أحب القطط كثيرا، ويرجع هذا إلى أني أرى تشابهًا بيننا وبينها؛ فالقطط نظيفة، رشيقة، شقية، نشيطة، ذكية، لا تحب أن يتحكم فيها أحدا، كسولة في بعض الأحايين ومفكّرة. ربما كانت هذه نظرة متحيزة للقطط -لا بأس- غير أن هذا لا يمنع من أن أسأل سؤالا قد يبدو سخيفًا لأول وهلة: ما الفارق بيننا وبينهم؟ الإجابة المباشرة هي: الذيل، الفراء، المخالب والمواء. صحيح طبعا، لكن دعونا من الشكل، ولنتعمق قليلا في المضمون. الفارق الأساسي بيننا وبين أحبائي من المتقطقطين والمتقطقطات هو العقل الذي يعرف أيضا باسم لـُب في الفصحى.
إن عقل الإنسان لهو أثمن ما أنعم الرحمن عليه؛ فهو سبيله كي يرقى أو يشقى، وقد قصدت عن عمد استخدام أفعل التفضيل، بالرغم من عدم ميلي إلى ذلك عادة. وعليه، فكل إنسان له عقله الذي يختلف عن غيره تبعًا لما نشأ عليه بالتربية، وما يكتسبه من معارف، وكذا تفاعله مع الناس، وبما أنّا خلقنا لنتعارف، فالاختلاف من طبائع العمران المحمودة أما الخلاف فهو النقيض الذي يقوّض أُسس العمران. هذه بديهيات لكنها -للأسف- تاهت عن أذهان كثير منا في أحاديثنا إلا من رحم ربي.
يمكن تصنيف هذا كله ضمن طائفة اكتساب المعرفة، لكن من قال أن الأمر يقتصر على ذلك فقط؟ عفوا! هناك الوجه الأخر من العملة ألا وهو التفكير؛ فاكتسابك للمعرفة مبني للمعلوم، يعني على (اقرأ)، وربما تملك موهبة الكتابة فتصبح ضمن من يسطرون، لكن ألم يخبرنا ربي بأن من يستخدمون عقولهم في التفكّر هم "أولو الألباب"؟
بلى؛ إنهم لا يتوقفون عند مرحلة اكتساب المعرفة؛ بل يتعدى الأمر إلي التفكّر والتمعّن والتدبّر في خلق السموات والأرض بمعناه الواسع، أي حياتنا ككل، ولاحظوا أن كل هذه الأفعال تأتي بصورة المبالغة للدالة على التعمّق في التفكير. الأمر -إذًا- يتوقف عليك أنت بصورة أساسية؛ إن وضعت عقلك على الرف، فسوف يعلوه التراب، وفي هذه الحالة سوف يحتاج الأمر إلى مساحيق تنظيف لا تتوافر -للأسف- في أسواقنا الاستهلاكية، أما إذا استُخدِم فيما يفيد فسوف تختلف كثير من الأمور.
الأمثلة دائما تُسّهِل الأمور، لذا أسوق إليكم ثلاث منها:
- الأول: سورة (يُوسُف)، كما نعلم جميعا فهي أحسن القصص، لكن ما رأيكم في النظر إليها بمتطور أشمل؟ يخبرنا ربي في بدايتها [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)]، وفي نهايتها [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (111)]، إذا الأمر أساسا للتدبر قبل كل شيء منذ البداية وحتى النهاية.
- الثاني: من الطبيعي ألا تتفق في الرأي مع غيرك دائما، لكن قراءة ما يكتبه يساهم في قدح زناد فكرك، ويثريك من حيث لا تدرى ولا تعلم؛ بفتح أفاق جديدة مثلا، أو الوصول لحل مشكلة أو حتى معلومة جديدة، لذا فلا تمتنع عن القراءة لمجرد أنك لا تتفق معه.
- الثالث: قليلة هي الأشياء التي أكرهها كثيرا ومن بينها الخزعبلات التي تجدها -للأسف- منتشرة على مستويات عدة -رأسيًا وأفقيّا- انتشار النار في الهشيم، والعجيب أنك ما أن تفندها حتى تجد أن بنيانها بلا أساس سواء من الدين أو العلم أو المنطق، بل وبصعب فلسفتها أيضا، اللهم سوى بجعلها مبنية للمجهول، لذا لا سبيل لمحاربتها سوى إعمال العقل، فالنور وحده كفيل بتبديد الظلمات.
إذا كلما أمعن الإنسان النظر في ملكوت ربي فسوف يقوده هذا لمزيد من التقوى وليس العكس؛ أوليس أكثر الناس خشية لله هم العلماء؟ بلى، لذا إن رأيت من يملك من العلم كثير ولا تر أثر ذلك العلم عليهم تطبيقًا، بل ترى شططا فلا تأس عليهم؛ فهؤلاء قد ران على عقولهم وُطبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون ما تعلموا، وتلك -لعمري- طامة كبرى؛ فالأمّي الذي لا يقرأ ولا يكتب على الأقل قد يكون عنده عذر.
قد يقول قائل: هل تريد أن نكون جميعا "ابن رشد" أو "أرسطو" أو "ديكارت" مثلا؟ كلا البتة! فكل له قدرات تختلف عن الأخر، والتنوع هدفه العمارة، لذا -ببساطة شديدة- كل إنسان منا قد ألزمه الرحمن طائره في عنقه، وهذا العنق يحمل رأسه التي تحوي العقل، وعليه، من الجيد بمكان ألا يقتصر الاهتمام بها على كريمات الشعر والشامبو ذو البلسم اثنين في واحد فقط؛ فعقلك هو تاجك!
حسن! ما دخل كل هذا بالقطط؟
"لا أعلم" ومن قالها فقد أفتى.