أعجب من حال الحياة , فهي تقلبنا بين الفراغ والشغل , وبين الأجازات والعمل , فلا تستقر بها أوضاعنا ولا نكاد نعتاد على حال حتى تنتزعنا منه وتنقلنا إلى غيره .
فكم من أيامٍ مرت قضيناها بلا أي انجازٍ يذكر , ولم نستغل فيها الفُرص أو الأوقات المهدورة , وأيامٌ غيرها تمر علينا كالريح العاتية , تُقلبنا بين عملٍ
وآخر , لا نجد فيها لحظاتٍ تتسع للراحة أو تسمح بالتوقف عن العمل .! وأعجب أكثر من حال الناس وتقلبات أمزجتهم , فمنهم من يهوى الفراغ والكسل والتأرجح بين الراحة والاسترخاء , ويعشق تلك الأيام الخوالي واللحظات الفارغة , ومنهم من يدمن الانغماس في العمل , وإفناء الحياة على أعتابه وقتل الأوقات في سبيل انجازه , فهو يلهث وراء كل عملٍ جديد , لا يستطيع التوقف فكأنه يتنفس العمل .!
وعجبت أكثر وأكثر عندما رأيت نفسي أقف حائرةً بين الفرقة الأولى والثانية , أتقدم خطواتٍ نحو الهدف , وأتراجع خطواتٍ لأعود حيث كنت عند نقطة البداية , نفسٌ تدعي حب العمل والتفاني في سبيله تارة , وتركن للراحة والتهاون تارةً أخرى , تتقلب بين يدي الأيام في رحاب الجد مرة وترمي نفسها في هاوية الكسل مرةً أخرى أعلم بأنها ليست من النوع الخامل المتذمر الذي يعشق الفراغ , وليست من النوع المدمن على العمل والمضحي بكل شيءٍ من اجله , ولكن ما أعجب منه هو ذلك الفرق الكبير بين حالها في أيام الاجتهاد وحالها في أيام الكسل .!
ولعلك -عزيزي القارئ- تشاركني ذلك الإحساس , وتعجب مثلي من ذلك التقلّب , ولكن ما ذا نفعل إن كانت تلك هي طبيعة النفس الإنسانية , ملولة متغيره لا يعجبها الاستمرار على حالٍ واحد أو الدوام على نفس النمط .
فعند هذه النقطة أقف قائلة بأنني لا أنكر بأن للعمل لذة وللراحة لذة .!
فلذة العمل تكمن في الهمة والعزيمة , والرغبة في الانجاز , والأهم من ذلك هو الانجاز نفسه عندما يتحقق , فأي معنًا للتعب نشعر به أو نسترجعه عندما تغمرنا نشوة الانجاز ؟
ولذة الراحة لا تأتي إلا بعد الانجاز , فلا نامت أعيننا قريرةً إلا بعدما ترى أهدافها مُحققه .!
والعمل إن كان في سبيل الله وخالصًا لوجهه , بارك لنا الله فيه وفي الوقت لانجازه , وسهل لنا الظروف وأزاح من طريقنا العقبات للوصول إليه , فلا تشكو من كثرة الأعمال وتداخلها , ولكن تغلب على ذلك بتقسيم الوقت وتوزيع الجهد والمفاضلة بين الأولويات والاختيار بينها .
إن حياتك تستحق أن تملأها بالبصمات المُشرّفة التي ستتركها خلفك وتتذكرك بها الأجيال وتثني عليك , ومجتمعك متعطش لجهدك وانجازاتك التي ترتقي به .
فلا تسرف بالعمل فتمله وتتركه , ولا تسرف بالراحة فتجرك إلى أذيال الخيبة والندامة ، كن وسطًا بينهما , أعطِ لنفسك وقتًا للراحة تجدد فيه طاقتك وتشحن عزيمتك وتجدد نيّتك , لتعود للعمل بكل نشاطٍ وحيوية , وأعط نفسك الفرصة لتحلم وتتمنى وتسعى بعد ذلك لتحقيق الهدف والانجاز .