لعنة حضارة النفط لم تكن حكراً على أبناء الممالك الصحراوية. (البرميل) الذي اقترن باقتصاديات الخليج وأرقامها الفلكية ارتبط بالتركيبة الشخصية أيضاً. ومفردات الخواء والانتفاخ هذه التصقت بابن النسق الحضاري الفريد الذي انبجس من تلك الأرض مع نوافير الذهب الأسود، على نحو مُتعدٍ تجاوَز محض الانتماء للأراضي والأوطان. (الحالة الخليجية) – إن كان لها أن تُسمى كذلك- بهويتها المبعثرة بين زمانين متداخلين. ليست محصورة بالطرف الشرقي للأمة العربية. هي وإن أفرزتها ظروف اقتصادية وسياسية بالغة الفرادة، إلا أن بُعدها الإنساني انعكس على كامل الخارطة العربية، لأسباب هي في صميم ملابسات تلك (الحالة).
وفي الآن الذي يُنظر فيه لتجربتها الثقافية (أو الإبداعية) بالذات على أنها بالغة الشذوذ والخروج –أو التخلف- عن باقي النص القومي، تُطل الحقيقة المدهشة في المدى الذي تم به نسخ وتصدير عناصر هذه الثقافة من خلال أجيال من الوافدين والمقيمين الذين نشأوا وترعرعوا على أبجدياتها ليشاركوا لاحقاً في بناء منظومتها.. أو ينقلوها معهم لأوطانهم الأصيلة.
بدون الخوض في التفاصيل الجيوسياسية لوحدة الأرض العربية.. وبدون التركيز كذلك على مستويات التفاوت في هذا الشأن عبر ممالك الخليج.. تبرز مسألة الوافد والمقيم العربي في الأرض الخليجية كقضية ديموغرافية قلما تم التطرق لها خارج الإطارات التشريعية؛ تلك المقترنة عادة بمشكلات العمل والإقامة والتجنيس والتنقل عبر الحدود. لكن ثمة جيلا من المغتربين العرب، ينتمي لـ (الحالة الخليجية) هذه، ويعاني أزمات هوية وثقافة فريدة هي الأخرى ومزوية في ظل الهمّ العام.
الأفواج الأولى من المهاجرين إلى صحارى النفط جاء بها الأمل في حياة أفضل. وسواء تعلق الأمر بالهرب من أشباح العوز أو القمع، فقد عملت تلك الأجيال الأولى على أن تكوّن لذواتها وذراريها نوعاً من (الأوطان البديلة) في تلك (المنافي) الاختيارية التي خلقتها الظروف.. والتي فُسّرت دوماً كفرص ذهبية جديرة بالاقتناص! ذلك الوضع يمثل لب أزمة الأجيال اللاحقة من أبناء الغربة التي ألفت نفسها مشتتة الانتماء والهوية بين أوطان أصلية لا تربطها بها سوى ذكريات الآباء والأمهات.. وأوطان بديلة تظل مستعصية على استيعابهم على اعتبار انتفاء شرط (المواطَنة)!
"حين قرر والدي الاغتراب" تكتب العربية المغتربة م. ح. في منتداها الإلكتروني «اختار أن يخرج عن هذا الوطن الذي خيّب بعض ظنه فيه. كنت خلال تلك السنوات أشعر بحالة من انعدام الوزن، واللاهوية، ولا آبه بهوية، ولا تهمني هوية. كنت أتقن بواقع تعايشي مع جنسيات كثيرة، معظم اللهجات العربية السائدة، أتحدث مع المصرية بـالآل والإيل (القال والقيل). وأفخّم الذال مع الإماراتية، أقلبها سوري مع سورية، وفي البيت أتحدث السودانية مع أبوي، والإنجليزية مع الفليبينية ! بت مزيجاً بين كل هذا. ولم تكن تعني لي سودانيتي شيئاً. درست جغرافية الإمارات. وأحفظ كل شبر فيها. ولا أعرف هل (كوستي) في الشرق أو الجنوب. أعرف تاريخ الإمارات. وحين أسمع أبي يذكر أسماء مثل (عثمان دقنه)، والسلطنة الزرقا، أشعر كأني أسمع أسماء ضبابية في عقلي من آثار حديث قديم. لا أعرف من السودان أكثر من الخرطوم بحري. حين أعود إلى السودان، كانوا يظنون أني مصنوعة من فخّار، بنت الإمارات التي قد تنكسر!! لأتلقى المعاملات التي تصنفني كـ (شخصية مهمة جداً). لا بأس أيضاً من بعض السخرية. (بتعرفي القضيم؟) وأنا أشعر بحيرة حقيقة، ماذا يعنون؟! ما تجيبوا ليها دومة، أسنانها بتتكسر، اشتروا ليها (دقّة)! كانت هذه المعاملة تجعلني أشعر بالكثير من الاختلاف والغربة، وأحن إلى غربتي تلك، غريبة هنا، وغريبة هناك، هنا ملكة، وهناك مواطنة من الدرجة الثانية، لعلي كنت أشعر بالراحة في الطائرة بين الغربتين".
النص المقتبس أعلاه يمثل جانباً واحداً بالغ الأهمية من معاناة طيف واسع من الجيل العربي الذي نشأ وتربى في المُغترَب. هي مرارة لا تزول بانقضاء الغربة ولا بتخطي أعوام المراهقة.
كم من سفراء (ثقافة المنفى) هؤلاء يتوزعون على الامتداد العربي، وما وراءه؟ كيف تأثروا بتفاصيل الحياة في المُغترَبات الخليجية؟ وإلى أي مدى هم محملون بآثام تلك الثقافات ومساوئها؟ هل يجدر بنا أن نشركهم في همومنا المتعلقة بنظم التعليم والصحة والتنمية البشرية كونهم يُعدّون، إلى حد ما، شركاء في الوطن؟ هل لهم الحق في أن يلومونا هم كذلك على أوجه قصورنا بتلك المجالات كوننا نمثل إلى حد ما شركاءهم في تنشئة أبنائهم وبناتهم؟
و (ثقافة النفط) التي ظلت دوماً مثار استهجان كحالة طارئة على المشهد الحضاري، هل كُتب عليها أن توسع نطاقها وتفرض ذاتها على الامتداد العربي وما بعده عبر جيل صاعد يبحث عن مكانه في مجتمعه ويحمل بذرة تلك الثقافة في طيات ذكريات طفولته وشبابه؟
"هل وحدي التي تشعر بعدم الانتماء.. هنا وهناك؟» تتساءل م. ح. «الأسئلة كثيرة.. هل وحدي من تدور بي رحى هذه الأسئلة؟".