الخبر الذي أوردته صحيفة (الوفاق) الإلكترونية –المحجوبة- أفاد بأن مواجهة دامية وقعت بالمدينة المنورة بين قوات الأمن وموظفي (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من جهة، وبين بضع عشرة شاباً متبرجين كالنساء يمارسون الرقص بطريقة (مثيرة) في الشارع المعروف بـ(سلطانة) والذي يعرفه آخرون كذلك بشارع (باريس) كما ذكرت الصحيفة. سأتجاوز المأساة الشخصية التي تعرّض لها أربعة من رجال الهيئة أصيبوا بشكل بالغ لأركز على المأساة العامة التي تمثلها الحادثة ككل. وسأفاجئ الجميع حتماً حين أوجه أصابع اللوم إلى آخرين لم يكونوا حاضرين في مشهد الجريمة بالضرورة. فريق من الداعين للخير كما يبدو.. بعضهم يعلن تشرفه بخدمة الحجيج.. بعضهم يعيش على صدى النهوض باقتصاد البلد.. وآخرون ينتمون لتنظيمات قريبة الصلة بـ (الهيئة) ذاتها.. يعملون تحت شعار محاربة (البدعة). سأخص كل أولئك بالقسط الأكبر من المسؤولية في هذا الحادث المنفرد الذي يعبر بعمق بالغ عن مأساة هذا الجيل.
فالاستهجان الذي قابل به الرأي العام ثمة مواجهة له ما يبرره في قواميس الدين والتقاليد والغزو الفكري والخصوصية التليدة. وإذا كان التخنث في الشوارع والتعدي على رجال الأمن يتضاربان بفجاجة مع كل تلك المرجعيات على عظمتها على امتداد الخارطة السعودية، فإن حصول ذلك في إحدى المدينتين المقدستين بالذات ينتقل بالقضية لمنحى مختلف تماماً. فهنالك يقرر ابن عباس بأن انتواء المعصية إثم.. وهنالك تخلع عبارات من قبيل "مهبط الوحي" و "أرض الحرمين" عنها ردائها المجازي الفضفاض لتنتصب حقيقية شامخة في قلب الواقع والتاريخ.
المدينتان المقدسان أضحتا اليوم محض مزاد عقاري هائل.. تكلل أُفقه –إلى حين- منارات أعظم مسجدين على الأرض. وباستثناء مبنيي الحرمين الشريفين اللذين قد لا ينظر لهما البعض منا إلا كمفخرتين في مجال المقاولات، فإنه قد تم تفريغ المشهد الحضري والعمراني بمكة والمدينة من كامل المعاني التاريخية اللتان تحملانها وتشكلان الخصوصية الأصيلة التي منها يستمد كل ذي خصوصية مدداً.
الشكوى من تبخر الموروث الثقافي مكرورة بين حواضر إسلامية كثيرة. و ذلك (التفريغ) وإن يكن حاصلاً في كل أنحاء الجزيرة التي قفزت بها بغتة براميل النفط و (دبّات) الغاز قروناً في المقياس الحضاري.. إلا أنه يظل مخزياً حين يتعلق بقلبي حضارة الإسلام ذاته. ويتضاعف الخزي مرات حين نتذكر كيف أننا بأيدينا نحن خلقنا تلك الفجوة في الموروث التاريخي التي يسعى الراقصون في الشوارع لملئها بما عندهم.
خلال أعوام كثيرة سابقة توالت صيحات الغيورين على الشخصية التاريخية لعواصم الإسلام الأولى. أولئك الذين شهدوا بأعينهم إزالة تدريجية متوالية لبعض أهم المواقع الأثرية والتاريخية لشواهد الإسلام والخلافة الأولى في مكة والمدينة تحت ذرائع كثيرة كان أبرزها قلة علم زوار تلك الديار وجهلهم بالطرق الصحيحة لتقدير هذه الآثار. القائمون على طمس الشخصية التاريخية للمدينتين المقدستين وإن كانت تحركهم نوايا حسنة، إلا أنهم تعمدوا إغفال الاستماع للصوت الآخر الذي حذر من عواقب هذا الحل الراديكالي في مواجهة (البدعة) الناجمة عن الجهل وقلة العلم. والمتحمسون لنسف شواهد التاريخ استسهلوا إزالة المباني والأحجار في مقابل مسيرة مطولة لتنوير العقول والقلوب كانوا الأجدر بتبنيها وفق رسالتهم المعلنة في الحياة. ربما لم تعد ثمة أحجار وجدران يربط المبتدعون عندها خيوطهم.. هؤلاء يعودون لديارهم خائبين ربما إنما محملين بذات الجهل وذات البدع ليبحثوا حيث جاؤا عن قبر أو شجرة يكملون عندها شعائر جهلهم التي لم يكترث بتقويمها بقدر ما عني بتفاديها أحد.
الضحايا الحقيقيون لحملة مساواة التاريخ بالتراب هم أبناء هذا الوطن بلا شك. وأكثر من يعيش مرارة هذا الفقد وإن لم يستشعرها مباشرة هم أجيال من أبناء مكة والمدينة الذين فتحوا أعينهم على حاضرتين إسلاميتين يقرأوون عنها.. لو كانوا يقرأوون.. دون أن يعوا حقيقة أنهم يعيشون بين جنباتها. ودون أن يربطهم بمعاني العظمة فيها سوى كلام مكرور في كتب مغبرة ربما تغلبت عنها في الجودة والفاعلية بضع (بروشورات) سياحية لـ (حواضر) عالمية أخرى!
حين تكلم رجال مثل المهندس (سامي عنقاوي) عن المأساة التي تعيشها المدينتان من النواحي الإنسانية والهندسية كذلك.. حين ذكر بأنه لم يبق قائماً بمكة سوى الكعبة وغار حراء الذي تتناثر حوله علب (البيبسي) وأكياس (الفشار) عدّه البعض متذاكياً باحثاً عن الشهرة. وحين يتراقص شباب في ثياب النساء في شوارع طيبة فإن الملام هنا ليس غزواً غربياً بالضرورة بقدر ماهو تهافت شرقي عن الحفاظ على الهوية الحضارية بحجج هي أقبح من الذنب.
البضع عشرة شاباً الذين ارتكبوا فعلاً صادماً.. فردياً ربما.. يبعثون لنا برسالة مفادها أنهم.. وكثيرون سواهم.. ما عادو يستشعرون قدسية الأرض التي يمشون عليها. ونسبتهم للشارع الذي يحمل رسمياً اسم (طريق أبي بكر الصديق) لـ (باريس) ليس سوى امتداد للجو الملبد الجديد الذي بات يغلف مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. جو (كنتاكي) و (هيلتون) و (ستاربكس). جو ناطحات السحاب الرخامية إذ تخنق امتداد المنارات والخدمة الفندقية الفائقة. جو مكائن الصرف الآلي والجسور التي تنتصب حيث كانت مواقع تاريخية تعرف عنها قلقة قليلة آخذة بالإنقراض.
خدمة الحاج.. والاستمساك بعقيدة سليمة.. نريدها أن تظل دوماً شرفاً لنا. لا نريد أن نلوي أعناقها ونجعلها أهدافاً نستجلب بها لعنات الأجيال القادمة التي لن تبقى لها سوى أبراج فارهة وماركات عالمية. والتذكير بالأثر البشع الذي يخلفه هدم معالم هويتنا المتجذرة في التاريخ قد لا يكون دموياً صادماً على النحو الذي كانه في شارع (باريس) المدني بالضرورة. الخلل سيتراكم على نحو أبطأ بكثير وأخفى بدون أن يُلاحظ مرة واحدة.. والويل لنا إن لم نقطع عليه طريقه.