المطالبة بالإصلاح في العالم العربي تجعل الحديث عنه والتحذير من مخاطر تأجيله وتبعات الالتفاف عليه يبدو كما لو كان "ظاهرةً عربيةً" وحسب، غير أن حديث الإصلاح والدعوة إلى تحويله من مجرد مطالبات إلى مشروعات يشغل الأوروبيين أيضا، وهذا الحديث في أوروبا يستدعي في كثير من سياقاته وصف "المتعثر". ومشكلة المشروعات الأوروبية الراهنة أنها تنبع من ميراث من المفاهيم التي تجعل الدولة تتجاوز دور الإدارة التي تنظم شئون مواطنيها لتقوم بدلاً من ذلك بدور الراعي الذي يوفر لمواطنيه "الرفاه" بأي وسيلة وإلى جانب المفاهيم هناك ممارسات اعتاد عليها المواطن الأوربي فاعتبرها حقوقاً مكتسبة بل ربما اعتبرها البعض حقوقاً أساسية لا يجوز التنازل عنها، وهذا الإرث المزدوج من المفاهيم والممارسات يثقل كاهل "القارة العجوز" وهي تلهث في منافسة رهيبة مع أمريكا.
روشتة البنك الدولي
وفي مشهد غني بالعبر والمفارقات تقف أوروبا أمام باب "عيادة" البنك الدولي شأنها شأن أية دولة صغيرة من العالم الثالث فيخرج التشخيص مثيرًا للقلق، وفيما يشبه الإنذار يكتب نيك فان براغ مستشار الاتصالات في البنك الدولي لقارة أوروبا ووسط آسيا: "حان الوقت أمام الحكومات الأوروبية للتكيف مع العالم المتحد..ولكن، الحكومات الأوروبية لم تتعلم، إلا فيما ندر"!
ويشير المسئول الدولي إلى أن المصاعب التي واجهتها الحكومة الفرنسية فيما يتعلق بمشكلة قانون عقد العمل الأول أحدث مثال على فشل الحكومات الأوروبية في التوصل إلى إجماع على الإصلاحات المستمرة فالخطأ في معالجة الحكومة الفرنسية للأزمة هو القفز من تحديد المشكلة، وهي ارتفاع نسبة البطالة بين صفوف الشباب، إلى البحث عن حل للمشكلة مثل تسهيل عملية تعيين وفصل العمال الشبان دون تحديد الأسباب. وقد ساهم تراجع رئيس الوزراء الفرنسي عن موقفه إزاء هذه الخطوة الإصلاحية في إضعاف مهمة المصلحين المقبلين في كافة أنحاء أوروبا، التي تراجعت شهيتها للإصلاح بسبب المعارضة القوية التي يلقاها الإصلاحيون في معظم مجالات السياسة العامة تقريباً.
واللغة التي يستخدمها فان براغ تكشف عن تشابه بين المشهدين العربي والأوروبي فهناك: إصلاحات ضرورية وهناك إصلاحيون يطالبون وهناك روشتة من البنك وحكومات عاجزة عن الاستجابة، وربما كان المأزق العربي صدى للمأزق الأوروبي وإن اختلفت درجة حدة المأزق والشعور به.
ويدعو خبير البنك الدولي إلى تكوين أغلبية مستعدة وقادرة على مواجهة أصحاب المصالح المكتسبة أو الطلبة الغاضبين الذين يقاومون تغيير الأوضاع الراهنة، وأيا كان موقفنا العاطفي كعرب من هذه الفكرة وبغض النظر عن تراث التشنيع الذي يمتلئ به الإعلام العربي بحق البنك الدولي فإن الفكرة من الناحية المنطقية صحيحة وقادرة على نزع سلاح المبادرة من أقليات ثورية تفرض على المجتمعات قيودًا في اختياراتها الإصلاحية ويستخدمها لهذا الغرض سياسيون يعارضون الإصلاح سرًا ويتحدثون عنه علنًا وهؤلاء دائما في حاجة إلى "معارضة وطنية" تعادي الإصلاح وتحتج عليه.
الاقتصاد المأوزم
وحسب جيم هولاند المحلل الأمريكي الشهير فإن من بين القضايا التي لا تحظى بتعليقات من جانب السياسيين في العالم النزاع المتوقع بين المصالح الاقتصادية للشباب الذين يبدأون حياتهم العملية وكبار السن الذين يقتربون من سن التقاعد أو يتقاعدون بالفعل، حيث لم يوفر أي مجتمع صناعي تقريبا الإمكانيات لتمويل هذه القضايا وهو الأمر الذي يجب علينا تعلمه من المواجهات التي شهدتها فرنسا وتنبع حسب هوجلاند من تصور أن نظام الرعاية الاجتماعية الكريم وباهظ التكلفة يمكن استمراره للأبد، ويشخص هوجلاند ما يعتبره هو الآخر مرضا أوروبيا هو عدم الثقة في إصلاحات السوق الحرة.
وللمفارقة فإن رئيس وزراء فرنسا دومينيك دو فيلبان تصور أنه يمكنه القيام بشيء لصالح شباب فرنسا عندما أقر البرلمان التغييرات بسرعة وكان هدفه خفض البطالة بين الشباب لكن الشباب توصلوا إلى نتيجة مقتضاها أن ما يفعله فيلبان يحرم الشباب من قوانين حماية العمال المتأصلة بالنسبة لكبار السن.
والمشكلات السكانية ليست سوى وجه من وجوه المشكلة الأوروبية فهناك أيضا فشل اقتصادي تتفاوت درجته من دولة لأخرى وهو السبب الحقيقي في النتائج التي تمخضت عنها الاستفتاءات حول الدستور الأوروبي، والروشتة هذه المرة كتبها واحد من أهم صناع السياسات الاقتصادية الأوروبية، نيلز ثايجيسين (أحد أعضاء لجنة ديلورز التي أسست اليورو، أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة كوبنهاجن أحد أعضاء مجموعة سياسات الاقتصاد الشامل التابعة لمركز دراسات السياسة الأوروبية في بروكسيل) فهو يؤكد أن هناك فشلاً في تحريك مصالح المستهلك لصالح التكامل الأوروبي.
وهو يدق جرس الإنذار مستحضرًا ما ورد في دراسة حديثة قامت بها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من أن مستويات دخل الفرد في منطقة اليورو وضمن ذلك الدول الثلاث الأكبر في أوروبا القارية (فرنسا وألمانيا وإيطاليا) تقل بنسبة 30% تقريباً عن نظيراتها في أمريكا. ومن المرجح أن تزداد هذه الفجوة اتساعا مع ازدياد الصورة الديموغرافية لأوروبا قتامة وإذا استمرت الإنتاجية في النمو على نحو أبطأ من نظيراتها في الدول الصناعية الأخرى.
ويضع نيلز ثايجيسين يده على مؤثر ثقافي كان له مردود واضح على الأداء الاقتصادي وهو استخدام العمالة على نحو أقل كثافة فمعدلات التشغيل تقل في منطقة اليورو عن نظيراتها في أمريكا وساعات العمل أقل إلى حد كبير وهناك من ينظر إلى هذا باعتباره ميزة وليس عيباً، فيرى أنه من الإيجابي أن الأوروبيين يفضلون أوقات الفراغ على العمل!
والفجوة في معدلات التشغيل ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه أوروبا فبداية من منتصف التسعينيات تباطأت معدلات نمو الناتج عن كل ساعة عمل في أغلب الدول الأوروبية بينما ارتفعت في أمريكا، فانقلب بذلك نمط ظل سائداً لعقود وبين عامي 2000 و 2004 ارتفعت معدلات الإنتاجية عن كل ساعة عمل في أمريكا بسرعة تعادل مثلي سرعة ارتفاعها في دول منطقة اليورو (2.8% سنوياً مقابل حوالي 1%).
وعلى عكس الكثير من المسئولين العرب الذين يفضلون إخفاء الحقائق وتجميل الصورة بدعاوى الوطنية والانتماء و. . . لا يجد المسئول الأوروبي حرجًا في أن يعترف بأن تحقيق الغايتين معاً أمر ممكن ليس في أمريكا فحسب بل في دول أخرى متقدمة خارج أوروبا أستراليا وكندا ونيوزيلندا وهذا لا يرجع إلى إنفاق رأس المال بل يفسره خليط من عدة عناصر مهمة، تتضمن النشاط الإبداعي. وعلى ذكر "النشاط الإبداعي وفي إطار المصارحة أيضا أصدرت المفوضية الأوروبية تقريرًا حذر من أن أوروبا لا تزال متأخرة عن أميركا في مجال الابتكار.