بحكم تعليمي الهندسي، أصبح للنظرية والبرهان، ومن ثمّ النتائج فالأمثلة، دور كبير في صياغة تفكيري، كما أصبح لهم تأثير غير خافٍ على مشاعري، بل وحتى عواطفي. وأجد هذا يدفعني دفعا إلى صياغة الأفكار والمشاعر والعواطف على شكل نظريات، ثم أحاول برهنة النظريات، ثم أبحث لها بعد ذلك عن أمثلة وتطبيقات. وإليكم إحدى تلكم النظريات التي عملت عليها طويلا. النظرية: البعد ألم
التعريفات:
1- البعد نوعان: بعد حسّي، وبعد معنوي.
2- البعد الحسّي يمكن تعريفه بأنه عدم تمكن طرفين يرغبان في لقاء بعضهما البعض، في فترة زمنية محددة، من اللقاء، بسبب اختياري أو إجباري.
3- البعد المعنوي يمكن تعريفه بأنه عدم التقاء روحين أو عقلين أو قلبين لطرفين يرغبان، أو يرغب أحدهما، في لقاء بعضهما البعض، لقاءً يتجاوز اللقاء الحسّي ولا يتطلّبه دائما.
4- البعد المقصود هنا مرهون بكونه ضد القرب، وحادثٌ بَعْدَه. فلا يندرج ضمن تعريفنا للبعد، مثلا، بعدي الحسّي عن القمر، لأنني لم يسبق لي أن وطأت سطحه بحذائي ثم ابتعدت عنه.
5- الألم هو الألم، ويقتصر هنا على ألم القلب، دون بقية الجوارح.
6- الطرفان يكونان في الغالب من البشر، ولكن قد يُتجاوزُ عن كون أحد الطرفين قطة أو كتابا أو جهاز حاسب أو صديقا افتراضيا.
البرهان:
أنظر في البداية إلى ما قاله ابن الملوّح:
بكل تداوينا ولم يشف ما بنا ****** على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ****** إذا كان من تهواه ليس بذي ودِّ
تجد أن قيسا شخّص واقع البعدين، الحسّي والمعنوي، ببيتين من الشعر. وسوف لن نتناول البعدين بالتفصيل بعد الآن، وسنقتصر على اسم النوع فقط.
البعد حصل بعد أن كان الطرفان قريبين من بعضهما البعض، ولو استطاعا لما ابتعدا. ألم تقرأ ذلك البيت الخالد لابن زريق:
ودّعته وبودّي لو يودّعني ****** صفو الحياة وأني لا أودعه
فحتى لو كان البعد باختيار المبتعد، لو خيّرته في الحقيقة لوجدته لا يبتعد، لو كان الخيار له. فأيهم أكثر أهمّية للمبتعد: جَلْبُ الدراهم أم البقاء بجانب من يحبّ. لو كانت الدراهم متوافرة لما اختار ابن زريق الرحيل.
نخلص مما سبق إلى أن البعد غير مرغوب فيه، لأنه ضد القرب، وهو الأصل، لأن في القرب اجتماع القلوب، والأجساد عند العناق.
أَبْعِد الراحة عن الجسم، والراحة مرغوبة يحتاج إليها الجسم، ترى الجسم يتعب. وأبعد النوم عن أجفان السهارى تجدهم يقاسون من هذا البعد. أنظر إلى ألم الطالب في الامتحان عندما تبعد المعلومة التي رعاها ونمّاها ليالٍ طويلة، عن عقله بعد قراءته للأسئلة.
التعب ألم، والجوى ألم، والعشق ألم، والحب ألم، والشوق ألم، والسهاد ألم، والسفر بعيدا ألم. لأن ضد كل ما ذكرنا راحة جسدية ونفسية وقلبية وعقلية.
نخلص من كل ما سبق إلى أن البعد ضد أسباب الراحة والاطمئنان والسكينة والهدوء، وانقطاع أسباب تلك يسبب ألما للمبتعد. ومن هذا نخلص أخيرا إلى أن البعد ألم.
وهو المطلوب إثباته.
الأمثلة:
لا أجد مثالا أفضل من السمك، الذي أراقبه كل عصرٍ بعد الصلاة في البحيرتين الصناعيتين بجانب المسجد الذي أصلي فيه في العمل.
أَبْعِدْهُ عن الماء يتألم، ثم إن لم تعِدْهُ يموت. أبعد ذكره عن أنثاه، يتألمان، وبسبب هذا الألم يتوقفان عن الإنجاب.
ولكن، وهذا من العدل، أرى أنه يجب عليّ أن أذكر أمرا ما زلت محتارا في تعليله، لأنه، في ظاهر الأمر، يخالف نظرية البعد التي برهنتها قبل قليل: كلما اقتربت من حافة البحيرة، أرى السمك يسرع في الابتعاد عني وقد ارتسمت على محيّاه ابتسامة كبيرة.
أحيانا أظن أن السمك يبتسم ألما، ولكن ليس عندي معطيات كافية لأجزم بذلك، ولهذا سأواصل مراقبتي، وأخبركم بما يستجدّ.