ومن الثابت أيضا إن قضيتهم لايمكن اعتبارها من المسائل التاريخية المجردة شأنها شأن أي مرحلة تاريخية معينة خاضعة لذات المنطق الذي يستخدمه الباحثون والاكادميون والمهتمون بالقضايا التاريخية ويجعلونه معيارا للحكم على تلك المرحلة التاريخية من خلال الاعتماد فقط على كم الروايات والأخبار التي تملأ بطون الكتب التاريخية و التي نقلها لنا المؤرخون والإخباريون عبر مصادرهم المباشرة وغير المباشرة.وهذا لايعني أبدا الاستغناء عن تلك الروايات أو غض النظر عنها بالكلية ولكن هناك عدة أسباب جعلت من قضية الصحابة قضية ذات وضع معين يعكس مدى خصوصية شأنهم والاعتبارات الموضوعية والذاتية التي تتعلق بهم والتي يجب أن لا يتغافل عنها احد والتي على ضوئها يكون الحكم على جيلهم أو أعيانهم حكما عادلا مبرئا للذمة أمام الله والأمة والتاريخ.
ومن هذه الأسباب:
أولا:
إن عهدهم يعتبر امتداد طبيعيا للعهد النبوي ولا يمكن عزله أو فصله عن ذلك العهد المبارك الذي كان فيه الرسول عليه الصلات والسلام حيا يرزق وكان فيه القران الكريم ينزل عليه مُنجما حسب الظروف والإحداث والحاجات والأسئلة التي تستجد في عهده والتي كان الصحابة وهم المخاطبون مع النبي بالوحي يعونها جيدا ليس باعتبارها أوامر شرعية فقط بل باعتبارها منهاج حياة ودليل عمل لهم وللأجيال المقبلة من المسلمين وكانت توجيهاته وفتاويه وتقريراته و خطبه وأوامره وتصرفاته محط عنايتهم الشديدة كونهم الجيل الذي نال شرف الصحبة والذي سيكون له أيضا شرف حمل للرسالة من بعده وتلك خصوصية لم تثبت لأحد قبلهم ولا بعدهم أبدا.
ثانيا:
إن الأمة ومنذ جيل التابعين وربما قبله قد وعت هذه الخصوصية وتشكل عندهم إجماع صريح فيما يتعلق بقضية تفضيل جيل الصحابة والذود عنهم أمام المشككين والمرتابين والطاعنين بمكانتهم وامتلأت بطون الكتب بالأدلة والبراهين الساطعة من أمهات المصادر الإسلامية و التي تثبت لهم ذلك الحق وأصبحت هذه القضية من المسلمات العقائدية ولم يشذ عن ذلك الإجماع وعلى مر التاريخ إلا من لا يعتد برأيه من أحاد الناس وبعض الفرق التي ابتعدت فكرا ومنهجا عن منهج أهل السنة والجماعة وبالتالي فمن الصعب تجاهل هذا الإجماع والتقليل من شأنه.أو القفز فوقه ؟
ثالثا:
إن التفاصيل المتعلقة بسيرتهم وحياتهم لا يمكن الإحاطة بها فقط بالاعتماد على المصادر التاريخية يل هي صورة متكاملة تداولها المؤرخون والإخباريون والمفسرون وكتاب السير والتراجم والمحدثون وأصحاب الصحاح و السنن والأصوليون والفقهاء والمتكلمون واللغويون والأدباء والشعراء والخطباء وتلك خصيصة أخرى يمكن أن تضاف إلى رصيدهم أيضا، وبطبيعة الحال يبقى التعامل مع هذا الكم الهائل من الأخبار والتفاصيل والأحكام المتعلقة بهم خاضعا لذات المنطق الذي ينزلهم مكانتهم التي أجمعت الأمة على أن تضعهم فيها من غير إفراط ولا تفريط.
ومما يجعل المصادر التاريخية وحدها غير قادرة على إعطاء صورة متكاملة وحقيقية عن حياة ذلك الجيل الفريد لأسباب موضوعية تتعلق بطبيعة تلك المصادر التاريخية التي جرى الاعتماد عليها بالكلية
ومن أهم هذه الأسباب :
أولا: تأخر عصر التدوين للتاريخ العام للعرب إلا أوائل عهد الخلافة العباسية وان كان المؤرخون يشيرون إلى انه سبق ذلك التاريخ ففي العهد الأموي ظهرت جهود لتدوين تاريخ العرب الخاص بأشعارهم وقبائلهم فقط ومن المعروف إن أول كتاب تاريخي كان عن السيرة النبوية لمحمد بن اسحق المتوفى سنة 151ه والذي كان كتبه للخليفة المنصور ثاني الخلفاء العباسيين ومن الطبيعي إن يفتح هذا التأخير باب الكذب والدس في كتب التأريخ وكما هو ملاحظ ومشخص
ثانيا : كثرة الداخلين في الإسلام من غير العرب من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الطبيعي أن يكون هذا الوضع عاملا مساعدا في فشو الكذب والدس ومن هنا نجد ذلك الكم الهائل من الروايات والأخبار المتضاربة والمتناقضة والشاذة أحيانا عن تاريخ العرب عموما وتاريخ الصحابة خصوصا. والتي نقلها لنا مؤرخونا على علاتها عبر مصادرهم المباشرة وغير المباشرة بقصدٍ أو بغير قصد ؟
ثالثا :التشيعات للآراء والمذاهب كما يسميها ابن خلدون في مقدمته و يضيف موضحا (إن النفس إذا كانت على حال من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله) ويستطيع الناظر لأول وهلة على بعض كتب التاريخ القديم والحديث أن يتعرف على الأثر الواضح الذي تركته التشيعات والميول على عقول كتابها وإن كانت نسبتها تختلف من شخص لأخر أحيانا.
رابعا: إن تاريخ الصحابة خصوصا غني بالأحداث والملابسات والحركة والفتن والحروب والفتوحات الانتصارات والهزائم سواء ماكان منه أثناء العهد النبوي أو ما كان بعده مما يجعل عملية إطلاق الأحكام على بعض المواقف والجزئيات بناء على التصورات السطحية التي توحي بها بعض الروايات حتى الموثقة منها عملية صعبة للغاية و تتطلب التوقف عن إطلاق الأحكام النهائية عليها والرجوع إلى مبدأ إحسان الظن بهم واستذكار أفضالهم ومن هنا نلاحظ تأكيد السلف وإجماعهم على عدم مشروعية الخوض في بعض التفاصيل التي تخص حروبهم والفتن التي حصلت في عهدهم حفاظا على مكانتهم ولعدم إعطاء الفرصة لأي احد من أن يطعن بهم أو ينقص من قدرهم والتركيز على حسناتهم الجليلة وفضائلهم العظيمة و ما أكثرها ورد تلك الأمور إلى صاحب الأمر العليم بكل شيء الذي لايخفى عليه شيء في السماء والأرض
ومن هنا كانت هذه الأخبار التي غصت بها كتب التاريخ بحاجة ملحة إلى إعادة النظر فيها من حيث الشكل والمضمون أو بتعبير أكثر دقة دراسة وافية لمتونها وأسانيدها ووضعها في السياق الذي يتلاءم وطبيعة المرحلة التي يراد دراستها وبشكل يعكس خصوصية تلك المرحلة بكل شخوصها وإحداثها ووقائعها وملابساتها وجوها العام السائد آنذاك وبالنسبة لتاريخ الصحابة يجب أن تكتسب هذه المعايير إبعادا أكثر دقة وموضوعية وإلزاما من خلال ضرورة اتساقها مع ما أجمعت عليه الأمة فيما يخص جيل الصحابة مما يفرض حتمية الابتعاد عن كل الروايات التاريخية المسيئة لهم ولعهدهم والتي تتناول حياتهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وبعده بصورة بعيدة كل البعد عن مكانتهم كرواد للأمة وأمنه لها كما جاء في الحديث الصحيح.
إن قضيتهم كانت ولا زالت تثير إشكاليات معقدة تجاوزت عند البعض إطارها الطبيعي كوجهات نظر علمية يُتوسم فيها أن تتناول الحقائق التاريخية وفق معايير ذاتية تدفع الباحث البحث عن الحقيقة وتحري الأمانة والصدق في بحثه ومعايير موضوعية عليه أن يتقيد بها ولا فقد بحثه مصداقيته وغائيته المنشودة. ومنذ القرن الهجري الثاني تقريبا ظهرت تلك الآراء التي تتناول الصحابة وتاريخهم بشيء من الاستخفاف والطعن البواح مما استوجبت من العلماء في كل حين ردودا تلاؤمها و تناسبها وتفحمها وتفضح أصحابها ونواياهم
ومنذ ذلك الحين والجدل مع تلك الفرق والآحاد متواصل جيل بعد جيل.
وإذا رحنا نبحث عن الدوافع التي تأز البعض للتشكيك والطعن بذلك الجيل المبارك وجدناها دوافع نفسية أو عصبية لجنس أو لقوم أو لمذهب أكثر من كونها تجليات لحقائق علمية يفرضها المنطق العلمي الرصين ومنطق العقل المستنير الخال من رواسب الماضي والحاضر.
إنها غدت بالنسبة لبعض الفرق برنامجا مقصودا وموجها ومحدد الاتجاهات والمعالم ومتسلسلا عبر مراحل التاريخ ومنذ القرن الثاني الهجري و إلا يومنا هذا وسيستمر كذلك على مايبدو الاان يقضي الله أمرا كان مفعولا!
وهذا البرنامج يسعى رواده لاختزال و تشويه تاريخ الأمة وسير الأصحاب والتابعين وتابعيهم والقرون المفضلة وكل ما يتعلق بالخلافة الإسلامية سواء كانت أموية أو عباسية وحتى العثمانية منها وللاصحاب على ما يبدو نصيب الأسد من هذا التوجه الأعمى باعتبارهم قاعدة الهرم في البناء العقائدي والفكري للأمة
وهذا الاختزال والتشويه يأخذ إشكالا تتلبس بلبوس العلم وهي منها براء من خلال :
الالتفاف على النص سواء كان قرأنا أو سنة صحيحة أو خبرا له قيمته العلمية أو معلومة تاريخية متسقة مع الإطار العام الذي رسمته الأمة لذلك الجيل المفضل وهذا الالتفاف يأخذ صورا متعددة ولكنها مقصودة لإثبات المراد أما بالتأويل غير المستساغ أو التفسير الشاذ الذي لايعرف له وجه صحة أو الذي لم يقل به إلا أحاد العلماء أو أشباههم وهو مخالف لما اتفق عليه جمهور العلماء الذين يعتد برأيهم .
أو باقتطاع جزء من حديث صحيح أو الاعتماد على روايات شاذة أو منكرة أو باطلة أو موضوعة أو ضعيفة أو صحيحة وذلك من خلال توجيهها خارج ما اجمع عليه أهل العلم أو ما تقتضيه دلالة اللغة ومنطق العقل السليم
أو تضخيم بعض الأحداث أو الجزئيات والاعتماد على الإسرائيليات و الروايات التي كتبها بعض مؤلفوها في ظروف غامضة أو مجهولة أو الاعتماد على كتب منحولة على أصحابها تسير في ذات التوجه أوالتعكز على بعض الكتب التي تعكس عناوينها ومضامينها هوية أصحابها والتي امتلأت بالغث والسمين من الأخبار والروايات التي يسير اغلبها في ذات التوجه لتلك الفرقة أو ذاك المذهب.والتي كتبت اغلبها بنفس طائفي خبيث يعكس حالة متجذرة من الحقد الدفين الذي لايمكن أن يكون وليد لحظته أبدا ؟
ومما يوسف حقا إن الكثير من الكتاب العرب وغيرهم أيضا قد وقعوا وهم يدرسون تاريخ الصدر الأول في حبائل تلك التوجهات التي جعلت الكثير منهم يطلق أحكامه المسبقة اعتمادا على ذاك الرصيد التاريخي الحافل بالمتناقضات والشبه التي امتلأت بها بطون تلك الكتب وراحوا يسخرون أقلامهم الجريئة في الطعن والتشكيك تدفعهم لذلك حماستهم المفرطة وقلة اطلاعهم والنفس الانتقائي الذي يستخدمونه في دراسة ذلك التاريخ وإسقاطات الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تعيشه بلدانهم لاسيما وان أكثرها كان أولا يزال حينها يعاني من أثار الاستعمار ومخلفاته وكذلك إيحاءات الحضارة الغربية التي بهرت العقول وخلخلت الكثير ومن الثوابت والقيم .
علاوة على ضعف المؤسسات الدينية وقتئذ وقصورها أمام تلك الهجمات الموجهة ويضاف إلى ذلك كله الثقة الزائدة ببعض التوجهات والأفكار والمذاهب التي تدس السم بالعسل من خلا ل اعتمادها خطابا فضفاضا يتبنى منهج الوحدة الإسلامية على حساب حقائق الأرض والتاريخ وإجماع الأمة.
ولعل المستشرقين أيضا وهم خدمة الاستعمار وطليعته الفكرية وغيرهم من التلامذة المخلصين لهم ساهموا من خلال أكثر كتاباتهم في تعكير الجو الإسلامي وبث سمومهم التي وجدت لها مع الأسف بعض الأذان المصغية والعقول المؤمنة وساهموا مع غيرهم في نشر تلك الأفكار الرجعية التي تطعن في تاريخ الأمة عموما وتاريخ الجيل الأول خصوصا .