لقد بنا علماؤنا رحمهم الله تصورهم لمفهوم عدالة الصحابة على عدة أسس:
أولها: دلالة اللغة لكلمة الصحابي وهي مشتقة من الصحبة  والملازمة من غير تحديد لمدتها طالت أم قصرت وجعلت هذه الدلالة اللغوية مُدخلا لتحديد معنى الصحابي اصطلاحا وإن اختلفت تعار يفهم بعض الشيء تبعا لاختلاف مشاربهم العلمية كأصوليين وفقهاء ومحدثين غير أنهم مجمعون تقريبا على إن الصحابي هو كل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة طالت أم قصرت ومات وهو مؤمن مصدق به

 ولكل كلمة من هذا التعريف المجمل دلالتها التاريخية واللغوية والعلمية والعقلية. والملاحظ هنا  في هذا التعريف التعميم في تعريف الصحابي جريا وراء عرف اللغة التي تقتضي ذلك  والسر في ذلك التعميم   كما يقول الأستاذ أبو غدة رحمه الله في كتابه لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث (نظرا إلى أصل فضل الصحبة وأما تفاوت من سيشملهم هذا اللقب في الفضل والدين وسائر خصال الخير فهذا  أمر  وراء ذلك )

ثانيا : تصورهم لمفهوم العدالة وهو نابع أيضا من دلالة اللغة  لمعنى العدل وهو الاستقامة والتوسط أو ما يضاد الجور ويعرفونها اصطلاحا بأنها ملكة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والاستقامة والمروءة
وبالنسبة للصحابة يكتسب هذا الاصطلاح معنى أكثر دقة وتحديدا فمعنى عدالة الصحابة كما يقول د. عماد الشر بيني في كتابه عدالة الصحابة: ( أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور).

ثالثا :  إن تصورهم لعدالة الصحابة  على هذا النحو لايعني سلخهم من طبيعتهم البشرية والانتقال بهم نحو عالم الملائكية المطلقة وإسباغ صفة العصمة   عليهم  بمعنى أنهم لايذنبون أبدا وهذا ما لم يقل بهاأحد من أهل العلم في القديم والحديث وأراد علماؤنا بذلك التأكيد على إن الغالب على طباع الصحابة كان الطاعة والتدين وتجنب المعاصي وتحري الحق والتمسك به  وفي هذا السياق يروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله ( لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلا ولو كان كل مذنب  عدلا لم نجد مجروحا ولكن العدل من اجتنب الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساويه )
على هذه الأسس الثلاث  بنا علماؤنا مبدأ عدالة الصحابة ولم يدخروا جهدا  للدفاع عنه وتأصيل الأدلة التي تثبته من الكتاب العزيز والسنة المطهرة والإجماع والعقل وتأتي بعدها كتب التاريخ والسير والتراجم غير إنها وكما قلنا في الجزء الأول من هذا البحث خاضعة عند هم لمنطق شديد الصرامة يخضع رواياتها وأخبارها كي تتسق مع أدلة تعديلهم الصريحة في الكتاب والسنة ومع ما اجمع عليه علماء الأمة منذ عهد التابعين وما دل عليه منطق العقل الرشيد الخالي من رواسب التعصب
    للعرق والمذهبية الضيقة والمعتقدات التي تخالف إجماع السواد الأعظم من الأمة.
.
إن هذه الرواسب هي التي فتحت باب الشر على مصراعيه يوم عشعشت في عقول البعض وقادتهم كي يحشروا عقولهم في زوايا ضيقة جعلتهم يضربون بالنصوص   الثابتة عرض الحائط  وجعلتهم كذلك يطوعون أقلامهم وألسنتهم من اجل خدمة مارسخ في عقولهم المريضة من أفكار وإن كانت تصيب دينهم في الصميم هذا إن كان لبعضهم دين أصلا.

ولسنا هنا في معرض تفصيل أدلة عدالتهم فهي مبثوثة في مضانها واضحة لكل من 
لكل من هدى الله عقله وقلبه ونكتفي هنا للإشارة لبعضها .

فقد وصفهم القرآن الكريم بأنهم (امة ٌ وسَطا ً) وبأنهم (خيرُ امةٍ أخرجَت للناس ) وقد
نقل غير واحد من المفسرين ومنهم الطبري أن المقصود هنا هم أصحاب رسول الله
عليه الصلات والسلام إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة التي تترضى عنهم وتبين فضلهم وبعض خصائصهم النفسية والبدنية والجماعية التي تؤهلهم لحمل الأمانة العظيمة .
  وجاءت السنة المطهرة  كذلك لتبين خصوصية ذلك الجيل وبأنه خير القرون المفضلة وبأنهم أمنة للأمة كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامان مسلم واحمد عن النبي عليه الصلاة والسلام ( النجوم أمنة للسماء فإذا هبت النجوم أتى السماء ماتوعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) ومعنى ذلك إنهم( أمان للأمة من البدع والحوادث في الدين) كما قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث.
إلى غير ذلك من  الأحاديث  الصحيحة الصريحة التي تحرم سبهم وتحض الأمة على احترام مكانتهم والاعتراف بفضلهم  وتمنع اتخاذهم غرضا للتشفي والطعن .
ومن هنا كانت هذه الأدلة وغيرها مما يتصل بسيرتهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وبعده وعلى امتداد قرنهم المبارك مُعولا لإجماع الأمة على وجوب إحسان الظن بهم -  وإحسان الظن بالمسلم خلق إسلامي أصيل فكيف به مع صحابة الرسول- وجاء تأكيدهم كذلك رفعهم إلى حيث المكانة التي أرادها الله تعالى ورسوله لهم  وبما لايدع مجالا للشك والارتياب .
 يقول الخطيب البغدادي رحمه الله في  كتابه الكفاية في  علم الرواية (إنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين : القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء).
وقد استجدت بعد عهدهم - رضي الله عنهم - عوامل وظروف كانت أسبابها بعض تلك التداعيات المؤلمة التي حصلت أيام الفتن التي حصلت بينهم والتي ابتدأت شرارتها قبيل مقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – والتي ضلت  تتوالى فصولها إلى نهاية عهدهم ولكنها أخذت بعدهم شكلها الحقيقي وغدت منهجا مدروسا تولى كبره بعض الأعراب والموالي ومن غير العرب ومن أمثال هؤلاء ابن سبأ رأس الفتنة والمختار بن عبيد الله الثقفي ت67ه والمغيرة بن سعيد ت119ه وجابر الجعفي ت 128 ه وابن السائب الكلبي ت146 وعبد الله بن وهب الراسبي وآخرون   أيضا والذين وجدوا لهم في بعض أقاليم الدولة الإسلامية كالكوفة والبصرة وخراسان غيرها بيئة طبيعية كي ينشروا سمومهم وأفكارهم التي تشوه حقيقة ذلك الجيل العظيم من خلال تسويق الدعاوى الباطلة التي وجدت لها في قلوب بعض الرعاع مكانا ومنهم تسربت إلى كتب التاريخ والسير مع إن دورهم الهدام لم يقتصر على هذا الجانب بل امتد لكل ما يتصل بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا .
 وهكذا ومع توالي الأيام أصبحت هذه القضية من الأمور الخطيرة التي استدعت من علماء الأمة بعد القرن الأول يقظة وحزما ولا عجب أن تكون هذه القضية أي الموقف من الصحابة من الأمور التي  تصدى لها علماء الأمة لاسيما أئمة أهل البيت العلوي دفعا للشبه وإحقاقا للحق وكذلك أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم و( الذين لهم في الأمة لسان صدق) كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان .
إن الموقف من الأصحاب كان عند هؤلاء الأئمة من أمهات مسائل العقيدة التي  تبحث عندهم شانها شان مسائل التوحيد والأسماء والصفات والإيمان والقدر والكلام وملخص اعتقادهم في هذه القضية الترضي عنهم جميعا والثناء عليهم دون تفرقة وفاءا لهم واعترافا بفضلهم وسابقتهم في الإسلام والنهي عن الخوض في الفتن التي لابست عهدهم ورد تلك الأمور إلى الله جل وعلا .     
وثمة حقيقة مهمة  أخرى وهي إن بعض المهتمين و الباحثين والمختصين بالقضايا التاريخية في هذا العصر وقعوا وهم يدرسون تاريخ الإسلام ولا سيما تاريخ الصدر الأول في خطأ التعميم والسطحية وانطلقوا من موقع الناقد المتجرد كما يصورون لنا وقد وضعوا تاريخ أمتهم على طاولة البحث و التشريح ولم يقيموا أية حواجز طبيعية بين أي عهد أو فترة ومن هنا تعاملوا بانتقائية واضحة وأحيانا مفرطة مع الروايات
  والإخبار التاريخية لاسيما ما يتعلق منها بالصحابة على وجه الخصوص متأثرين كما قلنا بإسقاطات الواقع السياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي علاوة على عوامل ذاتية أخرى تتعلق بشخوصهم وطبيعة المكانة العلمية  وما يفرضه  أحيانا النفس الأكاديمي البحت السائد اليوم و وكذلك الإيحاءات العقائدية المذهبية والجهوية  ومن هنا جاءت جُلّ كتاباتهم وطروحاتهم وأبحاثهم تحمل معها عدة علامات استفهام عن دوافع ما قرروه في كتاباتهم وأبحاثهم ومدى اتساق ذلك مع الحقائق العلمية التي تعاملوا معها كما قلنا بانتقائية شديدة إما جهلا وإما تخوفا أو لأنهم لايريدون الاقتراب من بعضها  لاسيما تلك التي  تستند  في مصدريتها إلى الوحي المنزه والسيرة الصحيحة لان ذلك  قد يدخلهم في إشكالات معقدة هم أحوج ما يكون للابتعاد عنها وهم على ما يتصورون اختاروا الطريق الأسلم والاحوط .
ولسنا هنا من موقع المشكك بعقائد بعض مفكرينا ولا الطاعن بهم أو المقلل من قيمة جهودهم العلمية غير إني كغيري وجدت نفسي وقد قرأت ما كتبوا ازداد حيرة وشكا ويضطرب حالي واجد نفسي بحاجة ملحة كي اخرج من هذه الدوامة وربما ساورني الشك المركب وانأ أحاول إن أقارن بين ما يصوروه لنا بناءا على استنتاجاتهم المبنية على الاعتماد على  المتن المجرد للرواية التاريخية ويجعلونه مدخلا للغوص في الأعماق  والحكم على السرائر و إطلاق الأحكام عليهم أفرادا وجماعات   من غير تحفظ ولا تمييز ولا اعتبار لمكانة أو لخصوصية يفرضها الدليل الذي لا يتطرق له شك إذا ما قورن بغيره ويفرضه إجماع الأمة منذ أربعة عشر قرنا ويفرضه كذلك منطق العقل السليم  .
والمؤسف حقا أن بعض الفرق التي نأت بنفسها عن إجماع الأمة  أخذت هذه القضية عندها أبعادا أخرى تجاوزت كما قلنا الدوافع العلمية واتخذت مسلكا موجه يحارب أصحابه على عدة جبهات تحت عناوين فضفاضة ومنها البحث في نظرية عدالة الصحابة ولا يخفى على احد ما لهذا العنوان من دلالات واضحة المغزى ومنها كذلك ما يبحث في فصل مدرسة أهل البيت وأتباعها عن سواد الأمة الأعظم بعلمائها وعوامها وكأنهم أناس من ملة أخرى غير ملة محمد عليه الصلاة والسلام.
 واتخذوا لذلك  المسلك عدة توجهات، فمنهم من يرمي الصحابة بصريح الطعن والتشكيك جملة واحدة من خلال عد أساليب تفتقر للموضوعية وتنقصها العقلانية وسلامة النية ومنهم من يركز على بعضهم ويصب جام حقده عليه لاسيما منهم من كان له باع في السياسة والحكم أو الفقه أو الحديث أو المعارك والفتوحات أو  من كان له دور في الفتنة التي حصلت في عهد الصحابة فتراه يستدر الأدلة ويجترها من هنا وهناك حتى من مخالفيه كي ينصر رأيه  غاضا السمع والبصر عما يخالف رأيه وهذا الأسلوب الماكر يعتمد الحيلة فأصحابه يعلنون أنهم لا يقصدون كل الصحابة بل بعضهم ويوهموننا بألفاظ مموهة  يريدون بها أن يثبتوا حياديتهم وهيهات أن يكونوا كذلك لااليوم ولاغذا ؟
 
وإذا ذهبت  تفتش عن الأسباب الحقيقية لهذه  التوجهات لوجدتها انعكاسا لتلك الرؤى المظلمة التي تجتر التاريخ وتعيش على فتات إخباره الواهية التي كتبها من أراد لها أن تكون حطبا للفتن و نقلها لنا مؤرخونا على علاتها مع إن بعضهم ألمح  إلى ما يخلي مسؤوليته عن مدى مصداقيتها من عدمها؟
لقد أصبح الموقف من صحابة رسول الله  عليه الصلات والسلام علامة أو حجة لبعض الفرق كي تميز نفسها عن سواد الأمة الأعظم ولكأني برسول الله عليه الصلاة والسلام يعلم بما علمه الله جل  وعلا أن هناك من يتصيد لأصحابه الزلة ويتسقط لهم العثرة ويغض الطرف عامدا عن بحار أفضالهم ومداد خيرهم ودورهم في تثبيت دين الله ونشره وحمايته ومن هنا جاء قوله الكريم (لاتسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مد احدهم ونصيفه ) رواه مسلم . وقد وعى علماؤنا هذه النصائح الغالية وحفظوا لتلك الثلة الطيبة حقها وقدروا مكانتها ورعوا وصية رسول عليه الصلات والسلام فيهم لأنهم كما يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (برَك الإسلام –أي صدره –وعصابة الإيمان وعسكر القران وجند الرحمن أولئك أصحاب رسول الله اليَن الأمة قلوبا وأعمقها علما واقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها إيمانا وأعمقها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة)
وحري بكل مسلم أن يعي هذا الحقائق التي هي صلب عقيدته وان لايلتف إلى الباطل وأهله وان يكون حبه لهم  وسيلة لنيل رضي الله جل وعلا  ولله درُ أبي بكر ابن الطيب حين انشد :

إني رضيتُ عليا قدوة ًعليا ً**** *   كما رضيتُ عتيقا صاحبَ الغار ِ
وقد رضيتُ أبا حفص ٍوشيعته ****   وما رضيت بقتل ِالشيخ ِفي الدار ِ
كلُ الصحابة  ِعندي قدوة ٌعلم  ٌ*****     فهل علي بهذا القول ِمن عار ِ
إن كنت َتعلم ُ أ ني لا أحبهم ُ  ******    إلا  لوجهك فأعتقني من النار ِ

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية