حقاً. ما الفائدة المرجوة من كدح الثانوية العامة. دعك من كل السنين التي يمضيها التلميذ أسيراً لمقعد الدراسة؟
لا تُسمعوني رجاءاً موشحات حول قيمة (العِلم) وأحلام (الجامعة)، ولا تُدخلوني في متاهات سوق العمل واقتصاد المعلوماتية. الواقع يثبت –ببرود- يا سادة أن كل هذه ليست سوى تفاصيل نكتة سيئة. جداً.
لأولئك الذين تخرجوا في المدرسة خلال السنتين الأخيرتين أوجه الأسئلة التالية: ماهي (السُفتجة)؟ عرّف (الضغط الأسموزي). هل تذكر الفرق بين (الجِناس) و (الطباق)؟ طيّب. كيف تحسب مساحة المخروط. عند المالانهاية؟
أضحوكة التعليم في هذا البلد هي امتداد لأضحوكته في العالم العربي، الذي هو جزء أصيل من العالم الثالث المتخلف. نكبتنا في النظام التعليمي هي أساس نكبة الأمة التي ما تزال تعيش تفاصيل عصر الانحطاط. نحن نفني زهرة سنوات أبنائنا وبناتنا كي نعلمهم. اللاشيء! حتى القيمة النظرية للعلم الصرف الذي يتلقونه تتكفل أساليب تقييم عقيمة وتفاصيل حياة يومية لا تنتمي للعصر ولا للمقرر كي تحول كل ذلك إلى محض عبث. ما نسميه (علماً) هو بالنسبة لهم مجرد نصوص وأرقام يقومون بحشوها بين تلافيف أدمغتهم لكي يتقيأوها لاحقاً على ورقة الإجابة أو أمام موجّه الوزارة الفخور و. "شاطر صفقوا له"!
أولئك الفتية والفتيات الغير معنيون بحرق خلايا أمخاخهم مقابل نجمة على الكرّاس أو شيء من التصفيق هل نلومهم؟ أليس من العار أن تختزل الشخصية الإنسانية الغضة في حفنة من الدرجات ومقعد في الصف الأول من الفصل؟
* * *
ما الفرق بين (الأيون) و (الفوتون) ولأيهما ينتمي (البوزترون)؟ أين توجد متكونات (البوكسايت) في المملكة؟ ماهي زكاة 312 من البقر؟
* * *
ما المطلوب من النظام المدرسي أصلاً؟ عند البعض فليس أكثر من إبقاء كل هؤلاء الصبية والفتيات بعيداً عن المنزل. وبعيداً عن مشاكل الشوارع أيضاً.
هل هذه مهمة تتطلب وزيراً ووزارة؟ وجيشاً من المعلمين والمعلمات (المؤهلين) تأهيلاً عالياً كـ (مُربين للأجيال)؟
البعض سيقول كلاماً كبيراً عن الشباب الذين هم أمل (الأمة)، وعن العلم الذي يرفع بيتاً بلا عماد. البعض سيسمعنا كلاماً مطولاً حول (صراع الحضارات)، واستراتيجيات التنمية، وتنافسية سوق العولمة الذي لايرحم. هذا كله كلام جميل ومهم. لكن أسألكم بالله أن تزوروا أي مدرسة عشوائية في الجوار. أو تجالسوا أحد تلاميذيها. فقط إسألوه: "ماهي العولمة. يا شاطر؟".
* * *
كم تبلغ مساحة (بوليفيا)؟ وكم عدد سكان (النمسا)؟ طيّب تكلم عن العلاقات المميزة بين المملكة و (تشاد).
* * *
لماذا يطيل هذا المقال في المفروغ منه؟ أليست سنوات المدرسة الإثنتا عشرة تأهيلاً ضرورياً للتلميذ كي يتمكن الالتحاق بالجامعة ويواصل تعليمه العالي؟ حتى أولئك الذين (يختارون) ألا يسلكوا الطريق الجامعي فإن الشهادة الثانوية تضمن لهم عشرات خيارات تطوير الذات والعيش الكريم.وفقاً للنظرية التي يأبى أن يطاوعها الواقع.
هذا كلام لايقل جمالاً عن سابقه. لكنه يستوجب وقفة صغيرة.
لماذا إذاً تصر الكليّات المحترمة على إدراج سنة (تحضيرية) كاملة يدرس فيها الطالب كل ما تلقاه في سنته المدرسية الأخيرة مرة أخرى؟ مجرد إنعاش للذاكرة تقولون؟ لماذا إذاً يُفاجأ المدرسون بأن الطالب يتعامل مع هذه المادة (المكررة) وكأنه يتلقاها لأول مرة في حياته؟ لماذا يشتكي أعضاء هيئات التدريس في كل الجامعات السعودية حتى تلك ذات الصيت المدوي منها بأن مستوى الطلاب الجدد منحدر؟ وأنه يضطرهم للنزول إليه والركوع على ركبهم كي يتواصلوا مع الطالب الذي هو قلب وروح العملية التعليمية كما يقال؟!
لا أدري إن كان الوضع هو نفسه مع كليات المجتمع والتقنية ومعاهد الدبلوم والتجارة والقضاء؟ لكنني متأكد من أمر واحد: وهو أن الطالب الموهوب (الحفّيظ) لا يضع أياً من هذه الخيارات في أجندته أصلاً. مع أن الدولة تنفق على خططها المليارات. هو يتعامل معها كبدائل احتياطية ويكدح في المدرسة ليحصد مجموعاً يؤهله لأن يصبح طبيباً، فإن لم يستطع فمهندساً، فإن لم يستطع فمديراً، فإن لم يستطع فمعلماً. وذلك أضعف الإيمان!
* * *
أعطني مثالاً عن (الجوفمعويات). من هو (طاهر زمخشري) وما أبرز اختراعاته؟ ماهو (بيع النجش) وما علاقته بـ (النجاشي) ملك الحبشة؟ أو تراه كان ملكاً على خراسان؟ بالمناسبة. أين تقع خراسان؟
* * *
هذه الأيام وفيما التلاميذ يُثبِتون وجوههم بالكتب و (الملخصات) ليحفظوا إجابات الأسئلة يبرز السؤال الأعظم: ماذا بعد؟ أليس من سبيل كي يحيى أحدنا حياة عادية. يؤسس أسرة ويحظى بوظيفة سوى أن يعيش كابوس الثانوية المقيت؟ أن يضيع أهم وأغلى ثمانية عشر عاماً من عمره في اللاشيء. في حفظ أكوام من المعلومات التي لاتثبت في نفسه قيمة سوى عبثية العلم!
أليس من سبيل لاستغلال هذه السنوات الثمينة كي يكتشف كل منا ماذا يحب أن يكون؟ ثم ليكرسها كي يبدع فيما يحب بدلاً من أن يأخذ جولة سريعة على كل علوم الأرض ثم لا يفقه من أي منها شيئاً؟
ما ذنب وزارة التعليم إذا كانت المقررات لا تنتمي لحياتنا؟ أم أن حياتنا هي التي تستعصي على المقررات؟
لماذا لا تستعيد المدارس تراث الزمن الماضي الجميل. حين كانت –كما يخبرنا الكبار- مصانع للرجال، تركّز على بناء الشخصية وتعليم (الأدب)، لتنجب أجيالاً (فذة) غير مسبوقة موهوبة ومفكرة وصلت بالبلاد لما هي عليه من قمة في التقدم والحضارة والنظام يندر مثيلها بين كل أمم الأرض.
* * *
أترون؟ تاريخ نظامنا المدرسي العتيد لا يمثل سوى تفاصيل نكتة. نكتة سيئة جداً.