إذا كان الله قدّر عليّ أفعالي ، فلماذا يحاسبني ؟ وإذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة الله ، فما ذنبي ؟ كما تبدو تلك الأسئلة للجميع أنها أسئلة فلسفية ، لذلك فهي تحتاج لأجوبة فلسفية بحتة ، لكن قبل أن نبحر باحثين عن الإجابات الشافية عن تلك التساؤلات الفلسفية، ( فعلينا أن نتذكر ما أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بعدم الدخول في جدل ) *.
وقال لهم : إذا جاء ذكر القدر، فامسكوا.. *
على الرغم من أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى أصحابه بعدم الدخول في هذه المسائل،إلاّ أنّ الفلاسفة أثاروا هذه الأمور على العقول البشرية التي أصبحت تتردد في أذهانهم باحثين عن إجابات لمثل هذه التساؤلات.
إذن فلنرجع الآن إلى القرآن الكريم بعض الشيء، لنرى إجابة على أسئلتنا تلك.
فها هو القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة لم يترك مسألة إلاّ وقد ناقشها، فمن تلك المشاكل التي ناقشها هي مشكلة أزلية، ألا وهي مشكلة [ الحرية ].
[ فالحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك ويتسلل منها هواة الجدل من الملحدين، فأول ما يقوله الواحد ليقيم الحجّة على الدين كله أن يهتف محتجًّا * [ بطرح تلك الأسئلة المثارة في بداية قولنا.
ففي نظرتنا العامة نرى أنّ الإنسان كائن حر، غير منقاد، متمرد على كل شيء، على ظروفه.. طبيعته.. حياته، وفي المقابل نراه يصارع نتائج تمرده ويصارع العالم ويصطدم به، ومن الإستحالة أن نتنبأ بمصيره.
أمّا في النظرة الفلسفية نرى أن من الذين تكلموا عن [ حرية الإنسان ( فرويد )، فاعتبر الإرادة بسببها حرة في الظاهر، لكن مقيدة في الباطن وأسيرة لجبرية الغرائز، وآلية الحوافز الباطنية.. ولكنه نراه يناقض قوله، فيقول : إن الغريزة هي خام غفل تتصرف فيه الإرادة بالكبت أو بالإطلاق أو بالتسامي. *[
[ إذن فالغريزة تتحكم فيها الإرادة، كما أن الإرادة تتصرف في الظروف الخارجية وتتحكم فيها ].
نعود الآن في رحاب القرآن لنعرف أن الإنسان حر، وأنّ الله أوجد له الحرية التامة.
إذن كيف يحاسبني الرب على أفعالي !
إن مشئية الله عزوجل اقتضت في أنّ ضمير الإنسان ونيته وسريرته من المناطق المحرّمة وقدس أقداس لا يدخلها قهر أو جبر *، وأصبحت هذه المنطقة حرامًا لا يدخلها جنده.
فالمرء إذًا لا يحاسب على أفعاله مباشرة ولكن يحاسب عليها حينما تصدر على شكل أفعال سلوكية، فالله عزوجل أوجد له الحرية في كل شيء، فهو مخيّر ومسيّر.
فها هو الرحمن يخيّره في كل شيء، فيقول :
(( إنّا هدينا السبيل إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا )) - 3 - الإنسان.
فالقارئ للغة العربية وقواعدها يرى أنّ [ إمّا ] من أدوات التخيير، فهذا يؤكد لنا مبدأ وجود الحرية التامة، فهو إذن مخيّر.
(( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. )) النساء - 97.
وهنا أيضًا المتأمل في هذه الآية يرى بأنّ أراضي الله واسعة، فلك أيها الإنسان أن تختار ما تشاء فيها لتكون مهاجرًا.
فالله في كثير من الآيات يلّمح لنا ولكن لا يقول بشكل مباشر، حتى لا يتجادل الناس.
فجلّ علاه حينما خلق الخلق جعلهم مخيّرين في اعتناق دينهم، فهذا يهودي وذاك نصراني وهذا مسيحي، وهذا مسلم والآخر كافر [ ما من مولود إلا يُولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه ].
فلو أراد الله عزوجل أن تكون الحرية مقيّدة، لجعل جميع أصناف البشر معتنقة الإيمان، ولكن الحكمة في جعله الحرية متاحة للبشر
(( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) يونس - 99 -.
[ تكره الناس ] لم يختر الله عز وجل أن يرغم الناس كرهًا بالدين، بل أراد للإنسان أن يكون حر مختار، يختار الإيمان أو الكفر كما يشاء.
ولنرجع لتلك المنطقة المحرمة النية والسريرة، فنرى أنّ النية حرة، كما أنّ السريرة حرة في إضمارها لما تشاء، وأما الفعل فهو حر ومقدور في ذات الوقت، وكل شخص له نصيب من حرية الفعل إذ أنها حقيقة كما أن القدر حقيقة.
فالمشكلة الواقعة هنا هي أن نحاول أن نفهم هذه الإزدواجية، وكيف لا يلغي الواحد منه الآخر ؟
كيف لا يلغي القدر الحرية ؟ وكيف لا تلغي الحرية القدر ؟ *
فهذا ما نستوضحه من الآيات وضوحًا تامًا، فمنذ خلق آدم عليه السلام، وُجِدَ إبليس، فالله لم يجعل إبليسًا إبليس، وإنّما هو من اختار لنفسه هذا الطريق حيث تعالى وتكبّر وتجبّر على بقية الملائكة حينما سجدت لآدم، معللًا :
(( أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين )) ص - 67
فإبليس لم يعلم أنه اختار لنفسه الغرور بغير علم ولا حق، لذا اختاره الله ليغرر بالناس وقضى عليه قضاءً من جنس ضميره. *
وبالمقابل نقّى قلب خير البشرية - محمد - صلى الله عليه وسلم - فاختاره نبيًا للهداية :
(( والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا )) العنكبوت -69 -
فالقدر دائمًا يكون من جنس النية التي يعمل بها الإنسان وتصدر عن طريقها أفعاله وسلوكياته.
وعامة البشر ترى أنّ التناقض موجود، ولكن الله يوضح لنا العكس في كثير من الآيات، فالتناقض هو نتيجة لعدم سعة فهمنا للأمور.
(( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )) الكهف -29-
(( وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله )) الإنسان -30 -
ففي الآية الأولى يصف الله إرادة الإنسان الحرة، وفي الآية الثانية يتكلم عن إرادته الإلهية وهي القدر.
فالتناقض هنا ظاهري فقط، الله عزوجل أراد أن يبين لنا أنه لا يريد إلاّ ما يريده الإنسان نفسه، وهذا يرجعنا إلى تلك الحرية.
خلاصة ما نود قوله :
هو أنّ الإنسان مخيّر ومسيّر، فالله عزّوجل أوجد له الحرية التامة وحرّم جنده بالتالي هلى أن يدخلوا المنطقة المحرمة وهي ضميره ونيته وسريرته حتى لا يحاسب عليها، بل يحاسب على ما يصدر منه من أفعال سلوكية.
فحسابه على تلك الأفعال لأن الفعل كما قلنا آنفًا أنه حر ومقدور في ذات الوقت، فها هو القرآن فسّر مشكلة من أعظم المشاكل الجدلية ألا وهي الحرية.
__________________________________________
* القرآن محاولة لفهم عصري. د : مصطفى محمود