معظم الكلمات تكون فارغةً تماماً من معناها إن لم تُقل في وقتها، لكن الصمت يبقى دائما فضيلة عندما تبلغ حادثات الأيام درجة من العبث والفوضى والاضطراب تصبح معها الكلمة سلاحًا شديد الخطورة، صلى الله على المعلم الأعظم الذي أشار الى ذلك بحديث ورد في كتاب "مجموع الاربعين أربعين" * ص278 قال فيه : " ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف" رواه أبو داوود عن أبي هريرة، وفي روايات أخرى "ستكون فتن".
انتظرت لأكتب هذه الكلمات بعد هدوء العاصفة، لأنها ربما زادت الطين بلة والفتنة اشتعالا ً أو لعلها كانت قد ذهبت أدراج الرياح لو كُتبت أوان الفتنة التي كادت تعمي وتصم، بل لقد أعمت وأصمت لولا أن الله لطف وقدّر! فتنة اضطر فيها الجميع أن يدلوا بدلائهم في موضوع الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر أن وقع في أكثر من بلد مسلم قتلى وجرحى حرمة كل منهم عند الله أعظم من حرمة الكعبة المشرفة نفسها!
كانت تصلني كل يوم عشرات الرسائل الالكترونية التي تدعو إلى مقاطعة المنتجات الدانماركية، وعشرات أخرى تطفح بالسباب والشتائم والدعاء على الغرب الكافر عدو الاسلام والمسلمين! وعشرات أخرى تكيل لي السباب كذلك لأنني التزمت الصمت ولم أدل بدلوي في الموضوع، ومجموعة رابعة تعنفني إن لم أخرج في الفضائيات لأشن هجوما على هذه الدول الغربية المترصدة أبدًا للتآمر على أهل الاسلام ودينهم وعقيدتهم، وماذلك حسب رأي تلك الرسائل إلا لأنني تحولت إلى كاتبة مرتزقة تعيش عالة على الغرب الكافر! ماكنت أظن أنني من الشخصيات البالغة الأهمية إلى هذه الدرجة حتى أن البعض أرسل يقول أنني ان لم أتصد لهذه الرسوم الكاريكاتورية بكلمة حق فان عليّ أن أتوب الى الله لانني من المارقين !
لاشك بأن الفتنة كانت عظيمة، وأن الرسومات التي أساءت الى الرسول الأعظم كانت بحاجة إلى ردّ مناسب، وأن من حق الأمة الاسلامية أن تعلن أن السيل كان قد بلغ الزبى في قدرتها على تحمل هذا المسلسل من الإهانات المتلاحقة إلى درجة لم يعد معها بالامكان احتمال المزيد من الهوان والصمت، ولكن المعضلة لم تكن في تحرك الأمة للرد على الاهانات ولكن في الملابسات التي صاحبت هذا الرد على كل المستويات السياسية والدينية، وكان هذا وحده جديرا بأن يلتزم الفرد العادي منا الصمت بانتظار دورٍٍٍ ايجابي يقدمه لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
جهاد الكتروني سلبي ومجاني
تساءلت يومها: من أين يأتي شبابنا بكل الوقت الكافي ليرسلوا هذا السيل العرم من الرسائل الالكترونية؟! والأدهى أنهم كانوا يعتقدون جازمين أنهم إنما ينصرون رسول الله بهذه الحملات الالكترونية! والأعظم من ذلك أنهم كانوا في حالة من الهيجان النفسي الجماعي لا تقبل فيها نصيحة ولا كلمة ولا أي موقف يتعارض أدنى معارضة مع حملاتهم الجهادية الالكترونية المجانية تلك! ماأسهل هذا الجهاد وماأرخصه ؟ جهاد الجالسين خلف أجهزة الكومبيوتر في طول العالم وعرضه يرسلون الرسائل ويعيدون إرسالها ويكررون ذلك دون كلل ولاملل، جهاد الكتروني سلبي لا إنتاج فيه ولا إبداع ولا مساهمة جديدة مبتكرة في أي مجال من مجالات الدعوة، لأنه جهاد لايبذل فيه أي عناء أو جهد حقيقي، لا نفسي ولا فكري ولا معنوي ولا مادي.
كنت أتساءل وأنا أرى هذا الفتح الإلكتروني غير المبين؟ كم هي نسبة القادرين من هؤلاء الشباب على التزام قول واحد من أقوال رسول الله ؟ كم هي نسبة المستعدين لتغير سلوك واحد من سلوكياتهم الاجتماعية إرضاء لرسول الله ؟ كم هي نسبة أولئك الذين يتمتعون بالجاهزية الكافية لإحياء سنة واحدة من هاتيك السنن التي نسيتها الأمة في غمرة ضياعها في متاهات التقاليد الاجتماعية العفنة وانغماسها في دياجير الشهوات المتأججة؟ في الجواب على هذه الأسئلة الثلاث تكمن كل تطلعاتنا لسبر حقيقي لقدرة شباب الأمة على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل لا بالقول، وبالحياة لا بالموات، وفي الواقع لا في عوالم الكومبيوترالبعيدة في كثير من الأحيان عن الواقع وأهله.
لكن الأمر لم يقف عند قضية هذا النوع من العبث الالكتروني ولكنه تعداه إلى إنفاق هائل للأموال في بعض بلاد المسلمين على المطبوعات والدعوات واستصراخ الهمم النائمات لإحياء الحفلات الإنشادية والمهرجانات الخطابية والدعوات إلى المقاطعة، وكنت قد دعيت إلى مؤتمر في أحد دول الخليج فذهلت بأكوام القمامة التي تجمعت من أوراق لاتعد ولاتحصى، طبعت بأفخر أنواع الورق لنصرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ثم رميت في الشوارع وديست بالاقدام وذهبت أدراج الرياح مع عشرات الآلاف من الملايين من أموال الأمة التي تهدر في نشاطات لا تسمن ولا تغني لا من جوع ولامن قهر ولامن غضب، دون أن يفكر احد في استغلال هذه الأموال المهدورة في أعمال ومشروعات حقيقية إيجابية بناءة تسهم في نصرة القضايا التي تُهدر الأموال في الدعاية الغوغائية لها دون أدنى فائدة ترجى.
هَبَّة مخلصة ولكنها تفتقر إلى الصواب والمنطق
منذ شاء الله أن أترك الكتابة في الصحف القطرية القومية التي توفر للكاتب رقعة هائلة من الحرية في أيامنا هذه, وأنا لاأكتب بشكل دوري ولاأدلي بقلمي إلا في الأمور الجلل التي لاينفع معها صمت والتي يعتبر معها الصمت جبنًا وانسحابًا من ساحة الفكر والقلم ومن معارك الحوار والسجال. ساحات الحرية والصدق في عوالم الصحافة العربية ضيقة قليلة جدًا‘ وفي ساحات الصحافة الإسلامية نادرة ندرة الكبريت الأحمر!
لكنني تعمدت أن لا أكتب وأن لا أخوض في حينه في موضوع الرسوم الكاريكاتورية التي أساءت للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل لقد عزمت على أن لا أكتب في هذا الموضوع إلا بعد هدوء العاصفة، لأنها لم تكن -من وجهة نظري الشخصية المتواضعة- عاصفة خير، لسبب بسيط هو أنها -وإن عرفنا فيها إخلاص النية- لم تكن صائبة التوجهات، ولامنطقية الأسلوب ولا منضبطة الهدف، ولم يكن فيها كثير حكمة ولا حسن سياسة.
لكن الله أبى إلا أن ينصر رسوله ودينه ولو أسأنا التصرف من حيث ندري أو لاندري! توجهت هذه العاصفة بفضل الله وحده استجابة لمحبة المسلمين نبيهم نحو صحارى هواننا ووهننا، فحركت تلك الرمال الهامدة منذ عقود متطاولة وهزتها عنيفًا، وإن لم نستطع للأسف أن نستغلها بالقدر الكافي لإزاحتها عن وجه حاضرنا الكئيب الذي كتب علينا أن نعيشه.
لقد نصر الله نبيه ولكن ليس بحسن تصرف قياداتنا السياسية ولا الدينية، ونصر دينه ولكن ليس بجهودنا الفوضوية العاطفية، طوفان هائل ضرب كبراؤنا بمعاول "الفرصة المواتية" في أسس السد الذي يحجزه فانطلق الطوفان دون هدف واضح ولا خطة مرسومة ولا وعي ولافهم لدقائق المرحلة التاريخية التي نعيش ولاملابسات العلاقات الدولية التي تحيط بنا اليوم، فتدخلت يدّ العناية الالهية لتوجيه هذا الطوفان ليصب حيث كان يجب أن يصب _ ولله الحمد_ في مجال الإعلام الموجه نحو الغرب، الإعلام القادر على حمل رسائل النور والحق والمنطق، الرسائل التي عجزنا دهورًا عن حملها حتى جاءت هذه العاصفة فأيقظت البصائر لتقوم بالدور الواجب عليها القيام به. أيقظتها على هامش تلك الدعوات الغريبة التي كان يطلقها بعض علمائنا في الفضائيات التي فتحت لهم مصاريعها تريد أن تختبر في هذه "الفزعة" قدرة علماء الأمة على تحريك الأمة، لكن القاصي والداني اكتشفوا أن معظم علماء الامة ليسوا بقادرين على تحريك هذه الامة دون إذن أولياء أمورهم وأمور الامة !
لم يكن ماشهده العالم معبرًا صادقًا عن قدرة العلماء على التحريك‘ بقدر ما كان تعبيرًا جماعيًا للأمة عن نصرتها لرسولها صلى الله عليه وسلم ونيتها الصادقة في الدفاع عن مقامه الكريم العظيم، ولكنها قدمت على هامش هذه الانتفاضة فضيحة العالِم عندما يوالي الحاكم لتحقيق مصلحة الحاكم من خلال استغلال كل هذا الحجم الهائل والمذهل من عواطف المسلمين تجاه حبيبهم ونبيهم ورسولهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم!.
عجائب!
عجبت أول الامر أن هزت تلك الرسوم الكاريكاتورية علماء الأمة هذه الهزة العظمى دون أن يحركوا ساكنًا وقد أهين القرآن الكريم نفسه _قبل أسابيع من تاريخ فتح ملف الرسوم الكاريكاتورية_ أبلغ إهانة في "غوانتانمو" !
عجبت أن خرجوا بأصوات جهيرة يهزون المنابر والفضائيات وكانت صور الدماء النازفة في فلسطين لاتحرك في كثير منهم ساكنًا، حتى أنني كتبت في أول الانتفاضة رسالة مفتوحة تحت عنوان "فلسطين ..أيها الأئمة" نشرتها صحيفة الشرق القطرية، أذّكِر فيها الأئمة بالدعاء لفلسطين وبعضهم كان يشتد بالدعاء للشيشان والكشمير والشمال والجنوب والأبيض والأسود وكان لا يذكر فلسطين ومايجري فيها بحرف واحد – في حينه - !
عجبت أن صور انتهاك أعراض النساء والرجال في أبو غريب لم تصب علماء الأمة بانتفاضة مزلزلة ضد أنفسهم وواقعهم العفن المرّ الكئيب، وواقع الأمة المغتصب عرضها على مرأى ومسمع من العالم !
عجبت أن بلغ الغضب الإعلامي بمعظم علمائنا كل مبلغ بسبب تلك الرسوم القبيحة المتعدية على مقام الرسول الأعظم بينما لم يأبه واحد منهم بكل السباب والشتائم والإهانات التي كان يتعرض اليها مقام الرسول الأعظم في معظم بلاد العرب والمسلمين من قبل السلطات السياسية القمعية مرة ومن قبل المجتمعات الجاهلية البعيدة كل البعد عن روح الإسلام العظيم وتعاليم نبيه ألف مرة، أمة تَنتهك كل يوم كل تعاليم الرسول الأعظم في سلوكيات معظم أفرادها المغرقة في البعد عن أخلاق الرسول، وفي عاداتها الاجتماعية والأسرية القميئة، وتقاليدها الجاهلية وطريقة تفكيرها، دون أن يجرؤ أحد من هؤلاء العلماء – إلا القلة النادرة جدا- على وقف هذا الانتهاك ورد الأمور الى نصابها.
عجبت وعجبت، حتى أنني كنت أرد على كل رسالة الكترونية أتتني بهذا الصدد بعبارة واحدة فقط: "ليتنا نلتزم سنة واحدة من سننه صلى الله عليه وسلم، ليتنا نحْيِي في أنفسنا كلمة واحدة من أقواله، فداه أرواحنا وأولادنا ومانملك"!.
* تأليف المحدث الكبير الشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني