لا يمكن لأحد في واقع الأمر وعلى وجه الدقة تحديد نوع «المنهج الفكري السياسي» الذي يحكم دول «المنطقة العربية» اليوم!
إنه خلطة مكونة من ثلاثة عناصر متناقضة: المنهج الشيوعي الذي اختزله «العرب» إلى نوع من الاشتراكيات الممسوخة المفصلة على قياس قصورهم الفلسفي والفكري في «العصر المنحط» الذي يعيشونه في مختلف جنبات المنطقة العربية، دون أن يفيدوا شيئاً من حسنات النظام الاشتراكي الذي خُنق في مهده في بلادنا، بسبب البيروقراطيات والمحسوبيات والرشاوى والوجاهات وانكسار شخصية المواطن ووهنها ومرضها.. فلا عدالة اجتماعية، ولا محو للأمية، ولا ازدهار للفنون والآداب والرياضة.
هذه التركة الشيوعية الممسوخة، وتحت قبة الحكم التي تُطبخ فيها أوضاع العباد من «المواطنين»، خُلطت بنفس القَدْر من نسخة مشوهة من الرأسمالية الديمقراطية «الأصلية» التي تعلق تطبيقها مباشرة في بلادنا بحذف زائدتها «الدودية» الديمقراطية (فهي بالنسبة للعرب مجرد زائدة دودية!). واقتصر دور تطبيق فهمنا للرأسمالية على عائداتنا البترولية التي تذهب في معظم الأحيان ورأساً إلى جيوب بعض محتكري السلطات في منطقتنا المنكوبة، فلا يَعرف منها المواطنون طرقاً معبدة نظيفة مع إشارات مرور محترمة، ورجال أمنٍ يلزمون المواطن احتراماً وأدباً على احترامها، ولا مستشفيات مجهزة لخدمة البشر كبشر يعمل فيها أطباء وممرضات ينتمون لبني البشر وليس لفئة مصاصي دماء البشر! ولا مدارس لائقة بما فيها من وسائل تربوية ومعلمين مُلمين بمهماتهم في تربية البشر، مما يليق بدول كان من المفروض أن تكون من أغنى دول العالم! ولا أسواق حرة بمعنى الحرية الرأسمالية الحقيقية، ولا هياكل اجتماعية لبناء البنى التحتية للمجتمع من مؤسسات الخدمات الاجتماعية وتجمعات المجتمع المدني والأحزاب التي ينَظِم من خلالها المواطنون أنفسهم وأفكارهم ومعارضاتهم.
ثم أضيف إلى هذه الخلطة «الاستثنائية» العنصر الثالث، وهو ما يدّعيه الجميع من أن مصدر الإلهام والوحي الذي يتنزّل على حكامنا الأشاوس دائماً وأبداً، وخاصة أيام الغزو والمحن والإعدامات –إعدامهم بالطبع- إنما هو الإسلام ولا شيء غير الإسلام!
.. وفي هذه الطبخة السياسية الاجتماعية الثلاثية «المذهلة»، نترك جانباً تلك المعارك التاريخية عما إذا كان الإسلام «مصدر التشريع» أو «مصدراً من مصادر التشريع»! فنحن، دولاً وشعوباً، ندّعي أن ديننا هو الإسلام: المساجد ممتلئة بالمصلين، ومدارس تحفيظ القرآن يكاد خريجوها يسدون لكثرتهم الأفق! والكلّ فقهاء مُفتون، والحاكم يشجع وينفق الملايين على بناء المساجد العظيمة الهائلة على طرف الأطلسي، بل داخل مياه المحيط بالضبط، تعاني مدّه وجزره كما عانت الشعوب جبي الضرائب تحت التهديد بقطع الرقاب ما لم تُدفع الأتاوات لبناء هذه الصروح التي تتسع للآلاف المؤلفة من المصلين في ليالي رمضان.. ويعد هذا دليلاً قاطعاً على حبّ الإسلام ورفعته وازدهاره في بلاد المؤمنين وأمرائهم!
في مشهد لا يمكنني أن أنساه، رأيت مرة في التلفاز ابنة الرئيس «حافظ الأسد» وهي تنحني لتقبل يده. المشهد نفسه تكرر مع أحد الزعماء الشيوعيين من أكراد المنطقة العربية، لكن حدوث الشيء ذاته مع أردوغان، الزعيم التركي الحالي، جعل الأمر يستعصي على فهم من لديه عقل أو ألقى السمع وهو شهيد!!
يوم استلم الملك المغربي الشاب محمد السادس مقاليد الحكم في بلده، وخاطب الشعب المغربي بقوله «شعبي العزيز»، استبشر «الجميع» خيراً باستبداله لكلمة «الرعايا» المعهودة. وعزز من بهجة «الجميع» يومها رفض الملك الشاب الواضح وأنفته الشديدة من أن ينحني كبار رجال الدولة والجيش أمامه ليقبلوا يده. كان الملك الشاب يبدو في أشد حالات الضيق وهم يفعلون ذلك، بل وكان يسحب يده بطريقة تظهر للقاصي والداني كرهه ومقته، لأن تفعل قيادات «شعبه العزيز» هذا الفعل الشائن. لكن الأيام مرت، وبدا أن حاشية الملك المداهنة المنافقة استطاعت أن تفرض عليه هذه الطقوس المقيتة البغيضة التي تنتمي لعصور الانحطاط الإنساني، يوم كان البشر يسجدون أمام ولاة أمورهم، وينبطحون أرضاً كما يفعل الرهبان في حضرة كبار قسيسي الفاتيكان. وتقبيل اليد ما زال عادة سارية حتى يومنا هذا هناك.
ما الفرق إذن بين زعيم وآخر من زعماء المنطقة العربية، سواء كانوا يعلنون للملأ أنهم اشتراكيون أم شيوعيون أم إسلاميون أم ملكيون؟!
لم يغير «المنهج» الذي يعلنون اِلتزامهم وإلزام شعوبهم به من عاداتهم الشخصية شيئاً، لا في حياتهم الأسرية ولا الشخصية ولا الاجتماعية، وبالتالي السياسية. ما زلنا جميعاً ننحني على الطريقة التركية الكنسية القديمة لنقبل الأيدي والأرجل.. كلنا.. في كل المنطقة! بل ومن نزح وهاجر منا خارج دول المنطقة. تقبيل الأيادي عادة متأصلة في أرواحنا المعذبة.. عادة ما أنزل الله بها من سلطان!
لم تستطع أي من المناهج السياسية والفكرية التي تحكمنا أن تغير شيئاً من عاداتنا ولا قناعاتنا ولا تشكيلتنا الشخصية في الانحناء وتقديم الولاء للأب والأم في البيت، ثم لكل كبير وولي نعمة خارج البيت. لم يستطع أي منها أن يعلم المواطن –وكما قال «غوار الطوشة» أطال الله بقاءه- أن الإنسان خلق ليرفع رأسه لا ليركع لأحد من الخلق كائناً ًمن كان.
بعضنا يقبل اليدين والرجلين تقبيلاً مباشراً، والبعض الآخر نفاقاً وكلاماً معسولاً، وآخرون يأتون بأفعال يبدو فيها جلياً الخلل العقلي الجماعي الذي انتشرت عدواه بين مواطني المنطقة. فيوم زار الرئيس السوري الأسد الثاني إسبانيا وقف أحدهم ممن لا يضيع صلاة الجماعة في المسجد وفي الصف الأول، وقف على باب السفارة السورية وقد كتب كلاما –يمكننا أن نسميه تجاوزاً «كلاما»- وراح يهتف بحياة الرئيس ويهذي ويصيح كالمجنون بكلمات لا تليق إلا بالحضرة الإلهية! والرئيس الشاب منذهل بما يسمع ويرى، ولسان حاله يقول «خلصوني من هذا المجنون»!
لماذا لم يستطع المنهج أن يغير الناس؟ فاجأتني إحدى الصديقات مرة بأسماء أولاد عمها: لينين، غيفارا، ماركس! فهمتُ أن عمها شيوعي، لكنني لم أفهم شيئاً عندما رأيته يصيح بزوجته أمام الناس وكأنها دابة ويقول لها: أنت غبية لا تفهمين شيئاً، فاسكتي وأريحينا من همّ الاستماع لرأيك الأحمق!
ماذا غيرت الشيوعية التي يدّعيها هذا «الشخص» في أخلاقه الجاهلية التي لا تختلف في شيء عن أي «متدين متعصب» يدّعي أن قوامته على زوجته تستدعي تأديبها بالضرب والهجر لأتفه الأسباب التي قد تكون عدم ضبطها لكمية الملح في الطعام.
لو استعرضنا أخلاق الناس في المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها، على اختلاف مشاربهم ومعهم الملايين المهاجرة منهم إلى الغرب –إلا من رحم ربي– لوجدنا اختلافاً عظيماً في الخطابات وتوافقاً مخيفاً في السلوكيات. كلٌ يدعي وصلاً بليلاه، وكلهم متلبسون بعشق أنفسهم!
لم يكن المنهج قط هو المشكلة في منطقتنا، لقد كانت المشكلة دائماً الإنسان الذي يدّعي تطبيق المنهج وربما يقاتل حتى يُقتل تحت رايته وهو لم يفهم منه شيئاً إلا رفع الراية في معارك خاسرة.
عندما تفشل المناهج على اختلافها في تغيير حياة الناس في مكان وزمان معينين، فينبغي على أهل ذلك الزمان وهذا المكان أن يعودوا إلى «مراياهم الخفيّة» ليسألوها عن درجة قبحهم الحقيقية، التي لا تظهرها المرايا العادية التي اعتاد الناس أن يشتروها من سوق النخاسة، سوق العبيد التي لا يحتاج فيها أحد إلى استيراد العبيد، لأن كل من فيها صناعة محلية، صُنعوا ورُبوا وجُهزوا عبيداً وهم ما زالوا في بطون أمهاتهم.