" العالم بدأ من غير الجنس البشري وسينتهي من دونه "
كلود ليفي ستراوس
لم يكن المسرحي الأثيني أرستوفانيس جادا كدأبه حينما أوضح في معرض رده على المتحاورين في "مأدبة" أفلاطون التي كرست برمتها لموضوعة الحب ، كيف أن البشر كانوا في الأصل غير محددة هويتهم الجنسية ، إذ أنهم كانوا ذكورا وأناثا في كيان واحد . ويستطرد أرستوفانيس بأن تلك الحالة أفضت بهم إلى أقصى درجات الرضا والسعادة ولكنها استفلحت فيما بعد لتنقلب إلى غطرسة وغرور. عندها قرر الآله زيوس أنزال العقاب ببني البشر من خلال شطر كل منهم إلى نصفين ؛ ذكر وأنثى . مذاك أضحى كل منهم يتوق إلى نصفة الآخر الذي اقتطع منه . فكانوا ، والحديث هنا لأرستوفانيس كلما ألتقيا طوقا بعضهم البعض بذراعيهما وتعانقا ، يحركهم في ذلك شوق وحنين لأن يعودا مرة أخرى مندمجين في كيان واحد .
الخرافة التي تنطع بها أرستوفانيس ليست في جلها وهما بعيد الغور ، تقاعست مغازيها أو بعض منها عن الأفضاء بتعليلات فارقة في فهم الحب ومعانيه . استلهاما لما قاله حامل مفاتيح الفلسفة المعاصرة نيتشه من أن : الأكاذيب الكبرى تحمل في داخلها بذرة من الحقيقة . يرشح عن ذلك التبرير الأسطوري طيف من الحقيقة . فالحب يجمع الناس بعضهم ببعض ، وفي كنفه يلتئم شمل شخصين ، ولكنه في ذلك ليس السبب اليتيم . طالما أن هنالك أسبابا أخرى لاجتماع شخصين وتلاقيهما مثل الميول والاهتمامات المشتركة ، والعداوات المشتركة ، والعمل وغيرها من أسباب الإلتقاء وموجباته . ولكن الفرق الفارق ما بين الحب وما سلف ذكره ، يكمن في أن الحب يمثل لقاء بين شخصين ينصب إهتمامهما على بعضهما ، في الوقت الذي تفصح فيه بقية الأسباب الأخرى عن اهتمام يروم موضوع يقع خارج ذاتيهما . ولئن صدق ذلك ، فإن الحب بدوره ، يغدو في أحايين كثيرة مدمرا ، فما يجمع بين حبيبين ، يمكن أن يفرقهما ، بل ويحطمهما . فالحب ، وذاك من طبائعه ، ينمو ليصبح متملكا ومستحوذا على الآخر ، يطلبه دوما ، ناهيك عن أنه موقد لسعير عاطفة متفجرة هي الغيرة .
ولكن إذا سلمنا بأن تلك الدلالات مخيفة ومرعبة ، وأن هناك أخرى قد تحيله مرذولا في نظر كثيرين ، إلا أن الحب مع ذلك لا يستوي إلا على أرض يبسطها جوهر أخلاقي يدرأ عنه الميل والأهتزاز . فحينما يحب المرء ، تربطة علاقة وثقى وإلتزام أخلاقي بالأخر ، فالمحب لا تكفيه فقط سعادة من يحب ، بل يستشري في نفسه سعي حثيث وتكريس دائم لطاقاته وقدراته كيما تصبح سعادة محبوبة حالة أبدية .
قد يبدو ذلك ضربا من التجريد ، ينحو الواقع إلى مخالفته ونقضه . طالما أن الحب إنتهاء ليس سوى تلك العلاقات التي يصنعها الأفراد ومن ثم يعيشونها ويؤولون أخيرا إلى تذوق ما اقترفته قلوبهم . تأسيسا على ذلك ، تتغذى أشكالية الحب بدءا من تلك الصعوبات التي يواجهها الأفراد في علاقاتهم .
ومن نافلة القول ، أن حياة الإنسان يحكمها مبدأن أساسيان ، هما : الألم والسعادة ؛ فالفرد في كل ما يقدم عليه من أفعال أنما يسعى دوما إلى تجنب الألم وتحقيق السعادة . ولئن كانت مصادر الألم والسعادة بديهية في نظر الفرد إلا أنها في ميادين التفاعل الإنساني وفي مقدمتها الحب تنتهي إلى حالة ملغزة وغامضة . ففي الحب يقوم الفرد طواعية بأهداء نفسه لمن يحب . وهو بذلك يستجيب لإنسانية الأخر، الذي يغدو شرطا شارطا للسعادة . وإن كان ذلك لا يستقيم إلا بشرط آخر هو الثقة. وقطعا تعد الأخيرة مظهرا سافرا من مظاهر الحب حينما تندثر ، تأفل السعادة ويطل الألم مرهصا بمشاعر الاحباط والخذلان ، والذين بدورهما تعبير عن الحب ولكن على نحو سلبي . يبقى مع ذلك ، أن الألم بدوره يحمل معنى أخلاقي طالما أن جرح المحب في حبه أنما هو مساس بمقومات أخلاقية أخرى تعبر عن الحب مثل الثقة ، والوفاء ، والإحترام ، يتخذ منها الحب هيكله الأساس.
لا شك أن من يحب يعلق أمالا كبيرة على من خفق قلبه له ، وهو في غزارة اهتمامه به ، يتعامي عن أولئك الذين لا تجمعهم به وشيجة ما . وحينما تظهر الخيانة ممن اتجه إليه الحب ، تتملك الفرد مشاعر الخوف من الهجر مع ما يصاحب ذلك من إنهيار في تقدير الذات ، كما تخبرنا بذلك الدراسات السيكولوجية. والتي لا تتوقف عند ذلك الأخفاق بل تسبر عميقا غور النفس لتدعي بأن الهجر العاطفي أنما يوقظ مخاوف الطفولة وهواجسها ويحطم الرموز الحامية التي يلوذ بها المرء في مراحل نموه المتعددة بدءا من الأم و الأب و أنتهاء بالحبيب . ولكن ما هو أبعد دلالة ، يتمثل في أن عدم اهتمام الفرد بالغرباء والأخرين يحكمه توازن بالتركيز على الأهتمام بمن يحب ، وعندما ينهار ذلك الحب يختل ذاك التوازن المتوخى ، فحينما يُهجر الفرد من قبل من كان مؤمنا بتقديرهم له ، تراوده الشكوك في قيمته الحقيقة كفرد .
ولكن من جانب أخر ، يبدو كما لو أن الحب أمنية توصم بالإستحالة ، بسبب تناقض كامن فيه . ولعل جان بول سارتر قد عبر عن ذلك التناقض حينما أشار إلى أن هدف المحب الحقيقي هو أحتلال شخص أخر من الداخل عن طريق وعيه وذاته كيما تُأسر رؤيته وإرادته دون التدخل في حريته واستقلاليته ، وذلك ما حدا بسارتر إلى جعل الحب أمرا مستحيلا كاستحالة العنقاء والغول والخل الوفي عند العرب . بل أن الحب آل عند أخرين إلى محض خداع للذات والآخر ، وآية ذلك مقولة النفساني الفرنسي جاك لاكان الشهيرة : " الحب هو أن يقدم شخص ما لا يملك لآخر لا يرغب فيه " .
هذه الوشيجة المحكمة ما بين الحب والإستحالة والمعاناة ليست حديثة النشأة ولا هي بمستحدثة فقد ارتبط الحب وفي ثقافات متباينة بالمعاناة وبمآلها الأخير ؛ الموت. ففي التراث العربي يبدو ذلك الإرتباط وثيقا من محتوى ما كتب عن الحب ، وعنوانات تلك الكتب . وجدير بالذكر أن من قام بخوض موضوعة الحب تحليلا وجمعا كانوا جميعا من الفقهاء . أو بلغة معاصرة ، من النخبة الثقافية في زمنهم ، فابن حزم الأندلسي صاحب ( طوق الحمامة ) وابن الجوزي صاحب كتاب ( ذم الهوى ) وابن قيم الجوزية صاحب كتاب ( روضة المحبين ونزهة المشتاقين ) وغيرهم ممن أصابوا حظا كبيرا من ثقافة عصرهم وعلومه . وعملا بهذا المبدأ ، يتوج ابن السراج فكرة التلازم ما بين الحب والمعاناة في عنوان كتابه الشهير ( مصارع العشاق ) فهو لم يكتف بهذا العنوان الصريح ، بل تعكس عنوانات فصول كتابه ولعا بهذا التلازم الحتمي ما بين الحب والموت ، إذ تجرى هكذا " من حمله هواه على قتل من يهواه " وآخر " من قتل نفسه بسبب العشق " . ونقرأ في ذلك الكتاب عن أن " كثير عزة ما أن علم بوفاتها حتى شهق شهقة فارقت روحه الدنيا ومات من ساعته ودفن مع عزة في يوم واحد " وعن عاشق أخر ما أن رأى جثة معشوقته حتى " صاح صيحة ووضع يده على صدره ومات لساعته ودفن مع باقي جسد صاحبته " وكذلك عن عاشقين التقيا بعد فراق :" فتعانقا فلما أصبح الصباح وجداهما ميتين فبكى عليهما ودفنا " .
تلك النزعة إلى ربط الحب بالموت لم تكن حقا حصريا للعرب ، وسنجدها في ثقافات أخرى ، فشكسبير الذي أصر على أبدية الحب وثباته مثلما أنشد في السوناته 116 ، كان قد أراق تحت أقدام الحب دماءا كثيرة في تحفته المأساوية (روميو وجولييت) . فلكي ينتصر الحب ، أو لنسم الأشياء بأسمائها ، لكي تنتصر رؤية شكسبير للحب ، يضحى بماركيتو وتيبلت ويتجرع روميو السم وتطفأ جولييت شمعة حياتهما بيديها فوق جثة عاشقها بلحد ضمهما معا .
من المرجح ، أن المعاناة بسبب الحب قد تستشري وتؤول إلى رثاثة مصير ما مرت على عين المحب ولا خطرت بباله . فما يفعله الفرد المتوهم لمطلق الوجد وفائض المودة لا يمكنه أن يعزى لتفكير عقلاني . وإلا ما المسوغ لتوافق الحب والمازوشية في بعض العلاقات . وذلك ألتقاء لا يمكن نفيه بصورة جازمة . فعلى الرغم من أن المازوشية هي تلذذ بالألم - انطلاقا من تعريفها الكلاسيكي بوصفها رغبة في مكابدة الألم والخضوع للقوة – والذي هو بداهة نقيض لللذة التي يصبو إليها الحب ، ألا أنها تماما كالأخير شكل مكثف للعاطفة الحميمة الجامعة لشخصين وتروم إدماجهما في ذات واحدة ، سوى أن المازوشي يهرب من ذاته ويتوخى أن يغمره شخص أخر ويتحكم به . فهي – أي المازوشية – تتحقق لها نفس غاية الحب؛ تحديدا الالتحام الوجداني مع شخص آخر ، وإن كان المازوشي يبدو واضحا تفضيله للألم والخضوع للشخص الآخر . وإن نحن أعتبرنا الحب والمازوشية دربان منفصلان تؤديان إلى وجهة واحدة ، فإن ارتيادهما معا من شأنه مضاعفة تجربة الأندماج الوجداني مع الآخر . ولربما حينما تتجلى المازوشية والحب تغدو الرابطة العاطفية أكثر اشتدادا ، ويضحي الاندماج العاطفي مشبعا على نحو أكبر . ألم يصدح أحد الشعراء بما يختزل تلك اللحظة بقوله : فيا حبها زدني جوى كل ليلة ويا سلوة الأيام موعدك الحشر .
غنى عن القول أن الميل المتعاظم للألم ينم ، من حيث المبدأ ، عن هروب من الذات معطوفا على عطب عميق لحق بها . وفي الوقت الذي تكون فيه الخبرة الإنسانية والتجارب التي يخوضها الفرد في حياته شرطا لتطور الذات ونموها ، يصبح القانون الناظم للخبرة الإنسانية الفاعل الحقيقي في صناعة الذات وصيانتها . وذاك أمر نال ما يستحق من اهتمام الفلاسفة ورجال الدين. وعلى الرغم من أن جهود هؤلاء وأولئك أخرجت العديد من الأراء والشروحات حول ذلك ، وبدا بعضها مناقضا للآخر ، بل وفي فترات مختلفة تناحر أصحاب رأي قاطع مع معارضيهم سواء أكانوا سابقين أم مجايلين لهم ، بيد أن هذا لا يلغي كونهم جميعا قدموا مصطلحا جامعا مانعا لذلك القانون ؛ وهو الفضيلة .
من بين هؤلاء يقدم المعلم الأول أرسطو تعريفا للفضيلة مازال قائما حتى يومنا هذا ؛ مفاده أنها وسط بين حدين ، أي أنها فعل معتدل يأخذ مكانه بوصفه على المستوى العملي يقع بين قطبين متطرفين هما رذيلتين طالما أن أحدهما تفريط في السلوك والأخر إفراط فيه . كأن نقول مثلا : بإن فضيلة الشجاعة هي السلوك الوسطي ما بين الجبن والتهور ، أو أن نعرف الكرم بوصفه فضيلة تتوسط البخل والإسراف . والتعريف الأرسطي ما زال يحظى بقبول ثقافات متنوعة تختزل الفضيلة بوصفها الوسطية في السلوك . أو كما تذهب العامة على نحو ما تنهج من تبسيط مبتذل للأشياء من أن خير الأمور أوسطها . بل أن هناك من يجعل ذلك نظاما أخلاقيا يحكم حياته برمتها ويبشر به الأخرين .
قصارى القول ، إن هذا النظام حكم الممارسة الإنسانية فترات مديدة من تاريخها ، وإن تحول في زمننا المعاصر إلى تعريف أخر هو " الكم المناسب " بوصفة توفيقا ما بين نزعة استهلاكية مضطردة ودريئة لمخاطر هذه النزعة في آن معا . وينهض هذا التعريف العصري للفضيلة على قاعدة أن الفرد متاح له أن يتلذذ بكافة ماهو متاح له من متع الدنيا شريطة أن يكون معتدل في استهلاكه لها . وعلة ذلك إدراك مسبق بإن المكون الأساسي لأي شيء ، تحديدا ذاك الذي يضفي عليه صفة اللذة ،إنما يصبح مصدرا للخطر متى ما تطرف المرء في استهلاكه له . وكيما يصبح اعتصار اللذة وتجنب الخطر ممكنا في آن معا ، كان " الكم المناسب " والأعتدال هما ما يحكم سلوك الفرد في استهلاكه .
هكذا ، يلاحظ أن فكرة الاعتدال إنما تقوم على وعي يقيني بإن أغلب مصادر اللذة يكمن في مقومها الأساس عامل الخطر . وإذا ما توسل التقدم الإنساني على المستوى التكنولوجي في زمننا المعاصر تجاوز هذه المعضلة . فإنه قد انتهى إلى نزع عنصر الخطر عن المقوم الأساس للأشياء الذي ، كما أسلفنا ، مصدر اللذة فيها. بحيث تلبي متطلبات ظاهرة الاستهلاك الجارف ومعيارها الكمي . يبقى أن فكرة "الكم المناسب" ومن ثم الإعتدال لا تستقيم - بأي حال من الأحوال - مع اعتماد الاستهلاك المتزايد سلوكا بشريا ثابتا . والخروج من ذلك الطريق المسدود بين تينك القيمتين المستحدثة والقديمة ، قد إنتهي لصالح الأستهلاك الشره للإشياء مستهدفا نزع مقومها الأساس عنها . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان استهلاك كميات كبيرة من القهوة مضر بالإنسان طالما أن الكافيين المقوم الأساس و مصدر اللذة فيها، متى ما أفرط الإنسان في تناوله انقلب خطرا عليه. لكنك الآن تستطيع أن تشرب ما تشاء من القهوة وبالقدر الذي تريد طالما أنها منزوعة الكافيين، ويمكن قياس ذلك على العديد من الأشياء التي نزع عنها مقومها الأساس لكي يصبح استهلاكها المنفلت عن ضوابط الاعتدال والكم المناسب آمنا، مثل الكريمة بدون دسم، والجعة الخالية من الكحول وغيرها....، ولكن كيف ينطبق ذلك على الحب؟
لئن كان نزع المقوم الأساس للأشياء قانون يتطلبه التقدم الذي أحرزته البشرية على مستويات الوفرة والكم اللامحدود، وعلى النحو الذي تدفع به العولمة الاقتصادية والسوق الحرة نهجا، فإن ما يطال الذات الإنسانية تحت ثقل هذه التغيرات لن يكون مطلق الايجابية ولن يمحضها سعادة أبدية طال انتظارها. طالما انه لم يمس أسئلة ما فتئت تكون بئرا متدفقا ، تفيض في مراحل متنوعة من حياة المرء، لتغرقه بألوان مختلفة من المعاناة، أسئلة على شاكلة؛ ما معنى الحياة، ما العاطفة، وقبل ذلك ما الحب؟
من المرجح أن الأعمال الأدبية دوما ما تكون وسيطا رديئا ورثا للأفكار العلمية، إذ غالبا ما تظهر الأخيرة- إن وجدت- على صورة نبؤات سخية في خيالها وشحيحة في عقلانيتها . ولكنها مع ذلك لا تشكل نفيا لاحتمالات المستقبل أو سلبا لما هو كامن فيه. في رواية ( الجزئيات الأولية ) Le pàrticules Elementaires للفرنسي ميشيل ويلباك الصادرة عام 1998 والتي أصابت ضجة كبرى ونجاحا ساحقا آنذاك ، و ترجمت للانكليزية بعنوان Atomised – نقرأ قصة اخوين غير شقيقين، احدهما معلم للمرحلة الثانوية يقبل على متع الحياة الحسية بنهم شديد، في حين أن أخاه عالم الكيمياء الحيوية الفذ، على النقيض منه مصاب بالبرود العاطفي وحيادية المشاعر. كلا الشقيقين يسعيان حثيثا إلى السعادة عبر القراءات الفلسفية، والزواج، واللقاءات العابرة، والعاطفة المجانية هربا من كآبة الحياة ، وقسوة العلاقات بين الأفراد، ووحشة العالم الخارجي، فينتهيان إلى القنوط و اللاجدوى . وفي حين يؤوب الأول إلى العزلة بمصحة عقلية لعلاج الاكتئاب، يطور الآخر جينات لديها القدرة على التكاثر الأحادي دونما حاجة إلى التزاوج الإنساني التقليدي. وتنتهي الرواية بتقديم نبؤة عن العالم عام 2040، حيث تقرر الإنسانية جمعاء أن تستبدل نفسها بهذه السلالة المتطورة والقادرة على التكاثر الأحادي asexual رغبة منها في تجنب المعاناة والألم المتأتيين عن الحب، وتعقيدات العلاقات الإنسانية.
كما أسلفت، فإن تلك الأفكار التي يتشوفها ويلباك حلا نهائيا لمعاناة الإنسان من الحب بالرغم من رثاثتها العلمية، إلا أن ميدانا بأكمله أضحت فيه تلك الأفكار تتجسد بسرعة متواترة وبتقدم لم تشهده الإنسانية من قبل، وآية ذلك سرعة إيقاع الاكتشافات العلمية في هذا الميدان، وهو تحديدا الهندسة الوراثية. فالتطور المذهل والانجازات الباهرة لهذا العلم مقرونة بالتطورات الجارية في علم النانوتكنولوجيا Nanotechnology ( تقانة الجزئيات المتناهية الصغر)، والروبوتية
Robotics ( تصنيع الإنسان الآلي) جميعها تعظم من إمكانات صياغة شكل حياة الإنسان بل وتغييرها جذريا. فالإنسانية ما أن تشرع بتطبيق منجز هذه التقنيات متظافرة إلا وينتهي بها المطاف إلى تطوير نسخة جديدة من البشر تتفوق بدرجة كبيرة وكاسحة على الإنسان بصورته الحالية.
وعلى الرغم مما يقال عن الأدبيات التي تتناول موضوعة إنتاج سلالة جديدة من البشر، من كونها ضئيلة، إلا أن ما يظهر منها حتى الآن مثير للدهشة. فمن خلال الهندسة الوراثية - وذلك مثال من بين عدة أمثلة - بوسعنا أختيار جنين ذي مواصفات خاصة، بل وتغيير السمات الجينية لهذا الجنين، وأبعد من ذلك مزج جينات أشخاص مختلفين في ذات الوقت. و لا تقف الإمكانات عند هذا المستوى بل تذهب خطوات أبعد مع إمكان مزج جينات أجناس مختلفة معا. ويعدنا العلماء أنه بمضي وقت قصير سيصبح متاحا تطبيق جميع ما سبق على أجنة مستنسخة عن الإنسان. جميع ذلك ستضفي عليه إنجازات النانوتكنولوجيا بعدا جديدا ، إذ ستغدو إمكانات ترميم أجزاء الجسد المستهلكة أمرا متحققا كلما دعت الحاجة إلى ذلك . و ربما نتيجة لذلك سيصبح بالمقدور تحقيق الحلم الأزلي للإنسانية بأطالة أمد الحياة إلى الأبد. ومن جانب آخر فإن التقدم المذهل في علم الروبوتية سيتيح الفرصة لجمع القدرات الإنسانية مع قدرات الكمبيوتر والرجل الآلي. الأمر الذي سيتمخض عنه تعريف جديد لمفاهيم مثل الواقع، والخيال، والألم، واللذة. بل أن هناك من العلماء من أطلق على تلك المرحلة التي سيتم فيها توليفة الدماغ الإنساني بإمكانات الكمبيوتر بـ (الواقع الافتراضي الحقيقي) The real virtual Reality كعهد جديد يتجاوز ما عهدناه في مرحلة ( الواقع الافتراضي ).
ويجزم باحثون عديدون بإن ما يفصلنا عن جعل تلك التطورات حقيقة ناجزة ليس سوى بضع سنوات لا أكثر، بل إن بعضهم يعرض بصورة شائقة التدرج الذي ستأخذه تلك التطورات وتسير على هديه، مثل الكتاب الهام:Enough : Staying Human In an Engeneered Ageلبيل ماكيبن والصادر عام 2003، الذي يعرض فيه بصورة مبسطة وشاملة لتلك التطورات العلمية الكاسحة. و بوضوح - و كما هو الحال مع آخرين يشاطرونه العمل في هذا الميدان - يؤكد ماكيبن على أن الإنسان بعد تلك الاكتشافات والتطورات لن يعود بالصورة التي كانت عليها نسخته القديمة.
والحال كذلك ، ربما سيحتاج من تندر على مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو التي ختم بها كتابه ( الكلمات والأشياء) الصادر عام 1966 من أن : "الإنسان اختراع حديث سرعان ما سيختفي تماما كرسم لوجه في الرمال" ، إلى إعادة النظر بما كان يردده ومقتنع به من أفكار، وبخاصة بعد استقرار مصطلحات جديدة بين الباحثين مثل الإنسان العابر Trans Human والإنسان المابعدي Post Human ، وذلكما المصطلحان يشيان بإن الإنسانية بوضعها الحالي ليست سوى مرحلة أولى، تعقبها مرحلة مختلفة، بل أنهما استطرادا يقترحان أن الإنسانية بنسختها الحالية ليست سوى جسر تؤدي إلى الإنسان الحقيقي.
ولعله من الطرافة ملاحظة أن تلك الفكرة ما برحت تراود أذهان المفكرين وبخاصة في العصر الحديث، ألم يقل كارل ماركس بأن ما تعيشه الإنسانية ليس سوى مرحلة ما قبل التاريخ Prehistory و أن التاريخ الحقيقي للإنسانية لن يبدأ إلا مع تطبيق الشيوعية. ويسري الأمر كذلك على نيتشه، الذي كان بدوره واثقا من أن الإنسان الحالي ليس سوى مرحلة وسطى لبلوغ الإنسان السوبر.
أجمالا، أن الإنسان الجديد الذي يبشرنا به العلماء، ستتيح له الفتوحات التكنولوجية قدرة كبيرة وتامة على برمجة عناصره الجسدية ومفاهيمه الذهنية. في الوقت الذي ستقدم فيه تقنية الاستنساخ مخرجا واسعا لأكبر المعضلات البشرية تعقيدا على المستوى العاطفي. وسوف تتم السيطرة بيسر على العمليات النفسية وإعادة توجيهها.
ولئن كان الحب فيما مضى يكتسب أهميته من كونه أداة مثالية للهرب من الوحدة والشعور بانعدام الأمان، إلا أنه سيؤول في المرحلة الجديدة التي ستنتقل إليها الإنسانية إلى حالة منضبطة ومبرمجة يشكلها الإنسان الما بعدي على النحو الذي يهواه ويبتغيه ، وفي الوقت الذي يريد، وبخاصة مع قدرته الفائقة على تصميم تجربة الحب وكثافتها على النحو الذي يشتهيه. حينذاك ستكف المعاناة عن كونها مقوما رئيسا للحب , وسيغدو الحب بصيغته التي عرفتها البشرية أثرا من الماضي ، ربما اهتم به الانثربولوجيين ومحبي الأساطير.