من الغريب أن تبدأ مقالة ما بتجربة. لكن أليست التجارب تؤدي إلى مشاهدات، ومنها نصل لاستنتاجات طبقا للمنهج العلمي؟ بلى، إذًا لنأخذ بالأسباب بعد التوكل على ربي، ولا تقلقوا، فليس للتجربة علاقة بالثانوية العامة (علمي/أدبي)، كما لن أشق عليكم.
حسنُ! احضروا كوبا شفافا وصُبّوا فيه من الماء حتى منتصفه، ضعوا على منضدة، ثم اسألوا من حولكم سؤالا: "هل الكوب نصف فارغ أو نصف ممتلئ؟" نعم، إنه ذلك السؤال الشهير بيد أنه لغرض آخر غير ما هو متعارف عليه من نظرة بني آدم للعالم؛ إيجابية كانت أو سلبية. ترى ما هي الإجابات؟

الإجابات لن تخرج عمّا يلي:
-    أولهم سيُجيب قائلا بأن الكوب نصفه فارغ؛
-    ثانيهم سيُجيب قائلا بأن الكوب نصفه ممتلئ؛
-    ثالثهم سيُجيب قائلا بأن الكوب ممتلئ كله؛
-    رابعهم سيُجيب قائلا بأن الكوب فارغ كله؛
-    وخامسهم سيُجيب قائلا بأن الكوب غير موجود.

في إطار المرجعيات
ممتاز! حصلنا على إجابات بيد أنها أوقعنا في حيرة جديدة؛ من على صواب؟ تمهلوا قبل التسّرُع في الإجابة، فهناك نقطة رئيسة غائبة؛ نحن لم نحدد إطارًا مرجعيًا للسؤال منذ البداية. الإطار المرجعي، أعزائي، هو الأصل الذي يُنَسّب إليه السؤال، وعليه هل مرجعية السؤال كيفية، أم كَمّية، أم ظرفية؟ تكون إجابات السؤال، حسب وجهة نظر الشخص في إطار مرجعية ما، كالتالي:
-    المرجعية الكيفية: تعنى ما هي حالة الكوب؟
o    من يرى نصفه الفارغ؛ وعليه تكون الإجابة الأولى صواب والباقي خطأ؛
o    من يرى نصفه الممتلئ؛ وعليه تكون الإجابة الثانية صواب والباقي خطأ؛

-    المرجعية الكمية: تعنى على ماذا يحوي الكوب؟
o    من يرى ماء/من يرى هواء؛ كل حسب ما يراه وعليه تكون الإجابتان الأولى والثانية صواب والباقي خطأ؛
o    من يرى مادة؛ كل حسب ما يراه وعليه تكون الإجابتان الثالثة والرابعة صواب والباقي خطأ.

-    المرجعية الظرفية: تعني هل تقصد الآن أم قبل قليل؟
o    الآن؛ وعليه تكون جميع الإجابات قابلة للتمحيص في ضوء المرجعيات السابقة/أخرى؛
o    قبل قليل؛ لا نعلم عن الكوب شيئا وعليه تكون جميع الإجابات خاطئة بدون مرجعية.

عن الحرية والقيود
يعني هذا أنه لمناقشة موضوع ما، من الهام بمكان أن نتفق على إطارًا مرجعيًا نطرح من خلاله الأسئلة، أما إجاباتها قد -بل عادة- تتنوّّع حسب وجهات النظر، وهذا هو "الاختلاف" الذي يُثري حركة الإنسان عن طريق التدافع الذي هو سنة ربي في كونه، أما بدون إطار، فإن "الخلاف" هو الذي يسود، وهو النقيض، ويؤدي لصراعات للتنازع فنفشل وتذهب ريحنا، يعني، البون شاسع بين رد الأمر لإطار ما نختلف ونتفق في مظلته، وبين أن نرده للأفراد ليحكموا بعقولهم وأهوائهم فقط على مشاربها.

في هذا الإطار، حريتنا إذًا ليست "مطلقة" كما يهتف كثيرين إلا من رحم ربي. بلى؛ نحن أحرار في "خياراتنا الشخصية" التي يجب ألا يمليها علينا أناس مثلنا ما قسرًا وجبرًا، وذلك من حيث كوننا محاسبون على أعمالنا؛ لأن كل إنسان ألزمه ربي طائره وعقله مناط تكليفه، أما من حيث كوننا نفعل ما نشاء بغض النظر عن عواقبه السيئة على غيرنا، فسوف نكتشف أن ما نعتره حريتنا المطلقة هذه قد تعدّت على حرية غيرنا، وتحولت إلي قيد على غيرنا، مما يؤدي إلي عدم ضياع العدل بين الناس في المجتمعات الإنسانية أي الظلم الذي هو ظلمات في الحياة والممات.

مهلا! قد يقول قائل أنه يمكن الوصول للإجابات الثلاث الأخيرة من خلال "ملئ/إفراغ الكوب" أو "تحطيمه"، نعم، بيد أنه أمر بدون مرجعية ومرده رؤية ضيقة الأفق. يا للعجب! أليس هذا هو الإرهاب؟ حيلة العاجز عن تقّبُل الاختلاف بل وحتى تّحمُل الخلاف لذا يفرض بالقوة ما هو ليس بواقع.

وختاما، أم يجعل ربي من الماء كل شيء حي؟ حسنُ! لنشرب.
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)} - سورة هود

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية