لايمكن بحال من الأحوال لدى الحديث عن السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية أن نحصر الحديث في اتجاه واحد ولاتيار واحد ، وذلك على الرغم من أن التيارات "الفكرية" الثلاثة الرئيسية في بلادنا كانت تحاول وبصورة مستميتة أن تلغي الآخر وبكل الطرق الممكنة ، الآخر الذي هو نحن.
الآخر الذي هو هذا القطاع الآخر منا والذي لايفكر مثلنا ولايلتزم بأسلوبنا في رؤية الأشياء والطرق التي نراها لتغييرها ، هذا الآخر الذي قُمع وبكل وسيلة وحشية ممكنة بسلطة القوة أو سطوة الإعلام من قبل كل من وصل إلى الحكم، والكلام خاص بمن يُسمح لهم بالوصول إلى الحكم!! ، فمن المعروف أنه في زمن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان الأمريكية لايمكن لبعض الفرقاء في المنطقة العربية الوصول إلى الحكم مهما كان حجم الأغلبيات التي تصوت لهم في الانتخابات ، ومهما بلغت هذه من النزاهة والاستقلالية والتعبير الشريف والنظيف عن رغبة الشعوب في المنطقة العربية!
وعلى الرغم من السجع والقافية الترفيهية فإن هذه حقيقة عربية واقعية يجب أخذها بعين الاعتبار لدى أي حديث في "السياسي والاجتماعي" في بلادنا المنكوبة ب"الآخر" ، الآخر من "الجِنة" والآخر من "الناس" ، الآخر من عند أنفسنا والآخر من الخارج.
شيء عجيب هذا الخُلق السياسي الاجتماعي المتأصل في نفوسنا بضرورة إلغاء "الآخر" ، حتى أن الرجل في المنطقة العربية عندما يريد أن يتزوج فإنه لايبحث عن شريكة لحياته ، ولكن يرسل أمه لتختار له "مخلوقة " يمكن تطويعها وترويضها ، ولاينحصر عمل معظم الرجال في بيوتهم العربية بالعمل والانتاج والنمو والمساهمة في نهضة أنفسهم وأسرهم وأمتهم، ولكن في هذه المهمة:إلغاء دور الزوجة والأم والمرأة ، وكل من تسول لها نفسها الخروج عن الدور المرسوم لها في بيتها "عربيا" = وليس إسلامياً= في الخدمة الصامتة والتحمل الأعمى تكون "ناشزاً" !، نفس الدور يمارسه المدرس والمُدَّرِسة في مدارسنا : إلغاء شخصيات الأولاد بصورة نهائية والسيطرة عليهم بشكل كامل ، وكل من تسول له نفسه المناقشة أو الاعتراض أو حتى التجرؤ على أن يعبر عن حقه المشروع في أن يعيد عليه المعلم شرح شيء لم يفهمه ، فهو مشاكس معاكس مدسوس من جهة تكره المعلم وتريد طرده من سلك التعليم، وعلى ذلك فقس !! = بفتح الفاء وكسر القاف وتسكين السين=!!.
تعليقا على هذه العبارة كتب البروفسور الفيلسوف المغاربي محمد عابد الجابري يقول في مقدمة كتابه الهام (قراآت معاصرة في تاريخنا الفلسفي) : "أصبحت عبارة "و..قس على ذلك.." تُغني عن مواصلة البحث والاستقصاء ، لقد ترسخت آلية هذا القياس في نشاط العقل العربي حتى أصبحت "الفعل العقلي" الوحيد الذي يُعتمد عليه في الانتاج المعرفي". جاء ذلك في سياق حديثه عن كيفية استعادتنا مجد حضارتنا؟ ، فالتيارات الثلاث الرئيسية "الفكرية" التي حاولت النهوض بالأمة سياسيا واجتماعيا ، هي التيار الديني والتيار اليساري والتيار العلماني ، حاول كل منها ومازال إقصاء الآخر واستئصاله كلما استطاع الوصول الى أي نوع من أنواع السلطة مادية أو معنوية تمكنه من ذلك.
المعضلة الأساسية تكمن في أن هذه التيارات الثلاث في المنطقة العربية ، لم تكن لتهتم بالوضع الاجتماعي بقدر رغبتها المحمومة في الوصول إلى الحكم ، والدليل القاطع على هذا القول هو عجز هذه التوجهات الفكرية الكبرى في بلادنا عن إحداث أي تغيير يكاد يذكر في التركيبة النفسية والفكرية والسلوكية الاجتماعية لمجمل المجتمعات التي تعيش في المنطقة العربية ، بله لدى الإنسان الفرد الذي هو الأصل في عملية البناء الأسري والاجتماعي .
لاأستثني من ذلك أياً من التيارات الثلاث ، وذلك على الرغم من أن التيار العلماني لم يكن له في المنطقة العربية على الأقل لا الامتداد الشعبي ولا القبول الذي تمتع به الاسلاميون واليساريون بين الأوساط الجماهيرية كما لم يستطع تحريك الشارع ولا التهديد بالوصول إلى السلطة ، وهنا يمكنني الرجوع إلى الأسئلة الثلاث التي طرحتها في الجزء الأول من هذا الموضوع والتي كانت ترمي إلى إعادة تفكيرنا في مسؤوليتنا الشخصية كأفراد عن الأوضاع المخزية التي يعيشها الانسان والأسرة والمجتمع والأنظمة الحاكمة والأمة في منطقتنا !.
لقد اكتفت الحركات الثلاث =والحديث هنا مقتصر على الناحية الفكرية فيها= على تقديم قراءة سلفية للتراث =كما يقول المفكر الفيلسوف عابد الجابري= تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه "الحلول" الجاهزة لمشكلات الحاضر والمستقبل ، ولاينطبق هذا القول فقط على التيار الديني ، ولكن على التيار اليساري والعلماني كذلك " باعتبار أن لكل منها سلفاً يتكيء عليه ويستنجد به" .. والمعضلة الحقيقية تكمن في القراآت العقيمة لهذه المراجع التاريخية ، قرآت لاتستند إلى فهمها من خلال الواقع الذي نعيشه ولا من خلال العصر الذي نزلت فيه ولا الاعتراف بإنسانية الانسان الذي تلقاها في حينه ، وهكذا جعلت هذه التيارات من السلف أمثلة للاستنساخ وليس معلمين للتفكير في آليات التغيير ، بهذه الطريقة يقتبس العرب جميعا كل مشاريع نهضتهم من نوع من الماضي ، الاسلاميون من تاريخ الاسلام العظيم ، واليساريون من التجربة السوفييتية ، والعلمانيون من أوربة الماضي والحاضر .
"لقد أصبح البحث عن الحلول الجاهزة في حياة "العرب" مما لايتوافق مع حاجاتهم وهويتهم الدينية ومشكلاتهم المعاصرة ، "هو النشاط الذهني الوحيد الذي يمارسونه" وهم في مواجهة المشكلات المستجدة في حياتهم المعاصرة ، حتى أن طلاب المدارس في بعض الدول العربية يجدون في كتب الفيزياء والرياضيات آية قرآنية جاهزة تعود بهم وبعد شرح كل قانون فيزيائي أو رياضي ومباشرة إلى التفكير الديني الذي يجعل الطالب مجرد آلة لرد كل شيء في حياته إلى نص قرآني يقحمه واضعوا المناهج المدرسية في تلك الدولة على عقل التلميذ ليشلوا تفكيره بالكامل ، بدل أن يتركوا لعقله حرية العمل التلقائي ليفكر هو وحده في الارتباط الممكن بين القانون الفيزيائي أو الرياضي وذلك النص !.
المضحك المبكي في ذلك كله هو اتهام الحركات الاسلامية بالسلفية ، بينما كل الحركات الفكرية الموجودة على ساحة المنطقة العربية هي حركات سلفية عاجزة عن "التفكير" باستقلالية ومنهجية ، التفكير بمعنى إنتاج فكر يتطلبه الواقع وتتبناه الأمة ، "إنه جزء من بنية العقل العربي المعاصر الذي يتعين فحصه بدقة ، ونقده بكل صرامة ، قبل الدعوة إلى تجديده " .هذا العجز هو الأصل في عجزٍ آخر أشد قسوة وأكثر رنيناً ، إنه الفشل الذريع في إحداث أي تغيير في حياتنا الاجتماعية والذي هو الأساس في إحداث التغيير السياسي ، الانسان أولا ثم المجتمع ثانيا ثم السياسة ثالثا . =يتبع=
_____________________________
* جريدة العرب القطرية / زاوية الرأي