الجزء الثاني والأخير من الدراسة ممتازة للدكتور أسد محمد للذي يقارن بين المشروعين الإمبراطوريين لروما وواشنطن. إليكم هذا الجدول الذي يبين بعض المقاربات الزمنية بين التحولات في سلطتي روما وأمريكا:
تأسيس روما 753ق.م
اكتشاف أمريكا 1492م
ـ قيام الجمهورية بعد 244 سنة من التأسيس ـ استقلال أمريكا وقيام الجمهورية بعد 284 سنة من الاكتشاف
ـ بعد 489 سنة بدأ التوسع وضم قرطاج
ـ بعد 308 سنوات بدأ التوسع وضم تكساس من المكسيك
ـ بعد 710 سنوات قامت حرب أهلية داخلية
ـ بعد 381 سنة قامت حرب أهلية أمريكية بين الشمال والجنوب
ـ بعد 726 قامت الإمبراطورية
ـ بعد 421 سنة بلغ التوسع الإمبريالي أوجه
ـ انهارت روما بعد 1229 سنة من تأسيسها وانهارت بيزنطة بعد 2206 سنة على تأسيس روما وكان انقسامها بعد 1148 سنة
ـ بعد 488 سنة انشطرت أمريكا إلى ثلاثة عواصم: عسكرية،مالية، معرفية.
ماذا يمكن أن نستنتج من هذه المقارنة؟
1 ـ احتاجت روما كي تقيم جمهوريتها وتحقيق الثروة اللازمة لذلك إلى 244 سنة وتميزت تلك الفترة بطرد الاترسكانيين ثم استغلال عنيف للمزارعين والعبيد والمحاربين, واحتاجت أمريكا تقريباً إلى نفس القوة الزمنية حيث قامت بإبادة السكان الأصليين واستقدام العبيد واستغلالهم, فبنية التأسيس متشابهة واحتاجت إلى المدة نفسها كونهما اعتمدا على الزراعة.
2 ـ احتاجت روما إلى التمكن من الانطلاق إلى خارج حدودها إلى 479 سنة, بينما التطور التقني وأدوات الجيش من سفن ومدافع وأسلحة متطورة قلص الفترة الزمنية لانطلاقة أمريكا إلى 180 سنة.
3 ـ بدأت الحرب الأهلية بعد وصول التوسع إلى مرحلة حرجة وحدوث انقسام مجتمعي أدى إلى حرب أهلية احتاج إلى 710 سنوات, بينما الحرب الأهلية حدثت بعد 421 سنة بفارق 289 سنة, حيث التسارع في إنتاج الثروة أكثر والانقسام الطبقي أسرع الذي أدى إلى تغييرات في البناء الاقتصادي للسلطة باتجاه التمركز وإحكام السيطرة والانتقال إلى مرحلة يكون عنوانها العريض ـ التحكم ـ والقدرة على ضبط إنتاجية المجتمع, لذا كانت الفترة أقصر.
4 ـ بعد الحرب الأهلية الرومانية ـ انهارت الجمهورية وولدت من رحم الصراع الإمبراطورية على يد أول إمبراطور ـ أوغسطس ـ ومع خلاف في التسمية فقط, جلبت الحرب الأهلية الأمريكية إمبراطوراً تحت مسمى جمهوري ـ تيودر روزفلت حيث تحولت الجمهورية ـ ذات المبادىء الانعزالية إلى إمبريالية, لا إلى أرض لمجرد الرغبة التي فشلت أوربا في تحقيق مركزيتها التاريخية كأمة رائدة حضارياً حسب تعبير هيغل, وحتى منطق التحكم الحضاري الذي رآه فيها اليكس دو توكفيل أصبح عبئاً كونياً, لأن التوجه الإمبريالي مَثل نقله مدمرة لأمريكا ووضعها في تناقض داخلي وخارجي وانتقل إليها تشخيص نتشه "أوربا مريضة" لتصبح "أمريكا أكثر مرضاً" حسب تشخيص بول كنيدي (على صناع القرار في واشنطن أن يواجهوا ويتحملوا حقيقة أن مجموع المصالح والالتزامات الكونية لأمريكا أصبحت اليوم أكبر بكثير مما بوسع البلد الدفاع عنها جميعاً في وقت واحد)(5).
ويلخص وضع الدول التي كانت رقم واحد وأستطيع الإضافة بثقة والدول الساعية لأن تكون رقم واحد لها نفس المصير.
(مصير البلدان "رقم واحد" السابقة هو التورط بأنه بينما كانت قوتها الاقتصادية في طور الانحطاط, اضطرتها التحديات الخارجية المتعاظمة إلى تخصيص مزيد من مصادرها للقطاع العسكري, وهذا ما يضغط بدوره على الاستثمار الإنتاجي، فيفضي بذلك على مدى الزمن إلى تخفيض النمو ورفع الضرائب واحتداد النزاعات الداخلية بشأن أولويات الإنفاق مع إضعاف القدرة على تحمل أعباء الدفاع)(6).
5 ـ انسجاماً مع قول بول كنيدي الأخير واتضاح الرؤيا بالنسبة لبنية الإمبراطوريات من صعود وهبوط وإن كنت ضد فكرة المبدأ الدوري: بداية ـ قمة ـ نهاية والذي دعمه بوليبوس وتيوسيديد وتاسيتوس, فإن الواقع يؤطر لحالة منطقية في قراءة نظام الإمبراطوريات وبنيتها, التعمق في تناولها تحليلاً ودراسة ووضعها في مختبر القراءة المعاصرة كي نتخلص من حالة الانهيار, ونتخلص من الثايكية ـ الحظ والقدر في أمور لم تعد تحتمل المغامرة, وإن استفادت روما من لعبة اللامركزية في الإدارة وتسهيل حكم الأطراف عبر مؤسسات ليبرالية كما نسميها نحن بلغة اليوم, فقد منحت الإمبراطورية عمراً أطول بلغ 1229 سنة بتحقيقها نوعاً من التوازن بين القوة العسكرية والثروة (الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية والقوة العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها)(7).
هذه الليبرالية كحالة تناظرية مع الليبرالية الأمريكية أطلقت بوضوح في عهد ريغان وأفضت إلى نظام سوق حر ـ الخصخصة , وانطلاقة مفتوحة للشركات المتعددة الجنسيات كوسيلة لفتح ثغرة أمام التشكل الإمبراطوري وانطلاقة جديدة, أدت خلال عقد من الزمن إلى ولادة انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم, وهي الآن ليست في موقع التحكم, كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية, وتعاني من عجوزات في تبادلها التجاري (مع الصين 83 مليار دولار, ومع اليابان 86 مليار دولار, ومع أوربا 60 مليار دولار, وينتقل فائضها التجاري في مجال التكنولوجيا العالمية من 35 مليار عام 1990 ليصبح سلبياً في كانون الثاني 2002)(8).
أصبح من الواضح أن الطموح الإمبراطوري برمته دخل في نفق رسمه المؤلف عمانوئيل تود في عمل "بعد الإمبراطورية: قراءة في تفكك النظام الأمريكي" الذي كشف فيه بالأرقام عن واقع أمريكا ويبّن افتقارها لمقومات القوى العظمى, فهي تنتج حالياً 22% من ناتج الدخل الإجمالي العالمي وتشكل الخدمات 75% من الناتج القومي الأمريكي, وهي تدخل في المحاسبة القومية ولا تدخل في المحاسبة العالمية, وبات الناتج الصناعي أدنى من الناتج الأوربي بقليل وأعلى بقليل من الناتج الياباني بعدما كان بعد الحرب نصف الإنتاج العالمي, وأصبح الميزان التجاري سالباً منذ مطلع السبعينات بعدما كان موجباً حتى نهاية ستينات القرن الماضي.
ارتفع العجز التجاري من 100 مليار عام 1990 إلى 450 مليار عام 2000 ولا يمثل بند النفط في هذا العجز سوى 80 مليار دولار.
إذن الكلام واضح عن الحال الذي وصلت إليه سلطة واشنطن, والسقوط الهادىء الذي تترجمه لأرقام تكشف عن عمق الأزمة التي تمر بها, وعلى العالم أجمع التعامل معه, لا وفق مصالحه الذاتية, وإنما وفق مصالح كونية, وهذا ممكن جداً, وعلينا أخذ العبر.
------------------------------------------------------------------
المراجع:
(1) ـ مايكل هاردت, انطونيو نيغري ـ الإمبراطورية, ترجمة فاضل جتكر مكتبة العبيكان, الرياض, طبعة أولى, 2002/ص249.
(2) ـ آلان نيفينز وهنري ستيل كوماجر, موجز تاريخ الولايات المتحدة, ترجمة محمد بدر الدين خليل, دار المعارف, القاهرة, ص65.
(3) ـ مايكل هاردت, المصدر السابق نفسه, ص 306.
(4) ـ مايكل هاردت, المصدر السابق نفسه, ص 306.
(5) ـ بول كنيدي, نشوء وسقوط القوى العظمى, ترجمة مالك البديري.
(6) ـ بول كنيدي, المصدر السابق نفسه/ ص 809.
(7) ـ بول كنيدي, المصدر السابق نفسه/ ص 22.
(8) جريدة الحياة ـ العدد /14479/.