ـ الدولارـ وربطه بالذهب في اتفاقية بريتون وودز.
ـ السلاح ـ القنبلة الذرية ـ وترويع العالم بها.
هاتان الوسيلتان سهلتا عليها إمكانية التوسع وتطويع الخارج أكثر ومنحتاها فرصة الاستمرار الذي يبدو وكأنه معجزة للسلطة الرأسمالية ـ المادية المدججة بالسلاح, لكن سقوط العدو (الاتحاد السوفييتي) عام 1990م, أفقدها كثيراً من مبررات استمرارها وحججها أمام المجتمع الذي شكلته بدواعي حمايته, بعد هذه اللعبة مباشرة انكشفت أوراقها, وأصبحت إدارة رأس المال عاجزة عن تلبية احتياجات الجيش الذي أصبح من الضخامة والقوة قادراً على الإمساك بالسلطة وهذا ما فعله مجبراً كي يلبي احتياجاته, وعلى غرار روما ـ أغسطس انقلب على مؤسسة الملاك وشكّل السلطة التوليتارية, ثم راح يعمل على تأمين احتياجاته بشكل ذاتي, ومشكلاً خارجه الخاص.
يعود سبب ذلك إلى:
ـ عجز السلطة في واشنطن عن تلبية احتياجاته كونها متأزمة وغارقة في الديون (تجاوزت بعد عام 2000 الـ 450 بليون دولار) لذا اختطفها وراح يستخدم قواه لتحقيق المزيد من الثروة لتلبية احتياجاته من السلطة ذاتها ويجعلها تدعم وتشتري ما ينتج في مؤسسات التصنيع العسكري.
ـ بيع أسلحته ومنتجاته للدول الأخرى التي يسيطر على حكوماتها الضعيفة (سرقة المجتمعات الأخرى) وفرض إرادته عليها.
ـ إثارة الحروب بين الدول وتغذيتها بالسلاح وتأمين عوائد جيدة لميزانيته.
ـ احتلال دول غنية بالثروات.
ـ فرض اتفاقيات غير متوازنة على الدول الضعيفة يؤمن من خلالها مكاسب مجانية (كالسكوت عن ممارسة السلطة القمعية فيها, ودفع تلك السلطات مبالغ مقابل حمايتها).
ـ أسلوب القرصنة المباشرة لإمكانات الآخرين ودعم مافيا التهريب المختلفة للمخدرات والدعارة والهجرة وسرقة العقول, وزعزعة الأمن في الدول...
ـ الاتهامات المبرمجة للأنظمة تحت شعارات مختلفة (حقوق الإنسان, الحريات..), ثم قبض مبالغ مقابل السكوت عنها.
ـ استغلال المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي..) من أجل ضبط حركة الأموال وعوائد الديون وخدمتها لصالحه.
العوامل التي سرّعت ظهور السلطة التوليتارية في واشنطن:
1 ـ انقسام البلاد إلى ثلاثة عواصم, أي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ السلطة من الانهيار.
2 ـ عجز السلطة المركزية عن تأمين احتياجات المؤسسة العسكرية التي تضخمت, فاضطرت الثانية للسيطرة على الأولى لتأمين احتياجاتها بنفسها في خطوة لتوحيد أداتي السلطة في أداة واحدة هي الجيش, أي إضعاف للسلطة الذي يبدو وكأنه عنصر قوة لها.
3 ـ اختلال التوازن بين السلطة المالية والعسكرية لصالح الثانية التي انقضّت للحفاظ على مكاسبها, والعمل على استمرار السلطة لأطول فترة ممكنة, يعني ذلك أن البلاد أصبحت مرهونة تماماً للسلطة العسكرية, وأغلب ما يحدث في العالم من أزمات تُدار في كواليس هذه المؤسسة التي تعمل على الاستفادة القصوى منها.
وبانتظار حدوث ـ أزمة كاملة ـ على غرار ما حدث لروما (تنهار سلطة واشنطن وتزاح) على المجتمع أن يستعد لبناء مستقبل جديد يتمتع فيه بسماته كاملة.
قراءة حول انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم:
العواصم هي:
1 ـ واشنطن : عاصمة عسكرية وسياسية.
2 ـ نيويورك : عاصمة مالية.
3 ـ لوس أنجلوس : عاصمة معرفية.
كانت تُدار أمريكا من خلال واشنطن التي تتحكم بكل شيء وتتمتع بمركزية هي التي هيأت الظروف لخوض ثلاثة حروب كونية في القرن العشرين: حرب كونية أولى وحرب كونية ثانية وحرب كونية باردة.. هذه الحروب مكنتها من إخضاع بقية عواصم الولايات والمدن والأطراف لها, وهي التي قادتها إلى تشكيل كتلة عسكرية ضخمة في ظاهرها مقوية وداعمة لها, لكن في جوهرها هي التي ستدمرها.
تشكل العاصمة واشنطن معقل العسكريين الذين استولوا على السلطة بانقلاب عسكري سلمي بعد عام 1990م, ولم يكن أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك (هي مرحلة هامة من مراحل موت السلطة) تحت ضغط مطالبهم المتزايدة للثروة والمال, وبما أن العاصمة المالية أصبحت مرتبطة مالياً مع عواصم المال في الخارج ومع الزبائن في الداخل متحررة من مطالب السلطة, لأن لعبة المال قد تغيرت في غير اتجاه, ولم تعد مرتبطة أصلاً بنيويورك وحدها, فأصبح المال (ذبذبات الكترونية متحركة بضغط الأزرار ـ أشبه بالغاز الطيّار) ينتقل من عاصمة لأخرى, لا يمكن ضبطه وبالتالي استحالة الاستحواذ عليه من قبل أحد أياً كان (هذه مرحلة من مراحل عودة ما أنتجه المجتمع إليه, وذلك بتحول الثروة إلى شكل رمزي مضبوط في إطار المجتمع, وإلى كميات معرفية ـ خدمية ساهمت لوس أنجلوس في تطويرها, لتصبح في حالة من اللاتمركز وغير خاضعة للعاصمة علماً أن مُنتجها يمثل القيمة الأساسية لتداول رأس المال الكوني, وهو مرتبط أساساً بالمجتمع, لذا لا يمكن الاستحواذ عليه من قبل السلطة).
تحول في بنية الثروة, والصعوبة في السيطرة عليها, هو عامل إضافي دفعها إلى الانقلاب السريع على السلطة في واشنطن, والبحث مباشرة عن أماكن للثروة لا تزال في حالة تمركز ويمكن الاستحواذ عليها واستغلالها, فلم تتوفر هذه المصادر إلا في مناطق لم تسمح السلطة (سلطة مركزية) فيها بتحول ثروتها من الحالة الصلبة (مواد خام, مواد زراعية...) إلى اقتصاد رمزي يرتبط بالاقتصاد العالمي ـ أي لم تطلقها لتتفاعل مع اقتصاديات العالم الأخرى من خلال الذبذبات الالكترونية, والثروة المعرفية, والثروة الخدمية, ونقل الاقتصاد من الجمود إلى التحرك, فبعد أن أنجزت انقلابها في واشنطن اضطرت وبسرعة للاستيلاء على ذلك الخارج الذي لم يلحق بعد بركب التغيرات الجديدة وليكون هدفاً سريعاً ومباشراً لهذا الجوع التوليتاري (استخدمت الإرهاب ككذبة تؤدلج بها الداخل كي تسوقه معها إلى معركتها التي هدفها الجوهري النهب الاقتصادي) مبرراً لذلك, وهي محاولة حتمية وسريعة منها باتجاه إنقاذ نفسها, وكمحاولة أخيرة للضبط والسيطرة على العواصم الثلاث المنفصلة, وسيكون أداء السلطة العسكرية على النحو التالي:
أ ـ مستوى الداخل:
ـ القمع (لأول مرة تتشكل وزارة للأمن الدخلي مؤلفة من أكثر من 190 ألف قامع هدفها خلق بيت طاعة للأمريكيين).
ـ النهب (ارتفاع مستوى الضرائب والمديونية العامة, والمزيد من إفلاس الشركات الكبرى...).
ـ التدمير (بكل أشكاله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية, ألا يعتبر جعل الناس يؤمنون بالتفوق على غيرهم قتلا لهم؟).
ـ عسكرة كل شيء (بالمقابل ماذا يقدم العسكر للوطن؟).
ب ـ مستوى الخارج:
ـ محاولة الاستيلاء على عواصم المال ودفعها لمشاركتها في مغامراتها العسكرية, خاصة تلك التي توجد لها فيها قواعد عسكرية (اليابان, ألمانيا, كوريا الجنوبية, الخليج العربي..) هذا يعني حروباً كونية جديدة.
ـ ضم وإلحاق بعض المناطق الغنية (مناطق نفوذ غنية بالثروات).
ـ ردود فعل من دول قوية لحماية مصالحها, يعني فتح جبهات جديدة للصراع بأشكاله المختلفة (اقتصادية, فكرية, عسكرية...) وبالتالي حدوث تدمير متزايد ستكون أثمانه باهظة.
ـ محاولة استخدام السلاح النووي (بشكل محدود أو واسع) في لحظات المواجهة الحرجة, وهنا لابد من جبهة الداخل المتضررة أن تفعل شيئاً.
ـ تدمير المؤسسات الدولية.
سيرافق ذلك تصاعد في وتيرة المشاكل وبالتالي المزيد من الخراب قبل أن يعلن سقوط العاصمة واشنطن بشكل رسمي, ومع أنه في الحقيقة قد تم منذ لحظة دخول التوليتاريين بغداد, لأنهم قدموا خدمة مزدوجة في تلك اللحظة:
ـ كشفوا عن ضعفهم العسكري والاقتصادي والأخلاقي وعمقوا كراهية العالم كله لهم وهذه خسارة لن يتمكنوا من تعويضها أبداً.
ـ حرروا العالم من نظام سياسي يمنع بقعة جغرافية هامة من العالم التواصل مع الآخر لتمسكه بآليات العمل الاقتصادي والاجتماعي الممركزة (توجد قوة كونية هائلة تدمر التمركز ساعية باتجاه بناء القرية الكونية) وهذه خطوة استراتيجية هامة جداً نحو تعميق التواصل الاجتماعي الكوني, وهو في الوقت نفسه يضرب بالعمق المشروع التوليتاري التوسعي في واشنطن (من حيث لا تدري السلطة ـ باحتلالها بغداد ـ وضعت إسفينا جديداً في نعشها) لماذا بغداد؟
هذا السؤال الهام يطرح نفسه كجواب على ما تعانيه سلطة واشنطن, وأعتقد أن تسرع السلطة التوليتارية في الهجوم على بغداد هو خطوة حتمية منها بغية إنقاذ نفسها من أزمة اقتصادية محدقة كون بغداد تؤمن لها:
1 ـ الثروة الصلبة (مواد خام من النفط وغيره..).
2 ـ نظاماً سياسياً مهترئاً يمكن إسقاطه بتكاليف أقل.
3 ـ محاولة ضبط الداخل وتخويفه الذي بدأ يعلن تململه من هذا النظام التوليتاري ـ العولمي عبر انفلات العواصم من قبضة واشنطن لصالح ما هو معرفي ومجتمعي.
4 ـ دعم المؤسسة العسكرية المتخمة بالسلاح (تفريغ مستودعاتها) عن طريق بيع ما لديها للسلطة والاستفادة من العوائد في صناعات جديدة.
5 ـ الهدف السهل بسبب أخطاء السلطة في بغداد لعدم تمكنها من قراءة ما يحدث عالمياً وربط ثروتها بمؤسسات تحول الثروة من صلبة إلى ذبذبات إلكترونية (كانت ستحميها, لأن هذا العدو الكوني كان لن يفكر باحتلال بلد لا توجد فيه ثروة), ولم تعمل على تخليص نفسها من المركزية المطلقة ـ الدكتاتورية.
لقد وقعت السلطة التوليتارية في واشنطن بالخطأ كون ما ستدفعه جراء احتلالها للعراق سيكون أكبر بكثير مما ستكسبه, وستكون عقوبتها أكبر من المتوقع, كما يُفترض البحث عن أهداف غنية توفر لها احتياجاتها (ألمانيا, سنغافورة..) الغنية والضعيفة عسكرياً, يتجه عادة النظام الإمبراطوري نحو المناطق التي تؤمن له ما يحتاج (كميات هائلة), لكن بنية الاقتصاد المتغيرة في مثل هذه البلدان لا تسمح لها بذلك, وهي الآن غير قادرة على مواجهة الأعداء الذين صاغتهم بنفسها عبر مراحل تشكلها, وهم الآن أقوى منها بكثير.
أعداء سلطة واشنطن:
كما ذكرت أعلاه إن السلطة في لحظة تشكلها تخلق قاتليها وحفاري قبرها ولا يمكنها أن تفلت من ذلك أبداً:
1 ـ الطبيعة هي العدو الأول, كون السلطة تتجاوز أية علاقة مدنية أو أخلاقية بها, لذا تقوم بهجمات ارتدادية جبارة من خلال:
ـ عدم كفاية (نفاد مواد الخام بسبب الاستهلاك العشوائي) ما في جعبتها من ثروات تكفي حاجات السلطة المتزايدة.
ـ الجفاف والتصحر والفيضانات, وحرائق الغابات والزلازل, وتهالك التربة..
ـ ارتفاع درجة حرارة الأرض.
ـ مشاكل البيئة المختلفة واختلال توازنها (ثقب الأوزون, تدمير الحياة البرية, تلوث المياه...).
2 ـ المجتمع:
* ـ مجتمع الداخل, انتقل من مرحلة المستسلِم للسلطة إلى مرحلة المواجهة معها عندما اكتشف أنها تستنزفه وتصادر مكاسبه المختلفة, فانتقل إلى جبهة الضد, وأسباب اندفاعه لمواجهتها:
أ ـ تعجز عن حل مشاكله المختلفة من بطالة (تتجاوز نسبة البطالة الـ 6%), وتعليم (ارتفاع نسبة الأمية) وفقر (يبلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 30 مليون شخص) وصحة (انتشار الأمراض المختلفة والأوبئة في الأحياء الفقيرة), وتفرقة بين أبيض وأسود (لم يتمكن زنجي حتى الآن من الوصول للبيت الأبيض, ولن يتمكن إلا في إطار يكون المجتمع هو القائد)..
ب ـ تدفع به إلى معارك خارجية لا ناقة له بها ولا جمل, ويدفع الأثمان غالية من دمه وروحه دون مقابل (ازدياد عداوة الآخر له).
ج ـ تنهكه أمنياً وتبقيه في حالة من الاستنفار والخوف والتصادم, وهذا يتناقض مع فطرته وقيمه.
د ـ يحدث لديه صحوة ووعي لما يدور حوله جراء نهب السلطة له, ويكتشف أنها عدوته وليس الآخر الذي هو أخوه, مما يدفعه للوقوف مع المجتمع المستهدَف ضد السلطة, أي يتمرد جراء عجزه عن تلبية احتياجاتها للتوسع (جيش, جنود أمن وإدارة, وسائل إعلام ودعاية, خدمات...), فيدفع إلى المقاومة التي تتجلى:
ـ بالتمرد على السلطة (عدم دفع الضرائب, الإضرابات, المطالبة بدفع الأجور وتحسين الأوضاع الاقتصادية, تحديد ساعات العمل, الحفاظ على البيئة...).
ـ التوسع العبثي ـ اللامحدود للسلطة يجعل المجتمع تلقائياً عاجزاً عن تلبية احتياجاتها, وهذه أكثر أشكال المقاومة جدية. فتضغط عليها بوسائل بوليسية وغير بوليسية كي تدعم أهدافها عبر صراعات ليست في صالحها.
* ـ مجتمع الخارج: يندفع هذا المجتمع الذي تشكل منذ اللحظة الأولى لتشكل نواة السلطة الناشئة للمواجهة باعتبار أنه مستهدف من قبلها, وتعمل على تحويل كمونه لصالحها بكل الوسائل المباشرة وغير المباشرة (مجرد الاستحواذ على خيرات الطبيعة وعدم إعطائها فرصة تجديد ذاتها وضمان استمرار التوازن البيئي وضع العالم كله في جبهة واحدة ضد السلطة التوليتارية في واشنطن التي تنتهك كل ما هو كوني وإنساني بفظاظة لم يشهد مثلها التاريخ), مما جعل السلطة ذاتها تطرح السؤال بجرأة: لماذا يكرهوننا؟ وهذا السؤال جوهري وحقيقي فالمجتمعات بالكامل تكره السلطة في أمريكا ولا تكره المجتمع الأمريكي الذي هو مع الجميع في المعركة نفسها ضد سلطة واشنطن وضد أي سلطة لا تحقق شروط المجتمع بأن:
ـ تكون خادمة له.
ـ منفذة لضوابطه وأهدافه.
ـ تنسجم بالمطلق مع سماته الفطرية.
ـ لا يوجد لديها أداتا الثروة والسلاح ولا يكونان هدفها.
كما أشار ميشيل فوكو إلى ضرورة فك الارتباط بين السلطة وقوتها: "ما نحن بصدده هو التالي: ما السبيل إلى فك الارتباط بين نمو القدرات (القابليات) وتكثيف علاقات القوة والسلطة".
هذه هي شروط السلطة التي تلبي حاجة المجتمع ولنا عودة للحديث بمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الأساسي.
3 ـ طبيعة السلطة ذاتها: طفيلية وعاجزة عن توليد كمونها الخاص الذي تستند إليه في استمرارها, وعجز الآخر أياً كان عن تلبية احتياجاتها اللامحدودة, وبشكل مباشر تتصرف كمتطفل يحاول إخضاع الآخر كي تتمكن من امتصاصه (درا كولا) ويأتي تدميرها لذاتها من خلال:
ـ عسكرة ما تنهبه بغية إحكام السيطرة على المقاومة الداخلية والخارجية.
ـ التراكم المتزايد يحرم المجتمع من تجديد نفسه, وبالتالي تعميق أزمتها معه, وبالتالي سقوطها.
ـ لا سلطة دون توسع, ولا توسع دون صراع الذي يعني أزمة دائمة, وبالتالي سقوطها.
يتضح تلاقي مجتمع الداخل (الأمريكي) مع الخارج (العالمي) الذي يتبلور الآن من خلال منظمات المجتمع المدني, والمنظمات غير الحكومية, والمنظمات الحقوقية, والجمعيات الخيرية, والمؤسسات النقابية وغيرها التي تكتسب بعداً كونياً لم يعد بإمكان سلطة واشنطن مواجهتها أو قمعها, لأن المجتمعات بدأت تُهجن عرقياً وثقافياً وأخلاقياً ودينياً, وتكسر الحدود والحواجز بوسائل كثيرة منها الهجنة, والهجرة, وسائل الاتصالات المختلفة, وولادة القرية الكونية, وتبادل هائل للمعلومات, وفقدان الهوية القومية التي عملت على تنميتها, والتطور التقني المتسارع وتحول الاقتصاد شيئاً فشيئاً من التمركز إلى التماهي مع المجتمعات التي أصبحت هي الأساس في إدارة الاقتصاد المعرفي والخدمي وحتى الكمي (سلع ومواد استهلاكية وأولية مختلفة...).
تواجه هذه العوامل المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي لا يريد الاستسلام, بل لا يستطيع كما هو واضح من محاولاته المستمرة الاعتداء السافر على المجتمعات الضعيفة واضعاً رأسه في الرمال دون قدرته على فهم ما يجري كونياً, وهو يعيش حالة انحدار متسارع, ويستنزف في عملية المواجهة هذه آخر ما تبقى لديه مما سرقه عبر أربعة قرون منذ تشكله وحتى هذه اللحظة, فأداته الوحيدة التي يستخدمها ويدافع بها عن نفسه ويستخدمها للضرب وللقمع, وهي الأداة التي يعتز بها فيلسوف هذه السلطة المتهاوية والحاقد على الإنسانية بامتياز ـ توماس فريدمان ـ أداة العسكرـ وكما هو معروف فإن هذه الأداة تقوم على النهب والسرقة, ولن يكون لها دور في عالم الغد, عالم مدجج بكل وسائل المقاومة التي نضجت, ولم يعد أمامنا إلا الاستعداد لدفن سلطة واشنطن, والذي يتجلى ضعفها الرهيب بمحاولاتها استخدام الغير للدفاع عنها كما فعلت في حربها على أفغانستان وتملصت من إعادة إعمار ذلك البلد, وتجلى تقهقرها في حربها على العراق وسعيها الدائم في كل معركة خارجية لها من أجل جمع الثروة وتوريط الآخرين بما تعجز عنه.
قد يسأل سائل, ما المؤشرات التي تدل على سيطرة التوليتاريين على السلطة؟
والجواب هو:
ـ عدم الاكتراث بالمطالب الداخلية والخارجية لاحترام الطبيعة وهي تتصرف كسلطة مطلقة (مدججة بالسلاح) تستند إلى مبدأ القوة في رفضها التوقيع على اتفاقية كيوتو وغيرها التي تدعو لتخفيض انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون من الأرض (تتمثل قوتها المطلقة في تدمير كوكب الأرض).
ـ تنصرف في الداخل كقوة مطلقة وقامعة لأي تحرك يكبحها من أداء مهامها (كابحة الصحافة ووسائل الإعلام, وانتشار الثقافة الاجتماعية..), وتحوّل المؤسسات الدستورية إلى مؤسسات صورية, وهذا ما لاحظناه بوضوح خلال أزمة العراق.
ـ عندما يبلغ الحد مصالحها تفقد صوابها ولا تستطيع أية مؤسسة (داخلية أو عالمية) كبحها.
ـ تلجأ إلى العنف والقوة بسرعة لا مثيل له في تاريخ الأزمات, والسبب لا توجد قوة حقيقية قادرة على ردعها, وهذا مؤشر على استحواذها على السلطة بشكل توليتاري.
رغم ذلك فإن المصير البائس الذي تتعرض له سلطة واشنطن لا يختلف عن أي مصير سلطة سقطت في التاريخ, والآن هي تحصد ما زرعت.
---------------------------------
المراجع:
(1) ـ مايكل هاردت, انطونيو نيغري ـ الإمبراطورية, ترجمة فاضل جتكر مكتبة العبيكان, الرياض, طبعة أولى, 2002/ص249.
(2) ـ آلان نيفينز وهنري ستيل كوماجر, موجز تاريخ الولايات المتحدة, ترجمة محمد بدر الدين خليل, دار المعارف, القاهرة, ص65.
(3) ـ مايكل هاردت, المصدر السابق نفسه, ص 306.
(4) ـ مايكل هاردت, المصدر السابق نفسه, ص 306.
(5) ـ بول كنيدي, نشوء وسقوط القوى العظمى, ترجمة مالك البديري.
(6) ـ بول كنيدي, المصدر السابق نفسه/ ص 809.
(7) ـ بول كنيدي, المصدر السابق نفسه/ ص 22.
(8) جريدة الحياة ـ العدد /14479/.