الولع بالتاريخ ليس ترفًا بل حاجة! ودراسته والاهتمام به ليست ضرباً من ضروب العبث الذي لاطائل منه بل قمة الجد! إنه ليس استذكارا لأطلال تهدمتْ ولا مناجاة ً لشخوص دفُنتْ ولا استحضارا لمعالم دَرسَت ْولا استرجاعا لسيرٍ مضت. إنه معنى أبعد من ذلك بكثير إنه شعور بالامتداد والتواصل بين أقطار الأرض وجهاتها الأربع شعور تختفي فيه الفوارق وتذوب فيه حدود الزمان والمكان شعور تنش له الروح ويخفق له القلب وهما يلتمسان معا حقيقة ذلك التلاقي عبر العصور مع كل من سبق على وجه هذه الأرض من عبيد الله جل وعلا.
ومع هذا فالناس عندنا مشارب ومذاهب في نظرتهم للتاريخ وذاك كله انعكاس طبيعي لنظرتهم للحياة بأسرها فبعضهم لايعجبهالتقليب في الكتب الصفراء أو القديمة لما رسَخ َفي أذهانهم أو رٍُسّخَ عن إنّ التاريخ كله بما فيه تاريخهم ماهو إلا صفحات سوداء لا هي بيضاء ولا صفراء حتى!
والبعض الأخر من النوع الذي شغله حاضره ومستقبله عن ماضيه فهو غارق من القدم حتى الهامة في أتون حياته اليومية بكل تفاصيلها ولا يملك وقتا حتى ليسأل نفسه عن شيء مضى إلا في مايتعلق بتلك الشؤون التي تستهلك عمره وتستنزف وقته.
والبعض الأخر يتخذ لنفسه فلسفة خاصة تقوم على التقززوالنفرة والتعالي عن كل ماهو ماض أوقديم لأنه في نظره رمز لكل ماهو متخلف ورجعي و دليل تقهقر للخلف فيما غيرنا يسابق الزمن وربما إن حدثته عن شيء من تاريخه قاطعك بيت شعر لايمل من ترديده في كل محفل:
ليس الفتى من قال كان أبي إن الفتى من قال هاأنا ذا
وبقي أولئك الثلة من الناس ممن جعلوا قلوبهم أوعية للماضي وصدورهم محطات تلتقي عندها العصور وعقولهم مرابد تحتفي بثقافات من مضى من الناس أولئك تركوا المجال لعيونهم كي تحلق وأرخوا العنان لأناملهم كي تقلب في تلك الكتب الصفراء والدفاتر القديمة تنفض عنها غبار الزمن المديد كي تحاكي الشخوص وتعايش الافكار وتتفاعل مع الأحداث وتحس بالأفراح والأتراح والآمال والآلام وتتنزل إلى حيث مواضع الضعة والضعف والخور والكذب والجبن والسفاهة والغدر والمكر والجبروت والظلم، وترتفع حيث مواضع العزة والكرامة والرفعة والشهامة والكرم والنبل والصدق والشهادة ونكران الذات في سبيل كل هدف اجمع العقلاء في كل زمن على انه سام ٍ وعظيم.
إنهم لايقرأون بعيونهم وأناملهم بل بأرواحهم التي تنقبض تارة وتسُرُ تارة وتتنهد تارةوأحيانا كما لوأنها تريد أن تنخلع من سجنها في البدن؟إن التاريخ غذاء لتلك الأرواح الطيارة التي لاتعترف بحدود الزمان والمكان فحيث ماكان هناك اثرٌ لإنسان مضى وعلى أي ارض فتراثه ماديا كان أم معنويا وضيعا كان أم مشرفا مادة جديدة للتأمل والتدبر والدرس والعضة والاستفادة والاستزادة.
فهم أولا وأخرا خلق الله جل وعلا ولاشيء يمنع من السياحة في عوالمهم قدر المستطاع طالما القدم راسخ الخطوة والعقل ثابت اليقين والقلب مالك لرشده.
ومع هذا فمن دلائل رجحان العقل ورسوخ القدم ورشاد القلب أن تحدد الأولويات وتوضع الأهداف و تحدد السبل التي تعين المرء كي يعرف ما يأخذ ومتى وكيف لاسيما إن كان ذلك يعينه في زيادة المعرفة وتوسيع مدارك النظر وتعميق اليقين وتأصيل الإيمان في النفس وغرس الرجاء في القلب ووصل الروح ببارئها جل وعلا.
إن معرفة أحوال السابقين وسبر اغوارالامم والتعرف على الحضارات والبحث في قصص الشعوب وتفاصيل حياتها وطرق عيشها وتفكيرها وإبداعاتها ومبتكراتها لاسيما أولئك الذين تربطهم بنا وشائج الأرض والدين والنسب مدعاة لتجديد الصلة بهم والشعور بقيمة الانتماء لهم من جهة ومن جهة أخرى مدعاة للتأمل بأسباب رفعتهم ومجدهم وعلو كعبهم والتي يكون لزاما علينا أن نأخذبهااو على الأقل نسترشد بهداها طالما تلاقت الأهداف وحددت الوسائل مع بقاء الأولويات والخصوصيات التي تحدد المسار.
وكذلك التفكر في أسباب سقوطهم وأفول نجمهم وضياع ملكهم وذهاب ريحهم وكيف جرت عليهم المقادير ومضت فيهم سنن الله جل وعلا كبقية خلقه؟ ونحن معشر المسلمين بأمس الحاجة لامتثال هذه الدروس وعدم إهمالها تحت أي حجة أو عذر.
ولعل بعضها ماثل بين أيدينا وتنتظر من يتأملها ويتدبرها ويستشف عبرها من كتاب الله وهو كتاب المسلمين الخالد وهو وإن لم يكن كتاب تاريخ محض ولكن حديثه عن الأمم السالفة حديث طويل ومثير للتأمل حقا، انه حديث يترجم لك صراع الحق والباطل من خلال سير الأنبياء مع أممهم أولئك الثلة من الناس الذين أقام الله بهم الحجة البينة على خلقه وأبطل بهم دعاوى الضلال والشرك والفساد وحثهم على امتثال نداء الفطرة التي تحن لخالقها لولا نزقات الهوى ووسوسة شياطين الإنس والجنانه حديث يصور لك بيقين جازم عقبى الالتزام بسبيل الحق والرشاد والصلاح وعقبى السير في دروب الشياطين الماردة عن جادة الصواب.
والتنكر لصوت الفطرة الحقوذاك وذاك حديث لاينتني وأشباهه في كل عصر ومصر شاهد على إن سنن الله ماضية في خلقه بأسبابها ومقدماتها ونتائجها.
ولعل هذا ما يجب أن يدفعنا للتأمل ايضا في كتب السير والتراجم والملاحم والغزوات والحروب و البحث في أخبارالامم و الملوك والأمراء والساسة والقادة وأهل الحرف والشعراء والأدباء وأهل الصنعة والفنون و قراءة كتب القصص والنوادر والرقائق ومعاينة الآثار والأعمالانه درب المسترشدين الجادين وإن كانت متعته لاتنكروحلاوته تضرب في أعماق النفس والروح وهو طريق من يسعون للسير بجد للأمام وقد ملكوا زمام أنفسهم وتدعروا بأسباب المعرفة وتعرفوا سبل الرشاد التي تجعل لعملهم قيمة ولحياتهم معنىوهو طريق من يعرفون إن سنن الله ماضية فيهم كما مضت في غيرهم ومن هنا فهم يسعون كي يخلدوا أثرا طيبا في حياتهم يكون لهم ذخرا لمعادهم وفخرا لأجيالهم.