كنت أعقد أن السمك لا يأبه بالورد لأن الورد لا ينبت في الماء، أو على الماء. وبنيت اعتقادي هذا على أن السمك، كالإنسان تماما، عدوٌ لما يجهل. ولكنني اكتشفت خطئي عندما علمت، من مصادر موثوقة، أن بعض الورود الجميلة تنمو على سطح الماء، وهناك من يزعم، وإن كانت المصادر غير موثوقة هنا، أن ثمة نوعا من الورود تنبت تحت سطح الماء.
كما أنني، ومن خلال مراقبتي للسمك الذي يعيش في البحيرتين أمام معهد البحوث حيث أعمل، لم أرَ أحدا من أفراد قبيلة السمك يهدي فردا آخر وردة، مهما كانت المناسبة. والأغرب من ذلك هو أنني لاحظت أن إناث السمك لا تنزعج مطلقا من ذكورها عندما تمر الأيام والأسابيع والأشهر دون أية وردة حمراء أو حتى بيضاء. بل وحتى في المناسبات غير السعيدة، لم أر السمك يهدي المريض من بينه وردا أبيضا (مع العلم أن كل أمراض السمك التي رأيتها كانت لها علاقة بضيق في التنفس). ومن سماعي لأشعار السمك، وقراءتي لتراثه الأدبي، رأيت إهمالا كاملا لموضوع الورد. فلا تجد عندهم، مثلا، الكناية عن احمرار خد الحسناء خجلا بلون وردة الجوري (ربما لأن السمك لا يحمرّ وجهه أصلا، وربما لأنهم لا يقومون بأفعال يخجلون منها). السؤال الذي يطرح نفسه إذن، لمَ يهتمّ البشر بالورد، ويعتبرونه أمرا جوهريا في العلاقات العامة والخاصّة؟ يقول الدكتور جون جراي، من المرّيخ، أن زوجته (سابقا) بوني، وهي من الزّهرة، كانت تصرّ على أن يشتري لها باقة من الورود الجميلة كل أسبوع، وتأبى أن تكون هي من يشتري هذه الورود حتى وإن كان هو مشغولا، أو مسافرا.
لن يتجادل اثنان في أن الورد صديق مقرّب من حواء، وليس كذلك لآدم، إلا في فترة الخطبة، والتي قد تطول أو تقصر. وبعد الزواج نجد أن الورد اختفى أو يكاد، ولا يظهر إلا في المناسبات البعيدة، والتي تكون غالبا غير سعيدة. وقد وصلت إلى استنتاج هنا، دون مراقبة للسمك طبعا لعزوفه عن استخدام الورد، مفاده أن الحفلات العامة التي يُشرّفُها مسؤولون كبار هي في الحقيقة مرحلة خِطبَةٍ لودّ الشعب، أو المسؤول، وتختفي باقات الورد الجميلة تماما بعد انتهاء مراسيم حفلة الخطوبة تلك، ويحلّ محلّها ... "الورد جميل، جميل الورد." هكذا غنّت إحداهنّ في زمن مضى، والذي لم أفهمه حتى الآن هو مدى عبقرية الشاعر الذي ألّف هذه الأبيات. هل لو كتبت قصيدة مطلعها: "البحر كبير، كبير البحر" لوجدت من يطرب لها؟ أم أن ارتباط البحر بالسمك جعلنا لا نقرنه بالجمال؟
عذرا فقد كانت الفقرة السابقة تحويلة اضطرارية، وسنعود للموضوع الرئيس. الورد جميل دون شك، ورائحة كثير منه عطرة أيضا، وله فوائد أخرى عدة. ولكن لم نحن، ذكور وإناث (من البشر طبعا)، شديدو الحساسية تجاهه؟ أجابت عن هذا السؤال وردة مرهفة الحس فقالت: أهم سبب في اعتقادي هو أن الإنسان عبارة عن مجموعة من المشاعر والورد له تأثير مباشر على الاحاسيس، وله مفعول السحر في ذهاب الضغينة، وزرع المحبة، وراحة المريض، وسعادة الزوجة، وإنشراح النفس.
سأطرح عليكم حلولا وسطا، تعلّمتها من كثرة مراقبتي للسمك في الحر الشديد، ولنر إلى أين تقودنا حكمة السمك. ما رأيكم دام فضلكم في:
1- أن ندخل مادة الورد بما فيها تعلّم التعبير بالورد، وتفسير ألوان الورد، والمعاني المختلفة للورود وطرق ترتيبها في مناهج التعليم في مدارس البنين والبنات، مع التركيز على كيفية العطاء للبنين، وكيفية التلقي للبنات.
2- إعطاء مناهج مكثّفة للمقبلين على الزواج، مع التركيز على العقلانية في العطاء للرجال حتى يدوم، وعلى العقلانية في التلقّي للنساء حتى يدوم أيضا.
3- تنظيم دورات صيفية، في مراكز التعليم المستمرّ، لإعادة تنشيط العطاء في الرجل، وترتيب التلقّي في المرأة.
4- يمنع الاختلاط منعا باتا في مثل هذه الدروس، ولكن ننصح بأن يتبادل الذكور والإناث (من البشر طبعا) مقاعد الدراسة مرّة كل سنة على الأقل ليرى كل طرف كيف ينظر الطرف الآخر لموضوع الورد. اشتهر بين الناس أن الورد الأحمر علامة على الحب، والأبيض على السلام، والأصفر على الحزن وعلى الغيرة (كما أخبرتني بذلك وردة رقيقة)، ولكن السمك، وهنا أنا متأكد تماما، لا يفرّق بين ألوان الورد، فكلها عنده سواء. وأحيانا أتساءل: هل السمك أعقل منّا لأنه لا يبالي بالورد، لا في العطاء ولا في التلقّي؟
لا أدري، ولكنني ما زلت أراقبه عن كثب، وسأخبركم إن جدّ جديد في أمر الورد والسمك.