شهدت علاقتي مع السمك مؤخرا تحسنا ملحوظا. كما أنني بدأت أفهم طريقتهم في التفكير والتصرّف. كما أصبحت موقنا أن لدى السمك مدارس متعددة المراحل، ومدرسين مختلفي التخصص والتأهيل.
ولكن دعوني أخبركم أولا سبب تحسّن العلاقات. حصل هذا صدفة ذات يوم قبل أذان المغرب بنصف ساعة تقريبا. كنت خارجا من عملي أمشي هادئا بجانب البحيرة الأكبر حجما والممتدة من جوار المسجد الذي أصلي فيه أثناء العمل وحتى موقف السيارات المشكوف. فلاحظت أن عددا لا بأس به من النمل الأسود الكبير يمشي على حافة البحيرة.
خطر ببالي سؤال عن النظام الغذائي المتبع عند السمك، وهل يدخل النمل فيه. قررت، بطبيعة تأهيلي الهندسي، أن أخضع النظرية للتجربة فورا، فحجزت طرف أصبعي الأوسط بالإبهام وجعلته أمام نملة كبيرة الحجم نسبيا، ثم أطلقت سراح الأصبع الأوسط فارتطم ظفرُهُ بالنملة وقذف بها إلى الماء بعيدا عن الحافة كي لا تستطيع الهرب. لم يعجب تصرفي النملة المذكورة، فهاجت وماجت وشجبت واستنكرت وطالبت بتدخل فوري من هيئة النمل المتحدة، ثم أخذت ترغبي وتزبد وتحرك يديها ورجليها بشكل غاضب في الماء. ولم تكد النملة تلتقط أنفاسها لتواصل احتجاجها وشجبها لتصرفي العدواني، حتى أحست بها سمكة متوسطة الحجم، فأتتها من حيث لا تراها، وفتحت فاها، وبلعتها هي واحتجاجاتها.
حصل بعذ ذلك أمر غريب. رأيت جموعا من السمك تسبح بالقرب منّي عند حافة البحيرة، فقلت في نفسي: "لا بد وأن النمل يعتبر طعاما شهيا للسمك"، فبحثت عن نملة أخرى حتى وجدتها، وقذفت بها إلى الماء من جديد. هذه النملة، لم تكن كأختها، بل كانت محبّة للسلام، فلم تشجب ولم تستنكر ولم تعترض، بل بقيت ساكنة هادئة تنتطر، بوداعة وحب للسلام، تدخل هيئة النمل المتحدة لإنقاذها، وبقيت تسبح هادئة مستمتعة بالموج اللطيف، حتى أحست بها سمكة صغيرة فابتلعتها أيضا، دون أي احترام للمظهر الحضاري والتعامل الراقي للنملة وحبها للسلام.
كرّرت الأمر مرات عدة، فوجدت أن النمل الغاضب يؤكل سريعا، والنمل المسالم يؤكل أيضا، ولكن بعد حين. كما وجدت أن النمل الغاضب يلتقمه السمك الكبير،والنمل المسالم يُتركُ للسمك الصغير. ومن ذلك اليوم بدأت أشعر أن السمك قد تحسن موقفه تجاهي، فلم يعد يسرع بالهرب عندما أقترب، بل يهرب على مهل. ولكن لم أكرر تصرفي ذاك إلى الآن، فمع رغبتي الشديدة في تحسين علاقتي بالسمك، إلا أنني لا أرغب في خسارة الاحترام المتبادل بيني وبين النمل، ففكّرت في إلقاء بعضا من فتات الخبز للسمك لأرى إن كان يرغب فيه.
تحسّن علاقتي بالسمك أعطاني فرصة للتعرف على أمور كثيرة في حياتهم لأنهم لم يعودوا يهربون من جواري بسرعة شديدة، فمثلا وجدت أن السمك الكبير يعيش منفردا بعيدا عن الباقين، كبارهم وصغارهم، ووجدت أن السمك الصغير جدا، والذي لا يكاد يرى، يسبح دائما في أسراب، ويبقى السمك يسبح في أسراب حتى يدخل مرحلة المراهقة، فتبدأ الأمور تأخذ منحى آخر، لأن السمك يصبح أكثر انتقاء لمن يصاحبه. وعندما يدخل السمك في شرخ الشباب، تراه يسبح برفقة واحد أو اثنين، أو واحدة أو اثنتين (لم أستطع التفريق)، حتى يستوي رجلا، أو امرأة (من باب المجاز طبعا)، فيعزف عن صحبة الباقين، إلا لضرورة.
ولاحظت أيضا أن السمك الصغير يحترم السمك الكبير، غالبا، والسمك الكبير يعطف على السمك الصغير، غالبا. كما لفت انتباهي وجود سمكة متوسطة الحجم، تصحب السمك الصغير في جولات حول البحيرة، ويكون هذا غالبا في فترة الدوام المدرسيّ السمكيّ الصباحيّ. ويختلف تصرّف السمك الصغير، المصحوب بسمكة أكبر، من مكان إلى مكان في البحيرة، ومن وقت إلى آخر. ولكن الذي لا شك فيه هو أن السمك الصغير يبدي اهتماما حقيقيا بما يتعلّمه من السمك الكبير، ويحاول دائما تطبيق ما تعلّمه فورا.
الذي لم أستطع معرفته بعد هو: هل يوجد لدى السمك معاهد عليا للدراسات التخصصية، أم لا؟ يغلب على ظني أنه ليس لديهم معاهد عليا لذلك، ربما لأن السمك الكبير لا يحب البقاء في أماكن يكثر فيها أقرانه، وربما لأنه يعلم أن بقاءه في الماء محدود الأجل فلا يجد جدوى من ممارسة الدراسة، وربما لأن الدراسات العليا لم تعد ذات جدوى إذا قورنت بطرق الرزق الأخرى عند السمك. ولكن هذا لا يمنع وجود دراسة بالمراسلة مع جهات سمكيّة أخرى أكثر تمكنا، وأغزر علما، والذي أراه هو أن السمك لا يمنعه الكِبَر من التعلّم ممن هو أعلم منه، والله أعلم.
ما زلت أراقب، وأتعلم، فإن وجدت جديدا أخبرتكم.